من الذكريات المرتبطة بشهر رمضان والتي لم تفارق خيالي قط، ولن تفارقه عوض تلك التي كانت في طور الشباب، وفي الشباب يطيب السهر والسمر، فيه الحرية والانطلاق، فيه المجازفة والمخاطرة، وفي شباب كل منا ذكريات أو في صباه ذكرياته التي تأبى ألا تفارقه.
وفي ذلكم الشهر تتضاعف الرغبة في السهر؛ فمعظم الناس ينتظرون وقت السحور وصلاة الفجر، ثم تلاوة القرآن حتى الضحى، كنا نعتبر رمضان فرصة نتقرب بها إلى الله تعالى، وفي حديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – الذي رواه البخاري (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان؛ مكفرات ما بينهن إذا اجتنبَ الكبائر )
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ورمضان إلى رمضان) أي أن الله امتن على عباده بأن جعل لهم شهر رمضان موسماً سنوياً يتزودون فيه من الطاعات، ويغترفون فيه من الحسنات، ويتوبون فيه من الخطيئات، فيغفر الله لهم ما اقترفوه خلال السنة من صغائر الخطايا، فمن صام رمضان إيمانا واحتساباً وقام بفعل ما أوجب الله عليه فيه وترك ما نهى الله عنه، ومع ذلك قام بفعل المندوبات والمستحبات وأكثر من نوافل العبادات، وترك المكروهات فإن الله يغفر له ما تقدم من ذنبه من صغائر الذنوب والسيئات، والله ذو الفضل العظيم، وقد جاءت بتأكيد ذلك أحاديث كثيرة فمن ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه).
وأذكر أني كنت أجتمع وأصحابي نخرج ليلا في رمضان بعد صلاة العشاء والقيام نتمتع بهواء بلدتنا العليل؛ فهي تقع في حضن فرع رشيد للنيل الخالد، وهي بلد ساحلي تقع على النيل من جهة وعلى البحر المتوسط وبحيرة البرلس من جهة أخرى، كنا نطوّف في عالم الثقافة والأدب والشعر، كان معظم أصدقائي من الأدباء، بعضهم يقرض الشعر، وبعضهم يكتب القصة والقصيرة، وكنت – منذ خلقني الله – أميل للنقد وأرى في نفسي وريثا لشيخي العقاد، ورثت الرجل قسوته، وحدة لغته، وإخال أن أسلوبي الآن قد مال للاعتدال وتخليت عن حدة اللغة؛ مراعاة للعلاقات الاجتماعية؛ وحفاظا على مشاعر الآخرين، ولما قرأت المازني في شبابي ترك فيّ هذا الأسلوب الساخر الذي لم نجد له مثيلا في أدبنا العربي، كنت مفتونا بالرجال الثلاثة: العقاد والمازني وشكري؛ ومن عجيب الأمر أن الأخير لم يترك أثرا في كتاباتي يذكر؛ رغم أنه مقدم - لديّ - على الآخرَيْن حين تركا على أدبي وكتاباتي حتى الآن بصماتهما التي لا يمحوها الزمن، وأعترف – إن كان لذلك جدوى – أنني ظلمت الرجل حين لم يكن له من كتاباتي نصيب، وأرى في ذلك عقوقا كبيرا، واللهَ أسأل أن يغفر لي هذا الإثم.
كنا نقضي ليلنا كله جميعا في مثل هذه المناقشات البديعة، وكان رفاقي عندما يحاولون إغاظتي يذكرون أمير الشعراء أحمد شوقي ويمجدون في شعره، ويعلون من قدره ومنزلته في الشعر العربي، نكاية فيّ وفي العقاد، وكنت – وما زلت - سريع الغضب خصوصا عندما يتعلق الأمر بالعقاد، وهم – أعني رفاقي – يفعلون ذلك لأروي لهم من قصص العقاد ما لا يعرفونه ولم يسمعوا به إلا مني إنصافا للشيخ، وكان النقاش يعلو ويهبط حسب حالتي النفسية، يرتبط ذلك بمقدار استفزازهم لي، ونظل نفعل الأمر نفسه طوال رمضان، يُعد كلّ منا قصيدة أو قصة نقلب وجهات النظر فيها، وربما أحضر أحدهم ديوانا لأبي الطيب أو لجميل بن معمر أو غيرهما من شعراء العربية، ونختار من هذا الديوان أو غيره قصيدة نتبارى في إلقاء الشعر أولا؛ ثم نتناولها بيتا بيتا بالشرح والتحليل وذكر محاسن كل بيت أو ما نأخذه على الشاعر من عيوب كما نظن ذلك في شبابنا؛ لقد كنا أو قل: كنت (أنا) أرى في نفسى قاضيا، ولي الحق – وحدي - دون غيري في الحكم للشاعر أو الحكم عليه.
وعندما يحين السحور نعود إلى بيت من بيوتنا لنتناول السحور، وقلما تناول أحدنا السحور دون رفاقه؛ فاليوم نحن في بيت فلان، وغدا في بيت آخر وهكذا دواليك، حتى إذا انتهينا أعدنا الكرة من جديد، بعد تناول السحور نذهب لصلاة الفجر، وبعدها يذهب كلّ منا إلى بيته ليقرأ ورده من القرآن، ثم يذهب للنوم، ونبدأ يوما جديدا وقصيدة جديدة، وثورة جديدة على شوقي، وحكايات جديدة عن العقاد رحم الله العظيمين: العقاد وشوقيا، وما أجمل ليالي رمضان!
أخبار متعلقة :