بوابة صوت بلادى بأمريكا

د.محمد فتحي عبد العال يكتب : تاريخ حائر بين بان وآن .. الحلقة الثالثة الجزء الثاني

 
ث. عمدة المصريين في لندن
إنه الاستاذ قرياقص ميخائيل المراغي والذي بدأ حياته صحفيا ومراسلا مستقلا بمصر  لينتهي به المطاف إلى لندن حيث قضى فيها الشطر الأكبر من حياته حتى سمي بعمدة المصريين في لندن وقد خصص بيته ليكون ناديا لهم . هناك لم ينس أبدا قضايا وطنه وأمته ومثل ضميرها الحي في كثير من المواقف فدافع عن حقوق العمال المصريين العاملين بالسفن الإنجليزية وقادهم في مظاهرة أمام البرلمان كما احتج على الحماية البريطانية على مصر عام 1914 وفي خضم ثورة 1919 كان لسان مصر المدافع عن قضيتها واستقلالها في لندن ففي ديسمبر عام 1919 قاد مظاهرة وسط شوارع لندن وصلت إلى حديقة هايد بارك وهناك ألقى كلمة معرفا بالقضية المصرية ومنددا بالممارسات الاستعمارية وكتب نحو مائة مقال باللغة الإنجليزية عن القضية المصرية العادلة..وبسبب مواقفه تم اعتقاله وترحيله لمصر حيث استقبلته جماهير مصر بالمحبة والعرفان واتهم بعضويته في التنظيم السري لثورة 1919 مع عبد الرحمن فهمي وابراهيم عبد الهادي وكاد ذلك أن يوصله لمنصة  الإعدام لكن خفف الحكم وخرج بعد عدة سنوات ليعود إلى لندن مرة أخرى حيث أبدى معارضته لمعاهدة عام 1936..  ألف قرياقص كتابا بعنوان "مسلمون وأقباط تحت الاحتلال الإنجليزي" رصد فيه متاعب الأقباط في عهد الاحتلال ودور الاحتلال في انقسام المصريين داعيا للوحدة الوطنية بالبلاد  ..لكن الموقف الأبرز والذي للأسف نسيه التاريخ كما نسي ذكر صاحبه هو تدخله لدى هيلاسلاسي امبراطور الحبشة بطلب من وزير الخارجية المصري الدكتور محمد صلاح الدين  ووزير الاشغال عثمان باشا محرم  حينما هم هيلاسلاسي ببناء خزان على نهر  تانا يضر بحقوق مصر المائية في نهر النيل وكانت تجمعه بقرياقص صداقة متينة حيث استضافه وقت احتلال ايطاليا لأثيوبيا ومراعاة للصداقة القديمة تراجع هيلاسلاسي مبديا حسن النوايا وعدم تنفيذ أي مشروعات على النيل إلا بموافقة مصر ..
وفي الختام وحتى ندرك عبقرية هذا الرجل وحجم تأثيره شرقا وغربا فأنقل لكم ما قالته  عنه جريدة جلوز الروسية "أليس غريبا أن قبطيا يفوز بنشر آرائه في أنحاء العالم " وأنه بعيد النظر في فهم أن  "مستقبل بلاده يتوقف على العلاقات السياسية بين دول العالم "في مقارنة بينه وبين الروس الذي لايبذلون مثل هذا الجهد والمال في هذا المسعى وتمضي الجريدة متساءلة "ألا يحق لنا أن نكون في مستوى واحد مع هذا القبطي المصري في إدراك كيان الأمة وحياتها ".
 
ج. تجارة مع الله
اعترف بأن هذه السيرة رافقت يقظتي وغزت أحلامي لمرات عدة ...وكلما يداهمني لحظات من النسيان وسط مشاغل العمل أو البحث في موضوعات أخرى تعود تداعب خلدي مرة أخرى بإصرار وكأن لسان حالها يقول لي دائما تذكرني واكتبني فإذا بي هذه المرة أعقد العزم على العودة لملفاتي القديمة لست سنوات مضت لأعثر على صور ألتقطتها داخل مسجد ومدرسة صاحب هذه السيرة العطرة المرحوم عبد العزيز باشا رضوان رجل الأعمال العصامي الذي بنى نفسه من الصفر وصاحب الجهود العظيمة في أوجه الخير فبالإضافة لهذا المسجد والمدرسة والسبيل الملحق بهما بنى 26 منزلا بكفر النحال لأقاربه بشارع يحمل اسمه ..
حتى أنني في الأجازة الأخيرة إلى مصر كنت قد أهديت كتبي لدار الكتب العامة الكائنة بجوار مديرية الزراعة خلف مبني المحافظة بالزقازيق ودائما ما اهتم بمعرفة تاريخ أي منشأة أزورها من باب الفضول التاريخي لأجد أن عبد العزيز رضوان كان من النخب المؤسسة لها في مقرها القديم بجوار كنيسة الشهيد البطل مار جرجس علي كورنيش المدينة ..
 
ولنبدأ السيرة من البداية كما رواها صاحبها والذي ولد بالزقازيق لأبوين صالحين رقيقي الحال أخذ عنهما حسن الأخلاق والإلتزام بالقيم الدينية وبوفاة أبيه وهو في الثامنة من عمره تكفلت به جدته لوالدته والتي ألحقته بالمدرسة الإبتدائية المجانية ثم بعد ذلك للأزهر حيث تتلمذ على يد الإمام محمد عبده لكن بوفاة الجدة بدأ يضيق به الحال فترك الدراسة وبدأ يشق طريقه نحو العمل فالتحق بالعمل لدى تجارة الحاج على مكاوى مقابل ثمانون قرشا راتبا شهريا وفي عام 1895 حدث تحول كبير في مجرى حياته بتحوله للعمل بالأقطان قبانيا وجمع بينها وبين تجارة الحبوب في غير موسم الأقطان ... وأصبح يتقاضى اثنين جنيه شهريا من الروكية أي رابطة القبانية بحكم حداثة عمره "ربع راجل في عرفهم" فجعل وجهته أن يصبح بمائة رجل وقد كان ..
 وتنوعت تجارته في غير موسم القطن بين الترمس الناشف والبطيخ يجلبهما من دمياط ويبعهما بالزقازيق  والثلج حيث يشتريه من المصانع ويوزعه على المقاهي بالزقازيق..
كانت تجارته بالقطن بكميات بسيطة يشتريه ويحلجه ويشحنه إلى مينا البصل بالإسكندرية ومن مدخراته البسيطة اشترى بيتا لكن سرعان ما مني بخسارة جعلته يبيع البيت سدادا للديون وتولى البيع أمين باشا الشمسي (سنأتي على ذكره) ...مصاب فادح لكن لم يفت ذلك في عضده  فضم أخيه الحاج إبراهيم لتجارة  القطن ويعلل ذلك بكونه ثاقب النظر حسن التدبير وتوجها معا للخواجة أربيب صاحب محلج فأقرضهما 400 جنيه فاشتغلا مجددا وحققا ربحا 5000 جنيه ..
ذكاء الأخوين دفعهما لتغيير وجهة نشاطهما الإقتصادي فارتحلا إلى سواكن بالسودان عام 1907 وهناك كان يشتريان القطن ويحلجانه هناك ثم يصدرانه إلى ليفربول بإنجلترا أما البذرة فكانت تصدر إلى مدينة (هل) الشهيرة بصناعة الزيوت وفي عام 1909 يموت الشقيق تاركا ابنه الذي مال للإنفصال عن عمه لكن سرعان ما خسر ماله فعاد إلى عمه الذي أكرمه وأشركه في ماله من تجارة وأراضي وعقارات عن طيب خاطر منه ..
ويبدأ عبد العزيز باشا في معترك التمصير وأولى خطوات الرأسمالية الوطنية بشرائه محلج أربيب عام 1915  وأنعم عليه الملك فؤاد بالبكوية عام 1918 كما زاره الملك فؤاد عام 1921 وتفقد مصانعه وزار منزله ووضع حجر الأساس للمسجد والمدرسة وأوقف عليهما عشرة أفدنة ودكاكين ومنزل لصيانتهما..وأقبلت الدنيا على الرجل المثابر المكافح فأصبح عضوا بمجلس الشيوخ عن دائرة هيهيا عام 1924 ثم عضوا بمجلس النواب عن بندر الزقازيق عام 1938 وأنعم عليه الملك فاروق بالباشوية ...
ويلخص الرجل سيرته الطيبة والمراد من كتابتها "وهكذا أراد الله سبحانه وتعالى لمؤسس هذه المدرسة أن يصبح من كبار تجار مصر بعد أن كان عاملا رقيق الحال" وفي هذه السيرة حافزا للشباب على الجهاد في معترك الحياة والثبات في ميدانها واحتمال نوازلها والجلد لكوارثها والأمل في الفوز والنجاح ..
ويقدم لنا عبد العزيز باشا دروسا أخرى في النجاح ففي تقرير نشرته مجلة كل شىء والدنيا عام 1935 تحت عنوان " كيف نجحت في أعمالي المالية ؟ آراء لبعض كبار رجال المال في مصر " وكان من بينهم فقال أن أكثر ما نفعه لتحقيق النجاح هو "عدم المغامرة فإن السوق غير مأمونة ومن الخطأ أن يغامر التاجر فيها ويلقي بنفسه في البحر دون أن يعلم متى تهب العاصفة وتضطرب الأمواج "إضافة لحسن السلوك وصدق العزيمة وأن الحياة الناجحة هي نتيجة السلوك الشخصي للمرء إذا استثنينا المصادفات التي يضمرها الغيب.
ثمة تاجر آخر من الزقازيق هو خليل عفيفي خليل من المساهمين في انشاء دار الكتب العامة بالزقازيق ومقبرته تقع بالقرب من مقبرة عبد العزيز باشا رضوان بالزقازيق وهو من  المبادرين لإدخال صناعة الورق بمصر عبر مشروع مفصل تقدم به إلى السلطان حسين كامل وتحدثت عنه اللطائف المصورة عام 1916 ..بلغ هذا الرجل من المروءة والشهامة مبلغا لا يضاهيه فيه إلا القليل إذ اضطلع بمهمة نقل جثمان الزعيم محمد فريد من ألمانيا إلى مصر وأنفق على الرحلة كلها من ماله الخاص وبجهوده الشخصية ويقال أنه كان يملك محلا للتجارة بالمنتزة وقد باع عمارته التي عرفت بعمارة حتحوت من أجل هذا الغرض النبيل وتحمل مشاق جمة استغرقت شهور على الأراضي الألمانية  في سبيل ذلك منها مظاهرات بالبلاد كما أصيب بالتهاب رئوي حاد وفي  النهاية فوجىء  أن القانون الألماني لا يسمح بنقل الجثامين المتوفاة على أراضيها لخارج البلاد وبمعاونة الدكتور عبد العزيز عمران وإسماعيل بك النقيب أصدقاء الفقيد واستغلالا لمبدأ المعاملة بالمثل  تصادف في نفس الوقت أن سمحت ألمانيا لفرنسا في استعادة  جثمان جندي لها مات في الحرب العالمية الأولى مما سهل من خروج جثمان فريد لمصر ..مصير مؤلم لزعيم قدم حياته وماله فداء الوطن فنسيته الحكومة المصرية  فيما لبى النداء لرد الجميل شهامة تاجر من الزقازيق وقد كرمه الأمير عمر طوسون رئيس لجنة استقبال الجثمان بخاتم خاص ....
 
 
* د.محمد فتحي عبد العال
كاتب وباحث وروائي مصري

أخبار متعلقة :