لدى كل إنسان ذكريات لا يستطيع الفرار منها؛ فهي مكون رئيس من مكونات شخصيته، منها ما يرسم بداخله السعادة، ومنها ما يظل سببا في أحزانه التي قد تؤثر في مسار حياته.
نشرت قصيدة لأحد الشعراء- وهم كثير ولله الحمد والمنة - أمس على حسابي الخاص، فظن أصدقائي أن أمس هو ذكرى مولدي، فكتبت هذا التعليق:
الأصدقاء والصديقات، بعد تقديم الشكر لكم جميعا أدعو الله أن يحفظكم لنا؛ بيد أن ثم توضيحا بخصوص يوم مولدي، وهو أنه يوافق الثامن والعشرين من شهر مارس – لا أعاده الله – ذلك الشهر الذي لم نبغض من الشهور مثله، وكم تمنينا لو حذفناه من ذاكرة السنين؛ فقد رحل فيه شيخنا وأستاذنا العقاد – طيب الله ثراه – الشهر الذي يجدد ذكرى رحيل عملاق العماليق وميلاد دعيِّ الأدعياء؛ وثمة فرق بين رجل كان له عظيم الأثر في نهضة أدب العربية، وبين رجل أساء للأدب والأدباء، والشعر والشعراء، والنقد والنقاد من لدن امرئ القيس حتى امرئ الفيس.
ولعلكم – أصدقائي – تقولون: إذن ما مناسبة هذا المنشور سامحك الله؟!
نقول والله عليم بذات الصدور: وجدت فسحة من الوقت اليوم – وهذا أمر نادر الحدوث في تلك الأيام – فأخذت أقلب في بعض قصائد الشعر المعاصر؛ لأنني بيَّتُ ودبرتُ ورتبتُ وجمعتُ كل قدراتي وثقافتي المزعومة، وشحذتُ كل أسلحتي الثلمة، وأخرجتُ من جعبة ألفاظي ولغتي الحادة الممجوجة ما لم يره أحد حتى وقتنا هذا؛ رغم أن بعض النظَّامين الندابين قد نالهم منى أذى؛ لكن - علم الله - ما في جعبتنا لتشيب له الصبية في المهود، وصدق حبيبنا ابن الرومي:
ألام لما أبدي عليك من الأسى
وإني لأخفي منك أضـعاف ما أبدي
أقول: فعلت كل ذلك استعدادا لنقد بعض الشعراء المعاصرين؛ هكذا أظن أني قاهر السلاطين جميعا، وهل عليَّ سلطان؟!! كما قال مولانا ابن خرج في بيته الشهير: وهل عليَّ أمير؟!!! ولن نذكر البيت، ومن يرد معرفته فامرؤ الفيس له حفيظ.
قرأنا قصيدة؛ رغم حفظنا لها؛ بيد أن الدهشة أخذتنا كأننا لأول مرة نقرأها، ونحن من ذلك الفريق الذي يرى أن الشعر الجيد هو الذي يفضي إليك ببعض أسراره في كل قراءة؛ وفي كل مرة تخرج بعد الغوص في بحوره وقد ظفرت بدرَّة جديدة تستحق عناء الرحلة. وصدق أستاذنا المازني – عطر الله قبره – حين يقول:
تفضي إليك بنجواها زمازمها
نمَّ الصباح بما يطويه إدجان
وبعض شعرائنا المعاصرين من هذا الطراز المحبب إلينا؛ فليس شعرهم بهذا الذي تقرأه؛ ثم تنساه وتنسى قائله بعد الانتهاء منه كما يقول أستاذنا أبو همام رحمة الله عليه، فليس فيه تلك النعومة والأنوثة كما في جل ما نطالعه في عصرنا، وسوف نقف طويلا مع تلك النماذج.
كنا نظن أن الأمر قد توقف عند هذا الشهر مع ذكرى رحيل شيخنا العقاد، وذكرى مولدنا؛ بيد أننا كنا واهمين الوهم كله؛ حيث توالت الذكريات مع هذا الشهر، وكأنه اختصارٌ لحياتنا وما مرَّت به من أحداث جِسام.
ولما أخذنا نسترجع تلك الذكريات مع هذا الدهر أو الشهر ونعني به شهر مارس مرَّ أمام ناظِرَينا في الآتي:
أول أيام هذا الشهر ولد شقيقي الذي أكبُره بعامين، وفي خامسه ولد شقيقي الأكبر الذي يكبرني بأربعة أعوام؛ فهو أكبرنا جميعًا، ثم في السادس من الشهر نفسه ولد شقيقي الذي يصغرني بستة أعوام، ثلاثة من أشقائي – حفظهم الله – ولدوا في الشهر نفسه، مع اختلاف عام المولد بداهةً، كل هذا كان مبشرًا بالتفاؤل بهذا الشهر، وما يحمله لنا من آيات السرور؛ فقد ولد فيه ثلاثة من خمسة أشقاء.
لكن السعادة لا تدوم، والحياة ليست نعيمًا دائمًا ولا شقاءً متصلًا؛ بل هي مزيج من السعادة والحزن، والمرء بين الحالين في كدٍّ وأمل. إن الحياة قادرةٌ على إيلام الإنسان وحرق قلبه وسحق جوانحه حزنًا على فراق من يحب.
لا يَكَاد هذا الشهر الذي كان يحمل معالم البشرى والسرور أن ينتصف حتى تحل ذكرى رحيل شيخنا العقاد في الثاني عشر أو الثالث عشر من هذا الشهر، كم تمنينا أن نرى الرجل! وكم بكينا لأنا حُرِمنا ذلك الفضل! بيد أنا عَوَّضنا ذلك بقراءته وقراءة ما كتب عنه: خصومه مبغضيه قبل محبيه، ووجدنا في كتبه نوعًا من السلوى لعدم لقائه، وما زلنا حتى الآن إذا اعتصرَنا ألمٌ هرعنا إليه نبثه ما بنا من آلام، ونشكو إليه مرارةَ الحزن، وقسوةَ الحياة، وظلمَ الناس؛ فنجد عنده العزاءَ لما نعانيه.
في منتصف هذا الشهر رحلتْ أمي وبرحيلها سقطت حصوني، ثم يجئ يوم مولدي في الثامن والعشرين من هذا الشهر (مارس)، وكم تمنينا لو حذفناه من إحصاء الشهور!! ولستُ أدري أهي الحكمة الإلهية التي قضت بأن أولَدَ في نهاية الشهر؛ لأكون شهيدًا على كل ذلك من أحداث؟
أحداثٌ ستة: ثلاثة تدعو للتفاؤل وهي: ميلاد شقيقي الذي أكبره بعامين، ثم ميلاد شقيقي الأكبر وهو يكبرني بأربعة أعوام، ثم ميلاد شقيقي الذي يصغرني بستة أعوام، وثلاثة تحمل معها حزنًا وحسرةً: الأول رحيل شيخنا العقاد، ثم رحيل أمي، ثم الحدث الجلل وهو مولدي؛ لأتجرع كل تلك المرارات.
ولا يزال في جعبة الأيام سهام جمعَتْها لنا، وهي في استعداد لرمينا حيث لا تخطئ أهدافها، ولستُ أدري ما خُبِّئ لنا، فهل تتوالي الحوادث في شهر مارس؟! رغم أن الرضا بقضاء الله وقدرِه هو طريق الإنسان الوحيد؛ ليعيش حياته سعيدًا مطمئنَّ البال، ودومًا نسَلِّم أن الأمور بيد الله الواحد، نتقبل كل ما نمرُّ به وكلنا يقين أن الله راحمُنا، ودائماً يختار لنا الأفضل.
يروى أن الإمام علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه - رأى أحد المبتلين فقال له: " يا عدي إنه من رضي بقضاء الله جرى عليه فكان له أجر، ومن لم يرضَ بقضاء الله جرى عليه فحبط عمله". فاللهم رضِينا بقضائك؛ بيد أن الحزن اعتصر مهجتَنا.