بوابة صوت بلادى بأمريكا

إدوارد فيلبس جرجس يكتب : محاكمة عزرائيل " 9 "

 
اندفعت إلى المطبخ وفتحت الثلاجة لتعد له بعض الساندويتشات، ابتسمت عندما وجدت فوق المنضدة زجاجة من النبيذ الفاخر؛ شمرت عن أكمامها لتعد لسهرة الوداع.
بدا العالم جيرارد كطفل صغير وهو منكبا على ابحاثه، ابتسامة جميلة حطت فوق شفتيه، بين التارة والأخرى يتجه نظره نحو سيلفيا وهي تهرول بين قاعة الاستقبال والمطبخ، تعد مائدة عامرة بالشراب والطعام ، قررت أن لا تبخل على هذا العالم العظيم  بلحظات من الحب قبل أن يغادر الحياة . لم تنس أن تقتطف بضع زهرات من الحديقة لتتوسط المائدة وشمعات تنتظر أن تُلقي بظلالها وتختلس النظرات عندما تُطفأ الأنوار. ألقت سيلفيا نظرة أخيرة على المائدة، شاع الرضا فوق قسمات وجهها. فوق أطراف أصابعها سارت نحو جيرارد لكى لا تزعج أفكاره حتى أصبحت خلفه، أحاطت خصره بذراعيها، ألقت برأسها فوق كتفه، التفت نحوها بعينين تشعان سعادة، نقر قبلة رقيقة فوق جبهتها ، سرى في أوصاله دفء أحس به يتحول إلى طاقة داخله تدفعه للعمل سريعاً للانتهاء من الخطوة الأخيرة ليكون بعدها المصل معداً للاٍستعمال . بعين قلقة تتابع مرور الدقائق والثواني خلال ساعتها، نظرة لا توحي بالاطمئنان عكستها عين العالم جيرارد، أثارت في داخلها المخاوف، اقتربت منه، نظر نحوها بعين يطل منها الحزن ، هز رأسه آسفاً ، أمسكت بيده ، حبات من العرق انعقدت فوق جبهته وقال:
- للأسف كنت أظن أنني سأنجح في أقل من ساعتين للوصول إلى المصل، لكن يبدو أن هناك شيئا غير مضبوط في حساباتي.                                                        
 بالرغم من التوتر الذي سيطر عليها، احتضنت رأسه بين كفيها، نقرت فوق جبهته بقبلة رقيقة، قائلة بصوت دافئ:
- لكنني واثقة بأنك ستنجح، أرجو أن ترتاح قليلاً، قدمت له كأساً وبعض الطعام، دفع الكأس إلى حلقه دفعة واحدة، أحاط خصرها بذراعه قائلا:                                         
- سأنجح بالتأكيد، لكن أعتقد أن الأمر لا تحكمه السرعة، أُجري تجاربي منذ سنوات طويلة، وكان يمكن أن يظل لسنوات أخرى، لولا القطعة الخشبية التي أرسلها معك الزاهد  فلا بأس لو تأخر الاكتشاف لعدة أيام أو أسبوع.
-  لا.. لا يمكن، لا بد من الانتهاء منه خلال ساعات.                                     
قال ودهشة تصاحب كلماته:
- ولماذا.. يجب الانتهاء منه خلال ساعات؟! 
تداركت تسرعها وأجابت:
- فقط لأني أخشى أن يصل إلينا هذا الطبيب الذي حاول أن يتخلص منك للحصول على المصل.
قال ونظرة شك بدت في عينيه: 
- أعتقد أنه لن يحاول أعادة الكرة في الوقت الحالي، لكن هل أنت متأكدة بأنك لست على علاقة بهم؟! 
ضحكت قائلة: 
- ستؤكد لك هذه القبلة بأنني لست على علاقة بأحد سواك. 
أعادت قبلتها ثقته بها وقال وهو يجذبها لتجلس بجانبه: 
- أرجو المعذرة، جميع الأمور اختلطت داخل رأسي، وربما يكون حنانك الدافق نحوي  أحد هذه الأمور. 
- أقسم لك أنه حنان صادق غير مفتعل، بل شعوري نحوك تعدى الحنان. 
أراح رأسه فوق صدرها كطفل صغير وقال:  
- لم أقابل في حياتي سوى الجفاف، وفجأة وفي وقت غير متوقع، أجد أمامي بحر من الحنان يغمرني، هذا لم أفكر فيه، ولم يأت بخاطري أبداً. 
نسيت أو تناست الساعات المتبقية له في الحياة، والمصل الذي يجب أن ينتهي منه، وراحت أصابعها تتخلل خصلات شعره المسترسل وقالت بحنان حقيقي وهي تسند رأسها فوق رأسه.                                                                                     
- يبدو أنك قاسيت كثيراً أيها المسكين. 
- قسوتي الوحيدة والتي لا تعادلها قسوة، في نشأتي التي كُتب عليها الحرمان من الحنان، أمي تركتني ورحلت عن الحياة وأنا في الثالثة من عمري وعندما كبرت وقابلت الفتاة التي ظننت أنها ستعوضني حنان أمي ، اكتشفت فيها قسوة تبلغ حد الشراسة ، باعتني عندما قررت السفر إلى أفريقيا . في أفريقيا تعرفت على فتاة سمراء كانت مثالاً في الرقة والأحاسيس والمشاعر المرهفة، تزوجتها، عشت معها بضعة أشهر وكأنها حلم، إلى أن أنجبت لنا طفلة رقيقة رأيت فيها السعادة في أجمل معانيها، ذات يوم والطفلة لم تكمل شهرها الأول، فوجئت بأن أمها التهمتها وأشعلت في نفسها النيران وعدت تسابق الريح بين الزروع ، لم تتوقف إلى أن تحولت إلى كتلة متفحمة . كانت هذه البداية، السؤال الذي أخذ يلح وأثار بداخلي دهشة لا توصف ، لماذا أقدمت على هذا السلوك الوحشي الجنوني  بالرغم من رقتها المتناهية ، كانت هذه الواقعة هي بداية دراستي التي انتهت إلى اكتشاف هذا الفايروس الغامض ، ومن ثم محاولتي لإيجاد المصل الواقي منه. 
انزلقت دموعها تبلل رأسه، فكرت أن تلقمه ثديها لتعوضه حنان الأمومة الذي فقده مبكراً، ثم تدعه ينهل الحب بين ذراعيها حتى يرتوي عوضاً عن خطيبة شرسة وخيبة أمل في زوجته السمراء التي حولها الفايروس إلى وحش لتغتال طفلتها وتنهي حياتها بطريقة بشعة. تذكرت زوجها وطفلها رونالد، هذه المرة تركته مع أبيه، بحجة أنها ستسافر بمفردها لأمها التي ساءت حالتها، زوجها لم يكن يعلم أنها تقوم بوظيفة عزرائيل، كانت تبتكر الأعذار لتغيبها عن المنزل  في رحلاتها لاقتطاف الأرواح ، شك زوجها أن تكون عادت لعشيقها القديم، لكنه عاد ونفى الفكرة تماما أمام اهتمامها به وحدبها عليه وعلى طفلهما  . أقلقتها فكرة أن تغمر العالم جيرارد بحنانها وحبها، فكرت فيها كخيانة لزوجها، لكن أمام الساعات القليلة المتبقية للعالم جيرارد في الحياة ، قررت أن تشبع أحاسيسه ومشاعره حنانا ، نظرت إليها كنوع من الثواب تغدقه على عالم تفاني وأضاع عمره من أجل اكتشافه للمصل الذي سيقدم خدمة كبيرة للبشرية ، ولما لا ، سيرحل جيرارد بعد ساعات قليلة ، وستنتهي علاقتها به ، ولن تترك أثراً يؤثر ويقلق ضميرها ناحية علاقتها بزوجها ، لماذا لا تدعه يرحل وابتسامة الرضا فوق شفتيه ، تنسيه تعنت الدنيا معه منذ إن كان طفلاً صغيراً . فلتهبه حنانا وحباً في هذه الساعات يعوضه عن سنوات عمره بالكامل. فجأة انتفض العالم جيرار وانتصب واقفاً على قدميه قائلاً: 
- لقد توصلت إلى النهاية، لقد نسيت أن أضيف الجزء الأخير من المعادلة الذي أملاه عليك الزاهد وأمليته أنت علىّ شفاهية، النهاية في هذه الخطوة، وسيكون بعدها المصل معداً للاستعمال. 
قالت وقد تورد وجهها: 
- وهل يهمك المصل أكثر من أن تجلس بجانبي؟!  
عاد سريعاً ونقر وجنتها بقبلة رقيقة وهو يقول ضاحكاً: 
- لقد قررت أن أتزوجك لأنعم بك لآخر لحظة في حياتي، وحتى أكون جديراً بهذا الحب، قررت أن أقدم لك المصل الذي قلت أنك تنتظرينه ، هدية وعربونا لحبي وإخلاصي؟                                                      
فرت الدموع من عينيها وهي تقول بلهجة حزينة: 
- من يدري.. من يدري!!    
 ربت فوق ظهرها هامساً في أذنيها بتأثر شديد لدموعها: 
- آسف يا حبيبتي إن كنت آذيت مشاعرك، فقط كنت أود أن أثبت لك، إنني أثق بك، وفي حبك لي. 
قالت وهي تحاول أن تتماسك وشبح ابتسامة فوق شفتيها: 
- كما تريد يا حبيبي، بالتأكيد سيسعدني جداً أن تصل لنهاية أبحاثك، ويخرج المصل للنور.                                                                                    
جلست فوق الأريكة، تراقبه وهو يمسك بالقلم ويدون بعض الملاحظات في أوراقه تارة وتارة يمزج المحاليل مع بعضها ويقربها من اللهب، شرد ذهنها بعيداً، في مقارنة بين البشر . البعض يمضي سنوات عمره في لهو ينتهي إلى لا شيء، والبعض يفني عمره من أجل أغراض نبيلة، تذكرت حياتها الماضية وخيانتها لزوجها، شعرت بالامتعاض من نفسها ، لملمت الثوب حول نفسها وكأن مجرد ذكرى هذه اللحظات  كاف لأن ينتزع الثوب ويتركها عارية . تنازعتها الأفكار، هل لو انتهى جيرارد من مصله، وكان هناك بعض الوقت وأذاقته من حبها، سيحتسب لها في خانة الخطأ أم الصواب ، هل سيكون الأمر بمثابة خيانة لزوجها تضاف إلى خيانتها السابقة، حانت من عينيها نظرة إلى وجهه وهو يبدو في براءة الأطفال  وخصلة من شعره المسترسل قد تهدلت فوق جبهته ، تذكرت ما قاله لها عن زوجته الأولى ، وقسوة الواقع الذي عاشه في تجربته مع زوجته الثانية . موجة من العطف هزت قلبها، شيء في داخلها يدفعها لأن تنهض وتحتويه بين ذراعيها، لتعوضه عن ما ذاقه من حرمان، قبل أن يغمض عينيه في رحلة النهاية وليذهب المصل للجحيم . لكن لو لم يكن المصل في غاية الأهمية، ما قال لها الزاهد أنه كان ينتظرها ليسلمها القطعة الخشبية المدون عليها الخطوة النهائية لاكتشافه. الأفضل أن تدعه لبحثه الذي أضاع سنوات عمره من أجله، وهو وحظه إن كان سيبقى بعض الوقت لتهمس في أذنه بأرق كلمات الحب أو تنتهي حياته على يديها، غفت وهي جالسة، استيقظت على صوته وصفقات يديه وهو يقول مهللاً:                                                                                      
- سحرك ألهمني يا فاتنتي، وانتهيت تماماً، والآن أصبح المصل معداً للاستعمال، لم يبق سوى أن نطير به أنا وأنت إلى أفريقيا، نحقن به هؤلاء المساكين. قفزت نحوه في سرعة، تمطر وجهه بالقبلات وتغسله بدموعها، ظنها دموع الفرح، لكن للأسف كانت دموع اللوعة والأسى، لم يتبق سوى خمسة عشرة دقيقة على موعد رحيله، أمسك بيدها وقبلها وجثا فوق ركبته قائلاً:      
- سيدتي هذه الأوراق بها كل خطوات صناعة المصل، وأي كيميائي مبتدئ يمكنه صناعته بسهوله لو سار على الخطوات المدونة، والقارورة بها عينة منه والاثنين أقدمهما عربون حبي اخلاصي لك مدى الحياة. 
أمسكت بيده وقبلتها، نهض وقبل أن يزيدها من كلماته التي تُسعر النيران بقلبها قالت وعيناها تنظران الأرض:      
- ما ستسمعه مني باختصار الآن، قد يظهرني أمامك بأنني امرأة قاسية القلب، متجردة من المشاعر والأحاسيس، لكن أقسم لك بأن كل كلمة تفوهت بها صادقة، وإنني أشعر نحوك بعاطفة دافقة ، ولو كان القدر سمح لك بامتداد العمر لكنت أحببتك لآخر يوم في حياتي، لكن للأسف ستنتهي حياتك خلال دقائق معدودة. 
نظر نحوها ووجهه ينطق بالدهشة قائلاً: 
- لا أفهم ما تقولينه، وأعتقد أنك تمزحين. 
- ليتها كانت مزحة، لكنها الحقيقة، أنا عزرائيل الذي سأنهي حياتك. 
أطلق ضحكة مجلجلة وهو يتقدم نحوها قائلاً: 
- لو أنت عزرائيل فمرحباً بالموت، دعيني أموت بين ذراعيك. 
عادت للخلف سريعاً والدموع تسابق بعضها، ونبراتها المحزونة تردد: 
- أقسم لك بأنني لست أمزح وهذه العصا الخضراء هي التي ستنهي حياتك. 
في ثوان جُن عقل الرجل، اندفع نحو الباب صائحاً: أرجوك.. أرجوك.. دعيني أعيش.. إنني أحبك.. سأقضي كل أيامي معك. هرول نحو الحديقة، استدارت نحو النافذة، فتحتها، رأت أقدامه الملتفة على بعضها في محاولة للهرب، ثلاث ثوان، اثنتين، ثانية واحدة، اتجهت العصا نحوه ، رقد بين زهور الحقيقة . أغلقت النافذة ولملمت الأوراق وأمسكت بالقارورة، تعمل وتتحرك كآلة، لكن الخنجر الذي اخترق قلبها يعاملها كإنسانة من لحم ودم، آلام العالم كلها تجمعت داخلها، خرجت للحديقة، جثت بجانبه، أزاحت الخصلة المتهدلة فوق جبهته وقبلته، هل تتركه بين الزهور، أم تعد له مرقده الأخير. 
وإلى اللقاء مع الحلقة القادمة؛
 
 
 

أخبار متعلقة :