إن أراد المرء أن يتعرف على مستوى أخلاق مجتمع من المجتمعات فما عليه إلا أن ينظر في المحتوى الذي تقدمه وسائل إعلام هذا المجتمع، وإذا أردنا أن نخبر المستوى الثقافي لمجموعة بشرية فعلينا كذلك أن نتعرف على الخريطة الإعلامية لهذه الجماعة، وإذا أردنا أن نسبر غور المستقبل، وكيف ستكون هذه دولة أو تلك بعد بضع سنوات أو بضعة عقود، فما علينا إلا أن نحلل المحتوى الذي يقدمه إعلام هذه الدولة أو تلك.
وكما هو معروف فإنه يُطلق مصطلح السلطة الرابعة (بالإنجليزية: Fourth Estate) على وسائل الإعلام عمومًا وعلى الصحافة بشكل خاص
ويستخدم المصطلح اليوم في سياق إبراز الدور المؤثر لوسائل الإعلام ليس في تعميم المعرفة والتوعية والتنوير فحسب، بل في تشكيل الرأي، وتوجيه الرأي العام، والإفصاح عن المعلومات، وخلق القضايا، وتمثيل الشعب.
ومنذ أول ظهورٍ مشهورٍ له منتصف القرن التاسع عشر، استخدم المصطلح بكثافة انسجامًا مع الطفرة التي رافقت الصحافة العالمية منذ ذلك الحين، ليستقر أخيرًا على معناه الذي يشير بالذات إلى الصحافة وبالعموم إلى وسائل الاتصال الجماهيري، كالإذاعة والتلفاز.
ولكن للأسف فإن تعبير «السلطة الرابعة» تعرض إلى فهم خاطئ في اللغة العربية، إذ يكثر ربطه بالسلطات الحكومية الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، باعتبار أن الصحافة -أو وسائل الإعلام عمومًا- هي سلطة رابعة نظير ما لها من تأثير؛ إلا أن السلطة المعنية في المصطلح، تبعًا لمن أطلقه أول مرة، هي القوة التي تؤثر في الشعب وتعادل، أو تفوق، قوة الحكومة.
يظل الإعلام - في تصوري - ،خاصة، في عالمنا العربي، أحد أهم الوسائل والمجالات الحاكمة والحاسمة في الثقافة: تكوينها، تحديدها، نشرها، الحفاظ عليها.
فبالنظر في حال المجتمعات العربية نعلم دون كثير عناء أن مستوى القراءة بها ربما يكون معدوما، فلو نظرنا في عدد الكتب التي تصدر في كل عالمنا العربي نجدها لا تقارن بما يصدر عن غيرنا من الأمم الحية المتقدمة فوفقا لدراسات التنمية الصادرة عن مؤسسة الفكر العربي في القاهرة فإنه تم تسجيل صدور كتاب واحد لكل 12,000 مواطن عربي بينما يصدر كتاب لكل 500 مواطن إنجليزي، وكتاب لكل 900 مواطن ألماني، أي أن معدل القراءة في العالم العربي لا يتجاوز 4% من معدل القراءة في انجلترا على سبيل المثال.
هذا الذي يعكس عزوفا شديدا لدى المواطن العربي عن الوسيلة الأولى والأهم لتحصيل الثقافة الحقيقية، وهو ما يعكس أيضأ ما يعانيه قطاع الثقافة بوجه عام، الذي، في رأينا، يصل لمستوى دونيٍّ يجب علينا - نحن المثقفين والكتاب - من ناحية، وكل المؤسسات المشتغلة في الحقل الثقافي، وكل المنشغلين بأمر الإنسان العربي من ناحية أخرى - أن نعمل قدر طاقتنا لحلحلة هذا الوضع الذي لا يليق بهذه الأمة التي تمتلك من الطاقات البشرية في جميع أقطارها، ما يجعل الأمل يظل كائنا في أعماق أعماقنا في تغيير ذلك الوضع إلى الأفضل.
وإذا أردنا أن نبحث عن طرف خيط نتلقفه، لنبدأ منه مسيرة ثقافية صحية، فهو لا شك لدينا، ليس في وزارات الثقافة، ولا التربية، ولا غيرهما من وزارات هدفها الأول هو الثقافة ومضمونها، ولكنه، في رأينا، هو الإعلام، لا لشيء، سوى لأنه الأكثر تأثيرا في جموع شرائح المجتمع العربي، فمجتمع حاله، كما شرحناه، آنفا، في الوسيلة الأولى لتحصيل الثقافة، فلابد أن يتم اللجوء إلى وسائل أخرى فاعلة، بالإضافة إلى القراءة التي تظل أمام أعيننا بطبيعة الحال، لنضيف السمع والرؤية لها، ذلك السمع وتلك الرؤية التي يجب أن يكونا عاكسين للمستوى المطلوب من الثقافة المبتغاة، والشارحة في رقيٍّ وتشويقٍ لهذا المستوى الثقافي، الذي يجب ان يتم الاتفاق عليه، ولا يسمح بالنزول عنه بحال من الأحوال.
إن المتابع لما يتم عرضه من خلال الإعلام العربي، فإنه يصيبه الكثير من الإحباط والعظيم من الاشمئزاز، فليس مقبولا أن تمتلئ الساحة الإعلامية بالغث، ولا معقولا أن ينشر الإعلام ذلك المستوى الثقافي الذي لا يسمن ولا يغني عن جوع، في ذلك الوقت الذي بتجاهل الثقافة الحقيقية، والتناول العميق الذي يحلل الأشياء، ويسبر أغوارها ولكنه يكتفي -إلا من رحم ربي - بالتافه من الموضوعات وبالسطحي من المعالجات، وكأني بمن يقومون على العديد من وسائل الإعلام وقد تعمدوا تجهيل الشعب، وتغييب عقل الأمة.
وإذا أردنا دليلا يمشي على قدمين لما نذهب إليه، ونظن ظنا يقترب من اليقين في أنه فعل مقصود، بل يُعْمَل على تحقيقه بعناية، فتعالوا نبحث في إعلامنا العربي، عن إلقاء الضوء عن مفكر حقيقي، وأديب موهوب، ومثقف كبير، أعني كل الإعلام العربي، وليس الإعلام في قطر من الأقطار، والذي أزعم زعما، هو إلى اليقين أقرب، أنه أيضا لا يقدم من أدباء الأقطار ومفكريهم إلا ما أسلفنا ذكره، ونحن هنا نتساءل: كم برنامجا يقدم النماذج العربية المتميزة في البلدان العربية؟ كم مسلسلا يتناول حياة المواهب العربية المختلفة؟ كم سهرة تم تخصيصها لمفكر أو فيلسوف عربي؟
إن التعويل، كما هو الحال في دول العالم المتقدم، على الإعلام الخاص في عالمنا العربي هو ضرب من خيال مستحيل أن يتحقق، فهذا الإعلام الخاص في أغلبه يستهدف في كل ما يقدمه المتلقيَ الراهن الذي نسعى نحن إلى تغيير مكوناته الثقافية واهتماماته الأدبية، ورغباته من الأعمال الفنية، فأغلب الإعلام الخاص في عالمنا العربي، لا خريطة ثقافية لديه، ولا أهداف قومية يمتلك، بل كل ما يعنيه هو نسبة التوزيع وعدد المشاهدين، ومن هنا فهو يخاطب هؤلاء الذين تم تشكيل وعيهم وثقافتهم من خلال مؤسسات ثقافية وإعلامية ودينية واجتماعية مهترئة هي والفشل سواء بسواء.
إذًا ليس أمامنا - وهو بالأمر القليل - سوى قلة نادرة من الإعلام الخاص والحكومي، والذي في جزء كبير منه ينهج نفس النهج السابق ، لتضيق المساحة التي يمكننا أن نعوّل عليها في إعلام جاد، ذلك الذي يضع على كاهلنا العديد من التبعات والكثير من الواجبات، ويضع على كاهل الدولة العظيم من المسؤولية، إذا أرادت مساعدتنا، هذا الذي لن يتحقق إلا إذا وفرت للمثقفين العرب الكثير من الإمكانات، وحجزت لهم الواسع من المساحات، وسنت القوانين التي تفرض على الإعلام تقديم محتوً هادف، وتفرض فرضا المثقفين الواعين الذين يمتلكون رؤية وطنية وقومية على هذه المؤسسات الإعلامية: الحكومية والخاصة على حد سواء.
وللنهوض والرقي بالإعلام علينا أن نأخذ بالأسباب والتي على رأسها منح الصحفي الحرية المطلقة وعدم رسم خطوط حمراء على السلطة الرابعة، هذا الذي يعني أن تكون المسؤولية نابعة من داخل الصحفي فيما يقدمه من مواد إعلامية.
بالإضافة إلى الأهمية البالغة في اطلاع شباب الإعلاميين على طريقة التفكير والعمل في البلدان الأخرى، وعلى التحديات التي تواجهها هذه البلدان. ولابد من التعرف على تجارب المدارس الإعلامية المختلفة،
وهناك أهمية قصوى لضرورة الاعتماد على الكفاءات الإعلامية المتميزة مُنحِّين جانبا الوساطة المقيتة ليتصدر المنصات الإعلامية المختلفة أنصاف المتعلمين ومعدومو المواهب كما هو الشأن الآني.
ومن نافلة القول التأكيد على أهمية أن ترفع الأنظمة العربية يدها تماما عن الإعلام ليصبح بحق مرآة الواقع من ناحية، ويلعب دور الناقد الناصح والذي يعرض الوجه الآخر من الصورة لتكمل أمام صانع القرار العربي ليتخذ قراراته عن وعي كامل وفهم تام للواقع والظروف جميعا.
أخبار متعلقة :