هو شيخ الأزهر الثاني والعشرين في الترتيب على مدار القرن العشرين، والترتيب رقم تسعة وأربعين على مستوى أصحاب الفضيلة شيوخ الأزهر منذ بداية تأسيس المشيخة في القرن السابع عشر.
السيرة الشخصية:
وُلِدَ فضيلة الإمام الأكبر الدكتور محمد سيد عطية طنطاوي بقرية سُلَيم الشرقية مركز طما بمحافظة سوهاج في 28 أكتوبر سنة 1928م.
منذ طفولته، جنده والده لطلب العلم، فأرسله يحفظ القرآن الكريم وليلتحقَ بعدها بمعهد الإسكندرية الأزهري، وهناك اجتاز شهادة الثانوية الأزهرية وبعدها التحق بكلية أصول الدين، فتخرَّج فيها عام 1958م، ثم حصل على تخصص التدريس سنة 1959م، وفي عام 1966م حصل على الدكتوراه في التفسير والحديث بتقدير ممتاز، وكان موضوعها "بنو إسرائيل في القرآن والسنة".
بدأ الشيخ حياته الوظيفيَّة عام 1960م إمامًا وخطيبًا ومدرسًا بوزارة الأوقاف، وفي سنة 1968م وبعد نيل درجة الدكتوراه، عُيِّن مدرسًا للتفسير والحديث بكلية أصول الدين، وأُعيرَ إلى الجامعة الإسلامية بليبيا والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في عام 1980 كرئيس لقسم التفسير في كلية الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية.
تولَى فضيلته منصب مفتي الديار المصرية في أكتوبر سنة 1986م، وظلَّ في هذا المنصب قرابة عشر سنوات أصدر خلالها نحو 7 آلاف و557 فتوى مسجلة بسجلات دار الإفتاء، وفي عام 1996 صدر القرار الجمهوريُّ بتولي فضيلته مشيخـة الأزهر، خَلَفًا للإمام الأكبر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق.
توفي الدكتور محمد سيد طنطاوي عن عمر يناهز 81 عامًا يوم 10 مارس في العام 2010م في الرياض إثر أزمة قلبية في مطار الملك خالد الدولي عند عودته من مؤتمر دولي عقده الملك عبدالله بن عبدالعزيز، لمنح جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام للفائزين بها لذاك العام، ونقل جثمان الشيخ إلى البقيعِ حيث دفن هناك، وقيل أنها كانت وصيته قبل وفاته.
البصمة الفكرية للدكتور سيد طنطاوي
تميزت شخصية الإمام بكاريزما الهيمنة الفكرية في أوساط المسلمين حول العالم، وكانت الوسطية الفكرية أهم ما يميز موقعه الفكري من حيث التشدد والمرونة، وحدد لنفسه مسارا مهنيا اعتمد فيه منهجية عملية تستخرج من الدين ما يخدم قضايا الدنيا، وجعل قضايا المرأة الفقهية وما يتعلق بالمرأة من تشريعات مدنية تستند إلى الشرع في جعبة أولوياته، ولم يعرف عن أي من علماء الأزهر أنه منح جل الاهتمام للمرأة مثلما فعل فضيلته، إلَا أن هذا التوجه جعله هدفًا متكررًا للهجوم من قبل الإسلاميين المتشددين، وخاصة الأصوليين الذين اتهموه بالانفتاح غير الآمن على العالم، خاصة بعد تصريحه عام 2003 بأحقية الحكومة الفرنسية في حظر الحجاب في المدارس والمؤسسات الفرنسية باعتباره شأنا داخليا فرنسيا، وقُوبل هذا التصريح بانتقادات شديدة من قبل الجماعات الإسلامية في مصر وخارجها ومن قبل علماء المجلس الأوروبي للإفتاء ومن جماعة الإخوان المسلمين.
في أكتوبر 2009 وبينما كان الإمام يتفقد إحدى المدارس الإعدادية الأزهرية، عنف تلميذة كانت ترتدي النقاب ، الأمر الذي أثار جدلية من قبل المؤيدين للنقاب وأوجد حالة من السخط العارم بين السلفيين، بل امتد الأمر إلى اتهام الشيخ بممارسة القهر والتنمَر على التلميذة الأمر الذي نفاه شيخ الأزهر في تصريحات لاحقة له مؤكدا أن "النقاب حرية شخصية" ولكنه أكد على كونه ليس سوى مجرد "عادة"، رافضا ارتدائه داخل المعاهد والكليات الأزهرية.
ومن بين أكثر الملفات المتعلقة بالمرأة تعقيدا، خرج الدكتور محمد سيد طنطاوي في عام 2002 بفتوى أثارت جدلا حينها تتعلق بعدم وجود مانع شرعي لا يرى في تولي المرأة كل الوظائف بما فيها رئاسة الجمهورية، ودعا إلى دراسة الموقف من قبل علماء الأزهر.
وفي سياق دعم البنية القانونية المؤيدة لاستقرار الأسرة المصرية ورعاية مصالحها في ظل تشريع يؤمن الزوجات، أيد شيخ الأزهر قانون محكمة الأسرة المستحدث وفتها قائلا: "إن القانون بجميع مواده جاء مطابقا للشريعة الإسلامية، وإنشاء محكمة جديدة للأسرة وإصدار قانون خاص بها يعد خطوة جيدة، والمحكمة ستكون قادرة على سرعة الفصل في الحكم التشريعي، والوصول إلى العدل في أقرب وقت ممكن"، وعندما سُئل عن الاستعانة بالمرأة في لجنة الفتوى، قال: "لو طلبت لجنة الفتوى بالأزهر الاستعانة بالمرأة فلا مانع من ذلك".
في المقابل، ظل التيار السلفي يكيل الرفض لكل أطروحة يؤتيها فضيلة الإمام خاصة في إجازة تولي المرأة رئاسة الجمهورية وبعض المناصب القيادية بزعم أنها ولاية عامة لا تجوز لأي من معشر النسوة.
الانفتاح الفكري للدكتور سيد طنطاوي في القضايا القومية
انشغل فضيلة الإمام سيد طنطاوي بالكثير من القضايا القومية الشائكة التي غالبا ما كانت تسبب الحرج لعلماء الأزهر كونها تمس بعض المعتقدات الجامدة وهي مناطق لا يرغب علماء الأزهر في خوضها مثل قضية تحديد النسل لكبح الانفجار السكاني وتآكل التنمية، وهي القضية التي أوجدت صراعا بين رجال الدين والنظام السياسي في العقود الثلاثة لحكم مبارك.
ولما كانت قضية تنظيم النسل إحدى القضايا الخلافية بين فضيلة الدكتور طنطاوي والتيار السلفي وقد أجاز فضيلته في عام 2009 تحديد وتنظيم النسل بالتراضي بين الزوجين بحيث تتباعد فترة الحمل، ولكن في الوقت ذاته أفتى بحرمة منعه بشكل كامل. أمَا التيار السلفي فلم يكن يرى ضرورة لتحديد النسل، وكان بعض الدعاة المتشددين من الصفوف السلفية يسوَق لزيادة النسل وتكاثر الأمة بصرف النظر عن ضمانات جودة الحياة للأعداد الكبيرة تحت مفهوم الرزق الذي يكفله الخالق.
لم يقتصر المعترك الفكري في القضايا القومية لفضيلة الإمام على وقف الانفجار السكاني من خلال تصحيح المعتقد الديني الداعي إلى التفاخر بالكثرة بين الأمم وهي دعوة المنابر التي استفحل أمرها منذ بداية المعونة الأمريكية لمصر في مجال صحة الأسرة وصحة المرأة بل ذهب فضيلته إلى ملف أكثر حساسية وهو ختان الإناث.
عندما أصدرت الأمم المتحدة توصياتها بمنع ختان الإناث استنادا لتقارير علمية وصحية وحقوقية خاصة في مصر، كان لفضيلة الإمام موقفا واضحا حيال ملف ختان الإناث، فقد أكد أنه لم يجد في الدين والشرع ما يبرر إتيان تلك العادة، قائلا في أحد اللقاءات: "ختان الإناث مسألة طبية، ما يقوله الأطباء في هذه المسألة نقول لهم سمعا وطاعا، لم يرد نص شرعي في شريعة الإسلام لا من القرآن ولا من السنة يُعتمد عليه في مسألة ختان الإناث" إلَا أن الصدام مع التيار السلفي بلغ مداه عندما تصدر المشهد أبو إسحاق الحويني داعيا إلى وجوب ختان الإناث، ولظل الصراع بين النهي والأمر قائما إلى أن صدر التشريع القانوني الذي يجرَم ختان الإناث.
ومن ضمن الملفات الشائكة المؤثرة في اقتصاد الوطن كانت قضية فوائد البنوك التي ظلت عائقا ومثار تعطيل للاقتصاد وجذب الاستثمارات لعدة عقود سابقة لتولي الإمام منصب مشيخة الأزهر الشريف إلى أن أباح فضيلة الإمام أثناء رئاسة مشيخة الأزهر فوائد البنوك مع تقييد المسألة ببعض المحددات متبنيا مبدأ قيام البنك باستثمار الأموال وكيلا عن المودع، ومع ذلك وكسابقة التوجه السلفي اعترض التيار السلفي على إجازة التعامل مع البنوك في الاستثمار الربحي.
وفي معترك آخر وهو التبرع بالأعضاء، كان لفضيلة الشيخ الجليل سيد طنطاوي أول سابقة تنويرية بجواز التبرع بالأعضاء، فبالرغم من قناعة الفكر البرلماني في مصر بفكرة التبرع بالأعضاء واستساغة التشريع الذي يجيز التبرع، وبعدما ظل الجدل حول هذا التشريع قائما لقرابة نصف قرن لم تحل فيها فرضية التبرع بالأعضاء سواء من الأحياء للأحياء أو من الموتى للأحياء، إلا أن فضيلة الإمام محمد سيد طنطاوي كان سبَاقا برؤية مستنيرة بنيت على قراءة فقهية وإنسانية وعلمية أجاز فيها التبرع بالأعضاء، وهو الأمر الذي ظل محل خلاف مع السلفيين، ولم يكتف بالفتوى، بل بادر بتقديم نفسه كأنموذج يحتذى به وأعلن التبرع بأعضائه بعد مماته.
إعادة فهم الأحكام الشرعية بتبصِر مستنير:
فيما يتعلق بحد الردة، رفض الإمام المستنير سيد طنطاوي الأخذ بحد الردة والإقدام على قتل من يوصف بالمرتد مؤيدا رؤيته بالفهم الصحيح للآية الكريمة "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، وكالعادة، لم يسلم السلفيون بفهم حكم الآية الكريمة على هذا النحو وتمسكوا بحد الردة.
وكان للرجل رؤية دقيقة لا يحيد عنها بسهولة حتى فيما يتعلق بجوانب الفتوى، ومن أشهر الفتاوى التي أثارت جدلا واسعا أثناء تولي فضيلته منصب المفتي رفضه إلغاء موسم الحج والعمرة بعد انتشار وباء أنفلونزا الخنازير، وصرح حينها: "أن الحكم بانتشار الوباء ليست من اختصاصي، بل هي اختصاص وزارة الصحة ونقابة الأطباء، وحين يبلغونني أن الوباء قد انتشر بصورة تستحق التأجيل، يمكن أن تصدر مثل هذه الفتوى، إلا أنهم قد أعلنوا منذ أيام عكس ذلك، مما يمنعني من إعلان إلغاء فريضتي الحج والعمرة."
وكانت له فتوي جريئة بشأن إباحة إجهاض المغتصبة إذا حملت سفاحا والتي قال فيها: "إنه يجوز للمغتصبة إسقاط الحمل أي إباحة عملية الإجهاض، ولكن بشرط أن تكون الفتاة المغتصبة حسنة السمعة ونقية وطاهرة، وأن يثبت عدم توافر إرادتها في الفاحشة وقت إتيانها، فعندئذ يحل لها الاستفادة من متن الفتوي لدرء الوصمة".
الحنكة الإدارية للإمام سيد طنطاوي:
من ضمن الملفات التي حظيت باهتمام فضيلة الإمام سيد طنطاوي هو ملف تطوير الأزهر كجامعة وكمؤسسة إسلامية تمثل مرجعية للعالم الإسلامي، فقام على تطوير المنابر العلمية للأزهر واهتمَّ اهتمامًا بالغًا بإنشاء المعاهد الأزهرية لتزيد في عهده إلى أضعاف ما كانت عليه قبلها، ولم يكتف بذلك، بل تدخل فضيلته فب إعادة هيكلة الهرم الوظيفي للكوادر العلمية بكليات الأزهر الإسلامية والأكاديمية، ورسَخ وأصاغ فرضا جديدة لترقي أعضاء هيئة التدريس متعاونا مع رئاسة جامعة الأزهر.
وخلال حياته الوظيفية والعلمية صنَّف فضيلتُه التصانيفَ العلميَّة الهائلة، يأتي في مقدمتها تفسيره الوسيط الذي كتبَه الشيخ في حوالي خمسة عشر مجلدًا، وقد امتاز بسهولة العرض وسلاسة الأسلوب.
مؤلفات الإمام وبعض أعماله الفكرية:
أضاف الإمام للمكتبة الإسلامية عدة كتب نسردها تباعا بخلاف مئات المنشورات الدورية والأطروحات الفئوية في مجال الفقه والتفسير والإفتاء، ومن ضمن هذه المؤلفات:
• التفسير الوسيط للقرآن الكريم، تقع في خمسة عشرة مجلداً
• بنو إسرائيل في القرآن والسنة.
• القصة في القرآن الكريم تقع في مجلدين.
• أدب الحوار في الإسلام.
• الاجتهاد في الأحكام الشرعية.
• معاملات البنوك وأحكامها الشرعية.
• جوامع الدعاء من القرآن والسنة.
• أحكام الحج والعمرة.
• الصوم المقبول.
• الحكم الشرعي في أحداث الخليج.
• كلمة عن تنظيم الأسرة.
• السرايا الحربية في العهد النبوي.
• فتاوي شرعية.
• المرأة في الإسلام.
• عشرون سؤالاً وجوابا.
وفي الخاتمة، رحم الله عالما جليلا لم يضن بعلمه أو عمله على المسلمين ولم يخش في الحق لومة لائم.
أخبار متعلقة :