سرتُ تائهاً في أزقّةٍ ولهى ، تحنّ لبسمةٍ ، لوردةٍ جوريةٍ وهمسةً حب ، تخيّلتُ أمامي الأرض بمعطياتها ومطبّاتها ، وتراءت لي كمستنقعٍ بالجراحِ التي تحملها .
فكرةٌ حرةٌ أنا ، لزمنٍ مثقوب الرؤى ، لزمنٍ يتآكل كالمقالات في الجرائد ، ومثل بابٍ يُصدر أزيزاً قاسياً ومؤلماً أحياناً ، أحمل في قلبي وردة ، ويسكن روحي طير صغير ، أنا الأبجدية الهشّة التي لا وزن لها ولا قافية ، أنا اللوحة التي لا تزال في منتصف الطريق ، أنا البوصلة الشقيّة التي تاهت بين الشمال والجنوب .
الرحمة لنفوسٍ شوّهتها السياط ، أبحثُ عني ، فلا أجدني ، لقد هرست الأقدام عشرات السنين مجبولة بالأحلام .
فرشتُ درب القمر بالوردِ والنعناع ، بالزعتر البري والحبق والريحان ، فأزهر العشقُ كمواسم الزيتون وبيّارات الليمون .
ركضتُ وراء سرابً هش ، كاد أن يوصلني إلى ماهيّة الحياة عند البشر ، أو عند مخلوقات أخرى ، إبتسمتُ بسخريةٍ جادة ، فتراءى أمامي مستنقع مليٌ بالحياة وبالحركة رغم ركوده ، على الأقل هكذا يقول علماء البراكين والأحياء .
عدت إلى غرفتي اليتيمة ، جلستُ ، وضعتُ رأسي بين كفّي ، وأنا أُحاول أن أتحقق ممّا يدور في خلدي ، فالفقراء لهم نصيبٌ من الشمس والهواء ، من الرمال ، من الليل والغزل الخجول وأمواج البحر ، لهم نصيب من الأغنيات والإيقاع والفرح الذي قد يكون عابراً ، لهم نصيبٌ من الأبجدية والكلمة ، كما لهم نصيبٌ من الرصاص والموت المجاني الذي لا يشاركهم فيه أحد . شهقتُ ، تلعثمت كلماتي ، ذهبتُ بعيداً ، أيقنت أن المستنقعات هي بلاد الضفادع والبعوض والديدان والعصافير المتصيدة ، والجراثيم والبكتريا ، إضافة إلى الأعشاب الشوكية المتسلّقة التي تسوّر هذا الوطن المستنقع العجيب .
فما يحدث هنا ، تماماً كما يحدث هناك ، فالأفاعي تتلذّذ بالتهام الضفادع ، وكلما وقع ضفدع صريعاً بين أنياب إحدى الأفاعي ، ترفع الضفادع صوتها لتخيف الأفاعي التي لا تسمع . وهكذا تستمر الأفاعي في التهام الضفادع ، بينما تُمارس الضفادع حقّها في الاحتجاج والنقيق ، وكأنها تطلب من كل أحياء المعمورة أن يضعوا حداً لهذه التعديات ، وأن يُلزموا الأفاعي باحترام حقوق المخلوقات بالعيش بسلامٍ وأمان .
ضحكتُ لأفكاري الإنسيابية ، هممتُ أن أغوص في العمق أكثر إلاّ أن صديقتي السمراء فاجأتني قائلة :
لعلكَ تأتي وأُقفل باب الرحيل .
نظرتُ إلى أعماق عينيها عبر مرآةٍ حزينةٍ ، فتحتُ نافذةً نحو ذاكرةٍ لا تُغلق ولا تصدأ ، تمتمتُ بصخبٍ :
لم أجد لعشقكِ حلاً ، إلاّ أن أعشقكِ أكثر .
تابعتُ :
هل تعلمي ياصديقتي إن التذوّق صعبٌ بل ومستحيل ، طعمٌ برائحةِ الجريمة ونكهة الكراهية ، وبمذاقِ الجريمة والصدمة ، نعم ، أحنّ إلى رائحةِ الكبريتِ والحطب المحترق ، فهذه الرائحة تُعيدني إلى بيت جدي ، إلى القرية ، تعيدني إلى العز الذي رحل ، بعد أن تشوّه وحمل معه رائحة الموت .
إرتجفتْ ، تغيّرت ملامح وجهها ، إنفعلت ، إنتفضت قائلةً :
عن ماذا تتحدث ؟ .
قلت :
لا ، لن يغتالني الصمت ، أرتدي حروف الأبجدية ، أُثني أطرافها الفضفاضة على كل جوانبي ومسامات جسدي ، وأتحدّث عن ما يحدث ، ولأنني كذلك إبتعدوا عني ، وأصبحتُ شبيهٍ بداءٍ معدٍ ، وعندما كنتُ أتابع المسير ، أشعر بأنني أشبه بمن يقود دراجة صدئة صريرها ينخرُ في الرأس والجسد .
انتابها الإنفعال أكثر ، كادت تصرخ ، أشارت بيدها ، ومن ثُمّ قالت :
أرجوك ، لا تراوغ معي ، هل أنت بخير ؟ ، عن ماذا تتحدث ؟ .
قلت :
ثقي يا صديقتي ، إن قلبي هو وطنٌ لصديق ، وأنتِ وطني ، طيلة هذا اليوم كنت أتحدث مع نفسي عن وطن المستنقعات ، والضفادع والأفاعي ، والبعوض والأعشاب المتسلقة .
صارحتها بأفكاري ، شرحت لها كل ما يدور في خلدي ، وما أحاول الوصول إليه .
إبتسمت إبتسامةً صاخبة ، ضحكت ، رقصت تعابير وجهها ، فاجأتني قائلةً وهي تتحسس صدرها :
ما ينتابك من مشاعر قلقة ، تنتابني أيضاً ، وثق إن هذه الضفادع شئنا أم أبينا هي تماماً كأجهزة إعلامٍ ناطقةٍ باسم مجتمع المستنقع ، ومن خلال صراخها تروي واقعها وتاريخ مستنقعها ، وكأن لسان حالها يقول :
إن مستنقعنا مليءٌ بالمياه الآسنة ، محكومٌ بأسرابِ البعوضِ الذي يمتصّ دماء مواطني المستنقع ، وبالأعشاب اللزجةِ المتسلّقة .
استدارت ، تراجعت ، تمتمت بكلماتٍ مبهمة ، إبتسمت ، ترددت ومن ثُمّ قالت :
لا ، لن يذيبوا شمعة الأمل من عيني ، ولن أدعهم ينامون على صدري كهمٍ ثقيل ، فالحياة وحدها تستحق طقوس مخاضٍ لولادةٍ جديدة ، لذا سأنسج من حنيني فرحاً جديداً ، ولن أمتطي قلقي بعد اليوم ، تأكّد ياصديقي أن المستنقع معرضٌ لفوراتٍ بركانية ، حيث تقذف حممها بعيداً ، كي تشيد الجبال والتلال والوديان ، ولتعطي للّأرضِ خصوبتها ، وللطبيعةِ جمالها ورونقها ، وعندما يثور بركانٌ ما ، فإنه سيعيد كتابة التاريخ بشكلٍ آخر .
ضحكتْ ، التفتت إليّ بعيونٍ زائغةٍ لا هذف لها .
تمدد الوجع على خاصرتي ، ومن أعماقِ الصدر تدلّى حزنٌ أحمق ، داهمني صوت فيروز المُعتّقِ بعبقِ الياسمين ، مع ترابٍ أحمر ، ومع الزيتون والزعتر البري والزنبق ، كلهم في قلبي ، مثل التوحيد والكوثر .
إفتعلت حركةً مضحكةً بيدها ، تلاها ضحك هستيري من أعماق قلبها حتى علا صوتها بايقاعٍِ صاخبٍ مبعثر ، وفجأةً صمتتْ بشكلٍ عشوائي وقالت :
كي لا يفقد الطير صوابه ، هل تعرف ماذا تقول الضفادع في سرّها عندما تكفُّ عن النقيقِ وتصمت ؟ .
قلتُ دون تردد : لا .
ابتسمت إبتسامةً مفتعلة ، وقالت :
تدعو ربها أن لا يثور البركان من جديد .
أخبار متعلقة :