كانت أول ليلة مسرحية اقامتها فرقة جورج أبيض بمسرح الأوبرا يوم 12 إبريل 1910م بعد يومين فقط من وصوله وكانت أول مسرحية قدمتها الفرقة هي مسرحية " هوراس " للكاتب الفرنسي "كورنيل" والمسرحية الثانية التي قدمتها الفرقة يوم 13 إبريل هي " شارل السادس " للكاتب اسكندر ديماس " وكانتا باللغة الفرنسية وفي أول ليلة عرض حضر الخديوي وكبار رجال الدولة ونخبة من رجالات السفارة الفرنسية ومجموعة كبيرة من المثقفين المصريين ولكن على رأس كل هؤلاء حضر وزير المعارف " سعد زغلول " وزوجته السيدة صفية اللذان راقهما هذا الحدث الكبير وإن كان " سعد زغلول " يري بحسه الوطني شيئاً يجب استثماره لمصلحة مصر الوطنية.
بعد أيام من إقامة العروض المسرحية فوجئ "جورج أبيض" بأن " سعد زغلول " يستدعيه في مكتبة لأمر هام وحينما التقى به وجد أن سعد زغلول يناقشه في الصراع الدائر بينه وبين الإنجليز الذين يفرضون على الحكومة المصرية تدريس جميع المناهج باللغة الإنجليزية في المدارس المصرية وعلى رأسها التاريخ والجغرافيا والرياضيات والعلوم، وأن هذا الصراع زادت حدته في الآونة الأخيرة إذ يرفض الإنجليز رفضاً قاطعاً تعريب المناهج وهو – أي سعد زغلول – يؤمن أن رسالته أن تصبح أغلب المناهج باللغة العربية، واستكمالاً لرسالته التي يصبو لتحقيقها اراد أن يستدعى " جورج ابيض " ليقول له:
"إن مصر والمصريين يفخرون بالنجاح الذي وصلت إليه وأن من أهدافنا الوطنية نشر اللغة العربية واحلالها محل اللغة الإنجليزية في كل مناحي الحياة المصرية وأهم منحى هو تثقيف القاعدة العريضة من شعب مصر خاصة وأن أغلبها لا يستطيع القراءة والكتابة عن طريق المسرح ليدعم الجهود التي تبذلها وزارة المعارف ضد الإنجليز في مجال التعليم، وأن وزارة المعارف ستقوم بتسهيل كل العقبات التي قد تصادف "جورج أبيض " لتأدية هذه الرسالة الوطنية التي يرى أن جورج جاء مبكراً خمسين عاماً لينقل ثمار ما وصلت إليه محاولات المسرح الأوروبي ويطبقها ويختصر بها طريق النهضة التي تصبو لها مصر.
كان أول قرار أتخذه "جورج أبيض" فور خروجه من مكتب "سعد زغلول" أن حل فرقته الفرنسية واستغرق عاماً كاملاً حتى عام 1912م في تعريب كل المسرحيات الأجنبية التي قام بتقديمها مع فرقته الفرنسية، ثم قام بنشر إعلان في الصحف لهواة التمثيل لتكوين فرقته المصرية الخالصة ونجح في ذلك وكان يوم 19 مارس 1912م في دار الأوبرا هو ميعاد تقديم أول عرض مسرحي باللغة العربية مبني على أسس فنية سليمة وتخطيط دقيق ومدروس للحركة لا يخرج عنها الممثل باجتهاد شخصي منه على الإطلاق، وكانت أول مسرحية باللغة العربية قدمها جورج أبيض هي مسرحية " جريح بيروت" كتبها شعراً الشاعر المصري "حافظ إبراهيم، ثم مسرحية أوديب وتلاها مسرحية لويس الحادي عشر ثم في يوم 30 مارس 1912م كانت مسرحية عطيل ورغم أن سعر التذكرة كان في ذلك الوقت 40 قرشاً إلا أن احتشاد الجماهير لمشاهدة أول مسرح عربي مصري خالص كان على أشده وربما كان من أهم دعائم نجاح هذه التجربة الأولى للمسرح العربي هو رعاية الدولة له من خلال وزارة المعارف وعدم البخل في الإنفاق عليه باعتباره أحد أهم روافد التثقيف للمجتمع الذي يعاني غالبيته من الأمية ومن ثم نجحت رسالة " سعد زغلول" من خلال مسرح "جورج أبيض" في ولادة أول مسرح عربي مصري له غاية وهدف وطني خالص.
في عام 1913م صار أحمد حشمت باشا وزيراً للمعارف خلفاً لسعد باشا زغلول، وكان حريصاً بل ومهموماً بفكرة تعميم الثقافة والتعليم لتشمل كل المصريين، ومن ثم استدعى جورج أبيض وأمره بأن يمثل بعض رواياته باللغة العامية الدارجة التي يتحدث بها الشعب في الشارع ليستطيع استيعابها المواطن العادي وبذا يتيح للجماهير الأخرى الأقل ثقافة أن يرتادوا المسرح الجاد ويطلعوا على ثقافات العالم من خلال مسرح جورج أبيض وبالفعل حول جورج أيضأ أغلب المسرحيات العالمية المترجمة باللغة العربية الفصحى إلى مترجمة باللغة العامية الدارجة وبالفعل أصبح في مقدور الجمهور الأقل ثقافة أن يتعرف على ثقافات العالم ومن ثم صارت هذه التجربة التي استهلها جورج أبيض في مسرحه هي أول تجربة مسرحية لنقل أعمال عالمية كما هي باللغة الدارجة الشعبية بعيداً عن الاقتباس أو الدراماتورج، كما أنه افسح المجال للاستعانة بأعمال لكتاب مصريين وعرب أمثال أحمد شوقي وتوفيق الحكيم وفرح وأنطون وحبيب جاماتي وغيرهم.
وفي عام 1914م بدأت الحرب العالمية الأولى ومع نشوبها اصبحت أعصاب الناس مشدودة ومضطربة وبحاجة إلى مهدئات ومسكنات فانصرفوا إلى الملاهي التي انتشرت في القاهرة وصارت تقدم الاسكتشات الكوميدي والتابلوهات الراقصة وأمام هذا التيار الجارف لم تستطع فرقة جورج أبيض أن تصمد على طريق المسرح التراجيدي فبدأ يبحث عن نوع جديد أخف ووقع على ضالته بأن أراد أن يقدم مسرح نقدي باللغة العامية تصور واقع الشارع المصري ومشكلاته وهمومه وتكشف عن عيوبه وتعالجها ووقع اختياره على الكاتب "فرح أنطون" الذي قدم له مسرحيتان لاقا نجاحاً منقطع النظير الأولى مسرحية "مصر الجديدة" والثانية "بنات الشوارع" وكانتا مسرحيتان نقديتان استحسنهما المشاهد المصري لما فيهما من واقع يعيشه المواطن المصري بالفعل بكل ما فيه من اضطراب وفساد وخوف من الغد الذي تلاشت ملامحه بسبب الحرب بل ويجب التأكيد على أن مسرح جورج أبيض هو صاحب الريادة في مولد أول مسرحية مصرية صميمة تعبر عن المجتمع باللغة التي يتحدث بها المجتمع في الشارع.
ثم أمام نتائج الحرب وضعف الإيراد وقلة أعداد رواد المسرح استطاع جورج أبيض أن يقنع سلامة حجازي بدمج الفرقتين ليصبحا فرقة واحدة باسم " أبيض وحجازي" ونجح الاندماج حتى عام 1916م وكان سن جورج أبيض 32 عاماً والشيخ سلامة 64عاماً، وفي عام 1917م أراد جورج أبيض أن ينتج مسرحاً استعراضياً عملاً بنصيحة الشيخ سلامه حجازي الذي قدم له الشيخ سيد درويش الذي كان يغني بين الفصول أغانيه التي عرفه الناس بها لكن حينما سمعه جورج أبيض لمح فيه قدرة على تلحين الأوبرا والأوبريت فتعاقد معه بثمانية عشرة جنيهاً في الشهر لمدة ثلاث سنوات على أن يقوم بتلحين أول أوبريت مصري بموسيقى تعبيرية وتصويرية هو اوبريت فيروز شاه من تأليف بطل مصر في المصارعة والكاتب والمترجم المسرحي عبد الحليم دلاور الشهير بعبد الحليم المصريـ ذلك الاوبريت الذي نقل الشيخ سيد درويش لمصاف عباقرة الموسيقى في العالم العربي بل والعالم أجمع.
ويواصل جورج أبيض جهاده في سبيل المسرح والفن رغم احوال العالم المضطربة بسبب الحربين العالميتين وحالة الكساد الكبرى التي طغت على العالم باسره لكنه كان مثابراً وعنيداً فانشأ أول معهد تمثيل في الشرق 1930م وأنشأ المسرح التونسي وحين حصل على الجنسية المصرية في شهر يونيو 1932م قرر انشاء الفرقة القومية الحكومية عام 1935م والمعروفة حالياً باسم المسرح القومي وفي عام1943م تأسست نقابة ممثلي المسرح والسينما وتم انتخاب جورج أبيض كأول نقيب لها بأجماع الأصوات وظل يناضل في رسالته مع المسرح حتى لقى ربه في 12 فبراير 1959م.
أخبار متعلقة :