بوابة صوت بلادى بأمريكا

حنان فاروق العجمي تكتب : مراجعة وقراءة لرواية ثقوب في الثوب الأسود

 
 
الرواية للكاتب والروائي الكبير إحسان عبد القدوس الذي استخدم  مقدمة روايته للتعريف بنفسه في صورة سيرة ذاتية مقتضبة لرؤيته أن الحياة تحتاج إلى عمر كامل  لكتابتها وعشرات الكتب وليس فقط بضعة سطور
الكتاب صادر عن الهيئة المصرية للكتاب عام ١٩٩٨م
أهدى الكاتب روايته لوالده ووالدته وزوجته وأبنائه امتنانا لهم وتعبيرا عن قيمتهم الكبيرة ودورهم الهام في حياته
والده هو الأستاذ محمد عبد القدوس ووالدته السيدة فاطمة اليوسف أو روز اليوسف صاحبة مجلة روز اليوسف 
هو ابن لعائلة فنية فالأب كاتب مسرحي وشاعر وفنان و ممثل ومؤدي لمونولوجات هو مؤلف كلماتها ومن تلحينه والوالدة فنانة وممثلة مسرحية ثم بعد ذلك عملت بمجال الصحافة وأرادت أن يسير ابنها إحسان عبد القدوس على نفس النهج لا أن يكون مجرد شاعر وأديب فقط بل يمتهن مهنة الصحافة ويتقنها، ولد إحسان عبد القدوس في أول يناير عام ١٩١٩م ، اختلف والده ووالدته وانتهى ذلك بالانفصال وذهاب إحسان إلى بيت جده الشيخ محمد رضوان خريج الأزهر الشريف والذي عمل بالقضاء الشرعي حيث كانت تربية حفيده على الالتزام والتزمت بالرغم أن الجد من رجال القضاء الشرعي والأزهر الشريف إلا أنه كان محبا للفن وصديق للمطربين وله دور بارز في مجال السياسة ومصادقته ودعمه للثوريين مثل الزعيم مصطفى كامل وسعد زغلول ، وهنا وجد إحسان عبد القدوس نفسه في صراع بين التزمت وبين حياة الفن والحرية وبالرغم من هذا ساهم هذا الاختلاف البيئي في نشأته وتكوين شخصيته وإثقالها وكانت أول مسرحية كتبها وهو بالعاشرة من عمره ، وبدأ بكتابة الشعر والنثر والنشر في مجلة والدته روز اليوسف والتي كانت لا تحب نشر أعماله ونصوصه الأدبية رغبة منها في تنمية مستقبله ككاتب صحفي وبالفعل خضع لرغبة أمه واستطاع إثبات وجوده في عالم الصحافة ، والتحق بكلية الحقوق واهتم بدراسة المذاهب السياسية والأدب العالمي وتنمية الوعي السياسي لديه وشارك بالعديد من المظاهرات والثورات السياسية ولكنه لم ينتم لحزب  معين أو يناصر رئيس بذاته هو كاتب سياسي ومفكر حر عمل كمحامي وتفرغ للصحافة وأتيح له نشر ما يشاء من مقالات ونصوص أدبية في مجلة والدته والتي رد لها الجميل بذيع صيته بالصحافة بالإضافة لكونه أديب وشاعر وأصبح مسؤولا عن روز اليوسف كإرث عظيم عن والدته وأحب كتابة القصص والروايات ومن رواياته التي حازت على شغفي الشديد في قراءتها رواية 
"ثقوب في الثوب الأسود" ، بالبداية ما جذبني للقراءة هو العنوان غير التقليدي الذي يدفع فضول القارئ إلى معرفة سر الثوب الأسود الذي أرى أن الكاتب قد وفق في اختيار عنوان الرواية الذي هو الباب الأول المعبر عن المحتوى المنتظر اللون الأسود يدفعك للتفكير في ظلام الليل أو قد يكون لون الحزن والموت وقد يوحي بالحياة التعيسة خاصة مصاحبته لوجود ثقوب به قد تعبر عن الشقاء والعذاب والفقر دعنا عزيزي القارئ لا نسهب في تفسير اختيار الروائي لهذا العنوان  أكثر من ذلك ولنبحر معا داخل الرواية زمن الرواية الخمسينات الشخصيات المحورية خمس شخصيات أساسية تظهر تباعا من خلال أحداث الرواية وتظهر معها شخصيات ثانوية تتناسق مع سياق السرد الواقعي الذي يمتاز به الكاتب والوضوح والسلاسة في أسلوبه التعبيري وكلماته البسيطة التي يفهمها القارئ الذي يمتلك قدر ضئيل من المعرفة والثقافة ولكنه لا يغفل أيضا أنه يخاطب عقول شريحة من المثقفين تريد قراءة إبداع وهنا كانت الموازنة وظهر جليا ذكاء الكاتب واحترامه للعقول على اختلافها ودرجة اطلاعها وفكرها ، استخدم الكاتب العديد من الصور البيانية والإبداعية والاستعارات والتشبيهات والأسلوب البلاغي الوصفي اللائق والمناسب لأحداث الرواية والذي أجده استطاع إبراز أسلوب الحكَّاء وجعلك تشعر كأنك داخل فيلم سينمائي من أفلام هوليود ومغامرة تخوضها بنفسك وأنت بحالة انتباه وإثارة ورغبة في توقع ماذا سيحدث كلما انتهيت من قراءة صفحة من صفحات الرواية لاتمل ولا تريد تركها حتى تكملها للنهاية وفي هذا يشهد لتَمَكُّن وبراعة المؤلف وقدرته على الجذب وبراعته في استخدام الأسلوب الحواري المختصر الذي يُعبر عن ما هو قل ودل ويترك للقارئ مساحة للتفكير والاستنتاج تبدأ الرواية بشخصية محورية هي شخصية الطبيب النفسي ودعوته لحضور مؤتمر طبي يُعقد في بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية وقراره الذهاب في رحلة إلى وسط إفريقيا بعد انتهاء فعاليات المؤتمر لرغبته في الاستمتاع والابتعاد قليلا عن مهنته كطبيب نفسي وحصوله على قسط من الراحة كأي إنسان عادي بعيدا عن العمل لكنه لا يبحث عن الهدوء بل العكس تماما الصخب الذي يجعله ينسى أعباءه ولا يفكر بها وتبدأ رحلته السياحية إلى دكار بالسنغال أو كما أطلق عليها السودان الفرنسي وتشتعل الأحداث التي لن أحرقها وسيكتشفها القارئ بنفسه ، استطاع الكاتب إضافة الإثارة والتشويق الذي يخدم الرواية وأيضا تغليف شخصياته بسمات الغموض والغرابة والوصف الدقيق لكل شخصية في الرواية كأنك تراها متجسدة أمامك ، وصف الرحلة نفسها والطرق والبشر يشعرك أنك تتجول بصحبة الطبيب وتعود معه وتنام وتستيقظ داخل الأحداث وداخل الأيام وتترقب الساعة وتارة تشعر بالإجهاد وأخرى بجمال الطبيعة الساحرة لإفريقيا ووصفه لنهر النيجر كالأسد الذي يزأر وتارة أخرى وصف النهر وشبهه بالحيوان الزاحف الضخم الذي تقف على ظهره لانشات المستعمرين وهو يحاول ابتلاعها داخله والمستعمرة الفرنسية التي يسكنها البيض والسود كالقطيفة السوداء ذات الثقوب البيضاء تشبيه بلاغي وفق فيه الكاتب ببراعة في وصفه لما شاهده بطل الرواية أثناء تجواله ، الرواية تحكي قصة درامية يشوبها الألم لثلاث أخوة يتقابل  الطبيب بهم أثناء رحلته وتتعرض القصة للماتيس وهي مشكلة الملونين أبناء ونتاج زواج البيض من الزنوج الأفارقة أصحاب البشرة السوداء كلما قلبت صفحة من صفحات الرواية تنتقل لحدث جديد استطاع الكاتب امتلاك تعاطف القارئ مع الشخصيات الأساسية بالرواية وجعل كل منها بئر أسرار يسعى الطبيب النفسي إلى اكتشافه كما استطاع الكاتب ببراعة وصف الطبيعة الموحشة والقاسية هناك والعيش ببلاد المهجر بأعين المهاجرين ووصف الجمال والسحر في عيون القارة السمراء بنفس الوقت في رشاقة لا مثيل لها ، حتى فانوس السيارة خلق منه صورة جمالية كأن السيارة تسير داخل غربال مثقوب فالطريق في الغابة هو الغربال حيث لا يوجد منفذ للضوء سوى فانوس السيارة التي يركبها والذي يخترق ضوؤه الفانوس وخطوطه الطولية والعرضية التي ينفذ منها الضوء ليشكل ثقوبا وسط الطريق المظلم كالغربال المثقوب ووصف الإنسان بطبيعته البدائية وملابسه التي هي مجرد قطعة تغطي القليل من جسده في شكل يجسد الطبيعة وملابس الفتيات وألوانها الزاعقة ورائحة عبق إفريقيا على حد تعبير ووصف الكاتب والأجساد السوداء العارية الشامخة  شموخ الطبيعة التي تخور وتعلن ثورتها دون أدنى ذرة خوف ، قوانين السكان الأصليون الوطنيون وأكواخهم الطينية البدائية وطقوسهم الوثنية
 من جانب وتمدن الجانب الآخر بنفس البلد والفتيات الفرنسيات حياة الرفاهية وحياة المهاجرين على اختلاف جنسياتهم والتعب والمشقة وتكوين الثروات
 لجأ الروائي إلى التعرض للشئ ونقيضه والصراع الذي تشكل في ذلك الوقت ،  كان يستخدم برأيي الشخصي أسلوب الفلاش باك حيث عرض مشاهد الماضي كحكاية على لسان الشخصيات كجزء لا يتجزأ من الأحداث فلم أشعر بانفصال الزمن وذهابي في رحلة بين الماضي والحاضر أثناء القراءة بل حديث عن الماضي في سياق الموضوع
 وليس انتقالا بمشاهد عبر الزمن بمعنى رجوع  أبطال الرواية بالذاكرة أثناء أحداث الرواية طبقا لما تتطلبه فنيات العمل على شكل سؤال  وجواب وحوار قائم بين طرفين يجعلك كقارئ تستنتج أن الكاتب سينقلك تدريجيا إلى وصف مشهد من الماضي قد يكون هو حل لمُعضلة وتفسير حالة ، يُعَد الأسلوب الذي كُتبت به الرواية كلاسيكي رؤية الكاتب على لسان بطل الرواية الحياة الهادئة مضجرة تجعلك تفتش في كل متاعبك ونواقصك ومسؤولياتك بينما الحياة الصاخبة تأخذك من عالمك الروتيني المجهد الممل إلى مغامرة ماجنة غير محسوب عواقبها مثلما قرر بطل روايتنا الطبيب النفسي شراء قبعة من الفلين وتقمص دور الرحالة ستانلي مُكتشف مجاهل إفريقيا السوداء 
وتخرج من أحداث الرواية بأنه ليس كل ما تراه جميلا مبهرا هو الواقع ربما وراءه أشياء غامضة لا تعرفها 
ربما هو الهدوء بعده العاصفة أو الهدوء ما بعد العاصفة وأن للنفس الإنسانية خبايا وداخل عقله دهاليز بها أسرار لا يعرفها إلا عقله الباطن ويقرر التصريح عنها وقتما يشاء بشكل مفاجئ لا يمكن توقعه قد يكون في صورة الحديث بلغة غريبة كلغة "الولف" التي تحدث بها أحد أبطال قصتنا دون أن يتعلمها بحياته وكشف أسرارا غير معقولة وغريبة ، الرقص الهستيري الماجن لأحدهم قد يكشف عن أصول ينتمي إليها لم يكن يعلم عنها شيئا ، انتهيت من قراءتي للرواية وأوصي بقراءتها فهي حقا شيقة وقصيرة لا تأخذ وقتا طويلا ولن تمل من أحداثها فهي نتاج صناعة روائي محترف ماهر رشيق القلم،  ونصيحتي لك  عزيزي القارئ  احذر مما يقرر عقلك الباطن فجأة أن يُعلن عنه .

أخبار متعلقة :