بوابة صوت بلادى بأمريكا

د. سعدون خلف العتابي : الصورة الشعرية عند الدكتور أحمد جاد في قصيدته «يا أخت يوسف»

شكل «جاد» خطابه المباشر على وفق عتبة النص الإنشائية ( النداء ) ليعرض لجمهوره ما يدور بأحاسيسه الجياشة ، وقد بدا جليًّا في هذا النص تأثر الشاعر بالنص القرآني ، كما تعودنا منه في كثير من قصائده ، فهو يتناص مع النص القرآني المقدس في موضعين اثنين؛
الأول : في عنوان النص : «يا أخت يوسف» ، ليستفيد مما يتضمنه النص المقدس من معانٍ أضفاها «جاد» بكل إبداع إلى نصه، فقد تنناص مع النص القرآني الكريم : {يَا أُخْتَ هَارُونَ ...}في عبادته وصلاحه وتقواه ، فقال «جاد» : «يا أخت يوسف» ؛ وأراد : في حسنه وعفته ، فنقل النص من سياق لآخر يمنح النص المتناص معانٍ بكر ، فضلاً عن معناه الأصلي لتكون هندسة اللفظ رصينة ، وفي هذا ما فيه من تأثر الشاعر بثقافته الإسلامية بصفة عامة والنص القرآني بصفة خاصة  .
ويؤكد ما ذهبنا إليه من تفسير قول الشاعر في البيت الرابع :
يَا صِنْوَ يُوْسُفَ فِي حُسْنٍ وَعِفَّتِهِ       .................................
وتكمن الشعرية في مماطلة المعنى خارج حدود شرنقة المعجم، فالشاعر بشكل أو آخر يرغب بالتمرد على المستويين الفني والموضوعي ، وهكذا يكسر آفق التوقع مما يثير دهشة للقارئ .
أما الموضع الآخر ، فجاء في صدر البيت الأول من قصيدته ؛ حين يقول :
 «فَذَالِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ»    .................................
  
 فهو تناصَّ لفظًا ومعنًى مع النص القرآني الكريم { فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ }، موجهًا خطابه إلى من يلمنه ويستنكفون عليه ، فيصرح لهن أنه لم يكن من أهل الكذب حتى يتبرأ من ذلك الحب المقدس ، أو ينفيه عن نفسه ، فقد اقتبس من سورة يوسف مما ورد ضمن حوارية زليخة ونسوة في القصر ، فعرض اللوم في صدر البيت الأول ، ولم ينتظر طويلا ، بل كان جوابه على ذلك اللوم في عُجز  البيت ذاته ، بقوله :
.................................         مَا كُنْتُ ذَا كَذِبٍ يَوماً فَأَنْفِيهِ
ثم يعرض جاد لأسباب تمسكه بهذا الحب وحُججه في ذلك ، ورفضه للوم من لام يبدأ في ذكر  تلك الأسباب ، وتعداد هذه الحُجج ، فيقول :
أَوْحَىْ إِلَيَّ مِنَ الْأَشْعَاْرِ أَعْذَبَهَاْ             بَلْ كُلّ شِعْرٍ سَرَىْ فِى النَّاْسِ مِنْ فِيهِ
فحجته الأولى أن هذا الشعر العذب الذي يأتي به ، ويُعجب به محبو الشاعر ومريدوه إنما هو من وحي تلك المحبوبة ،  بل إنَّ كل شعر حسن أتى به وتقبله الناس بقبولٍ حسنٍ إنما هو من فيه تلك المحبوبة .
فـ «جاد» بهذا الصدد يشبه عنترة بن شداد في تعميق المعنى إذا نقرأ لعنترة في شعره ينعت خصمه بكل مقومات الفتوة والفروسية والاقدام ، ثم يختتم قصيدته بالانتصار على ذلك الخصم ؟ وهذا ما يوفر فضاءً من المعاني التي تؤكد أن عنترة أكثر وأعمق من المعاني التي نعت بها خصمه ، كذلك يبين «جاد» ملامح شعره من حسن وعذوبة ، ، ثم يعلن أن هذه الأشعار الجياد إنما هي « من فِيه» محبوبته . 
ومن هنا يقع على عاتق المتلقي تخيل صفات المخاطب . ليكرس ذلك في قوله : 
يَا صِنْوَ يُوْسُفَ فِي حُسْنٍ وَعِفَّتِهِ       مَنْ يَبْتَغِ الْحَقَّ يَجْمُلْ فِيْ تَقَفِّيهِ
 فبعد الإيحاء والتلميح يأتي التصريح ليكون مهندس لغة فقد جاد كل الإجادة في تشكيلها ، ليأتي دور البناء التشكيلي بعد مخططه المعماري ليرسم أكثر من صورة شعرية فصورة بصرية لزهرة وصورة للدر وآخرى للياقوت فالمتلق لا يتخيل صورة الزهرة والدر والياقوت فحسب بل يتخيل حسن المخاطبة / فالأزهار استقت من حسنه ، والدر والياقوت من فيه ، أسلوب عرض الصورة يؤكد أن «جاد» مدرسة شعرية قل نظيرها ولعل الصورة أخطر أدوات الشاعر .
مِنْ حُسْنِهِ تَسْتَقِي الْأَزْهَارُ رَوْعَتَهَا       يُقَلَّدُ الْدُّرُّ وَاليَاقُوتُ مِنْ فِيهِ
إنه التشبيه المقلوب وما فيه من مبالغة محمودة ، فالشاعر لم يقل : إن محبوبته جميلة كالأزهار ، ولم يقل إن أسنانها بيضاء كالدر ، بل جعل الأزهار هي التي تستقي روعتها منها ، والدر والياقوت ما هو إلا تقليد لما في فمها من أسنان وشفتين . 
واسترسل «جاد» بصورة تشبيهية أخرى فيشبِّه محبوبته بالبدر ، غير أنها تمتاز عن البدر بأن نورها ذاتي ، وليس انعكاسًا لنور الشمس كالبدر  ، فيقول :
كَالْبَدْرِ يَسْرِي ، وَلَيسَ الْشَّمْسُ تَحْجُبُهُ       مَا كَانَ حُبُّكَ مِنْ ذَنْبٍ فَأُخْفِيهِ
 ثم يؤكد الصورة فيخاطب الشمس عبر لام الأمر والفعل المضارع متحديًا بكل عنفوان وثبات جأش :
فَلْتَحْجِبِ الشَّمْسُ مَا شَاءَتْ أَشِعَّتَهَا       أَمَّا الظَّلَامُ فَطَيفُ مِنْكَ يَكْفِيهِ!!
عاد «جاد» للصور المتخيلة التي رسمها في ذهن المتلق فقد رسم صورة تشبيهية واضحه «كالبدر» ، وهذه الصورة هادئة ، لكنها وكما يقال في لغة الحرب : الهدوء الذي يسبق العاصفة ، فكانت الأخرى مستغنيًا عن الشمس «لتحجب الشمس أشعتها » ، ولا يكترث للظلام.
« فَطَيفُ مِنْكَ يَكْفِيهِ » شكلت صورة الطيف المتخيلة بؤرة تضيئ وتماطل المعاني وتفتح النص لتعلن عن شعريتها ، فطيف واحد من محبوبته قادر على قهر الظلام  الناتج عن غياب الشمس .
ويراكم الصورة على التشكيل ذاته لتكون صورة للعيون مصدرها إلهام الشاعر ضمن خطاب مباشر يحمل في طياته العتب عبر جملة انشائية  استفهامية :
 أَحْيَيتَ قَلْباً بِمَا أَرْسَلْتَ مِنْ أَمَلٍ.. بِأَيِّ حَقٍّ لِمَا تُحْيِي تُجَافِيهِ؟!  
فالسردية لم تعق «جاد» عن رسم صورًا مدهشة كما يتخللها الحوار الضمني في عتابه ممتزجًا بالصورة ؛
وَالْمَوْتُ أَهْوَنُ مِنْ عَيشٍ بِلَا أَمَلٍ... وَلَا حَيَاةَ لِمَنْ بِالْبَينِ تَنْفِيهِ؟!  
الصورة خلف الكواليس هي صورة المخاطبة صورة الحياة والأمل فالصور المقابلة أكثر وقعًا ، يتماهى «جاد» بعتابه للمخاطب مقارن بين صورتين صورته وصورة المخاطب :
أَوْفَى إِلَيكَ مِنَ الْأَشْوَاقِ أَعْظَمَهَا... لَكِنَّ دَأْبَكَ مِنْ نَأْيٍ تُوَافِيهِ؟!  
مِنْ كُلِّ قَوْلٍ لَهُ بِالْوُدِّ مُتَّصِفٍ  ... فِعْلٌ لَهُ لَاْ يَفِيْ بِالْبَيْنِ ، نَاْفِيْهِ
وقد وفق جاد كل التوفيق وهو يختم قصيدته وهو يصف قلبه بالطلل أثر النوى : 
أَضْنَاهُ جُرْحُ النَّوَىْ حَتَّى غَدَا طَلَلَاً.. يَكْفِيْهِ مِنْ شِقْوَةٍ مَا كَانَ ، يَكْفِيهِ 
خيال واسع ولَّد صورًا مدهشة ، فالصورة هي الوليد الشرعي للخيال .

أخبار متعلقة :