مريرهو ذلك الواقع الذى كنت أعيشه طفلا..هؤلاء الأطفال الذين يميلون إلى الشجار دائما..ينعتوني بأقبح الألفاظ فإذا لم أجبهم بشئ إنهالوا على ضربا لذلك كنت أختبئ فى غرفتي الصغيرة.. أعيش عالمي الخاص بين صفحات الكتب وأحلام اليقظة والخيال..كانت هوايتي الوحيدة هي تدوين تلك القصص التى أنسج خيوطها فى هذا العالم على الورق وهكذا أصبحت كاتبا للقصة فى تلك السن الصغيرة..أنتجت الكثير والكثير منها حتي غدت تلالا من الورق ..وجدت أنه من المناسب أن أحتفظ بما كتبته فى صندوق من الورق المقوي بجانب مكتبي..كنت القارئ الوحيد لها وكانت قراءتها تمثل لى متعة خاصة ..كنت أسترجع معها كل المواقف السابقة, ولكن بإحساس مختلف, وهوأنني المتحكم فى الأحداث, وأوجهها كيفما أشاء..هكذا استمر الحال حتي غادرت منزلنا فى القرية إلى الجامعة..فتركت تلك القصص فى غرفتي, رغم أنني اعتبرها جزء مني أن لم يكن كياني كله, وفى أول زيارة لى إلى المنزل, هرعت إلى غرفتي لأعانق أوراقى, وقصصى التى افتقدتها كثيرا, ولكني لم أجد شيئا..صرخت حتي سمعت القرية كلها صوت الصرخة:
- أين صندوقى الذى بجوار المكتب؟
أجابتني والدتي بصوت يحمل مزيجا من الخوف مما أصابني والغضب الشديد من صراخي المبالغ فيه:
- لقد تخلصت من كل القمامة يا بني, وأستخدمتها فى إشعال الفرن
صمت لحظات أنظر لها بغضب, ثم سرعان ما هدأت حيث تحولت تلك النظرات إلى حب, وأنا أتذكر مقدار التضحية التى بذلتها تلك المرأة من أجل أن أكمل تعليمي فى الجامعة, وأحصل على كل ما أردته من كتب ومجلات وصحف.. كانت توفر لي القروش القليلة من أجل ذلك, ففى الحقيقة هي المالك الأصل لتلك الأوراق؛ لذلك قلت لها وانا أقبل رأسها:
- أرجوك يا والدتي! ..أتركي أغراضى لأنني أحتفظ بها ليس من أجل الفرن بل لأنها شئ مهم يخصني
تأسفت؛ لأنها أغضبتني قائلة بلهجتها القروية المحملة بعبق التاريخ, وكل حنان الأرض الممتزج بتضحية الأم:
- يقطعني يا أبني
تركتني, فرحت احاول صياغة تلك القصص من جديد, لقد وجدت فيما فعلته أمي منحة قدرية لصياغة تلك القصص من جديد..كتبتها بطريقة أكثر إحترافية ورممت ما بها من نقص؛ فبدت مكتملة الأركان وجيدة بشكل يؤهلها للنشر, لكنى رغم ذلك كنت أنشر كل جديد أكتبه, واحتفظ بتلك القصص معي أينما ذهبت حتي لا يكون مصيرها كسابقتها فى جوف الفرن..لم افكر يوما فى نشرها كانت بالنسبة لى قطعة من نفسى, وسرا لا أبغى الكشف عنه لأحد.
مضت الآن عشرون عاما منذ أن تخرجت من الجامعة..طبع لي خلالها أربع مجموعات قصصية, ونشرت في معظم المجلات والصحف العربية, فغدوت معروفا لدي المثقفين والكتاب والأدباء, وكنت ضيفا على العديد من الندوات, بل وظهرت فى الكثير من البرامج الثقافية فى التلفاز, ورغم كل ذلك لم أجن يوما جنيها واحدا مما كتبته..كنت أعيش من راتبى البسيط كموظف فى الدولة الذى كان بالكاد يكفى إحتياجاتي اليومية, وعندما أحس بعدم جدوي الكتابة فى تغيير حياتي للأفضل, وتحقيق مطالب أبنائى التى لا تتوقف؛ كنت أخرج قصصى القديمة التى كتبتها وقت الطفولة, وما زلت احتفظ بها فى خزانتي؛ لأذكر نفسي بأن الكتابة هي من أنقذتني في يوم ما, وجعلتني أستمر فى تلك الحياة البائسة, حتي جاء اليوم الذى مرضت فيه أبنتي الصغيرة الغالية, وهي بالنسبة الزهرة الجميلة فى أرض هذه الدنيا الجرداء, والأمل والدافع الذى من اجله أتمسك بالبقاء حيا حتى الآن, ولم أستطع توفير نفقات علاجها ..ظللت أبيع كل ما أملك من أجلها, فباعت والدتها ذهبها, وبعت انا بعض الأجهزة, ولكن كل هذا لم يكن يكفى..أخبرت أصدقائي المقربين بمشكلتي فساعدني البعض منهم على قدر إستطاعته, وفى يوم ما فاجئني صديق ما, وكان يعمل صحفيا قائلا:
- أنا أعلم أنك تملك كنزا من القصص التى لم تنشر من قبل
تعجبت مما قال, وجاوبته بسؤال آخر عن علاقة قصصى القديمة بما أنا فيه, فأخبرني بأن أحد المؤلفين الكبار للسينما يشتري تلك القصص بمقابل مادي كبير وينسبها لنفسه..أصابتني صدمة مما قال, ورفضت بشدة كيف لى أن أبيع ما لم أستطع حتي نشره! لأنه بالنسبة لى لحم من لحمي وعظم من عظامي.. كيف أسمح لأحد مهما علا شأنه أن يسرق مني لحظات عشتها وحفظتها على الورق بعيدا عن أعين الجميع!..ظل صديقى يجادلني, ولكني أبيت أن أوافق, فتركني مع حيرة وغضب..مضت الأيام ثقيلة, وأن أري أبنتي تبتعد كثيرا عن وعيها بتأثير المرض, وتقترب كل يوم من الموت, وأنا عاجز عن توفير نفقات المستشفى والعلاج لها ..لم يكن هناك مفر من ذلك..نهضت وأخرجت بعضا من الأوراق من الخزانة ..أتصلت هاتفيا بصديقى لأخبره أنني قررت أن ابيع له قصصي القديمة.
أخبار متعلقة :