السلطان بين العصا والجزرة
بعد انطلاق شرارة الحرب العالمية الأولى عام 1914 ودخول تركيا في معسكر المحور كانت مصر محط أنظار الإمبراطورية البريطانية لضرورة تأمين هذه الجبهة فأجبرت بريطانيا مصر على توقيع اتفاقية المشاركة في الحرب العالمية الأولى رغما عن رغبة رئيس وزرائها حسين رشدي باشا الذي كان مؤثرا للحياد في هذه الحرب التي لا ناقة لمصر فيها ولا جمل لكن مصر كانت دولة محتلة آنذاك لا تملك من إرادتها شيئا لكن هذا الإجراء لم يكن كافيا لضمان وضع مصر فأقدمت بريطانيا على عزل الخديو عباس حلمي الثاني الموالي للباب العالي والذي كان متواجدا بتركيا وأرسلت إليه بعدم العودة ..
كانت مسألة ضم مصر للإمبراطورية البريطانية دون حاكم مسألة قد تثير حفيظة المصريين مع رفض أبناء الأسرة العلوية خلافة عباس حلمي الثاني إلى أن استطاعت بريطانيا إقناع الأمير حسين كامل عم عباس حلمي الثاني بتولي حكم مصر في ظل الحماية البريطانية ..
عوامل كثيرة كانت يخشى منها حسين كامل أولها ماذا لو كسبت تركيا الحرب؟ لكنه خشي من عاقبة ضياع الحكم من يديي أسرة محمد علي باشا مع تلويح الإنجليز بإمكانية تولي أغاخان زعيم الطائفة الإسماعيلية بالهند لحكم مصر .ثمة أمور أسرية كانت تدفع حسين كامل للتردد ومنها زوجته ملك هانم التي كانت تدين بالولاء لأم عباس باعتبارها كانت جاريتها في السابق وأعتقتها كما أن ابنه الأمير كمال الدين كان متزوجا من شقيقة الخديو السابق عباس لكن حسين كامل حسم أمره بأن السعي نحو جعل وراثة العرش في أنجاله أمر يستحق المغامرة وهي الضمانة التي لم تعطها بريطانيا له في البداية .
لا نستطيع أن نغفل أن السلطان حسين كامل كان يضمر العداء لتركيا ويعتبرهم السبب الأساسي في دخول الإنجليز لمصر وهو ما يتضح من مذكرات شيخ الأزهر (محمد الأحمدي بن إبراهيم الظواهري) والذي تحدث عن مائدة سلطانية جمعته وكان لايزال شيخ معهد طنطا مع شيخ الأزهر سليم البشرى والسلطان حسين كامل في رمضان ودار الحوار حول اندهاش السلطان من علاقة المصريين بالأتراك وهنا قطع الشيخ الظواهري صمت باقي المشايخ بالقول: إن المصريين يا مولاي معذورون في عدم معاداة الأتراك فهم حيرى بين صديق ووالد فأما الصديق فهو إنجلترا وأما الوالد فهو تركيا ولو زاد الشيخ على صمتهم صمته لكان أفضل وقارا وأحسن قيلا .هنا غضب السلطان متسائلا عن من أدخل الإنجليز إلى مصر ؟! قاصدا تركيا .
الحقيقة أن علاقة المصريين بالأتراك علاقة كانت قائمة على مسألة الولاء لمقام الخلافة وإزاحة هذا الولاء بين يوم وليلة ليس بالأمر الهين وهو ما أدركه السلطان لذلك فقد خشي من حجب الدعاء للخليفة على المنابر وهو التقليد المعمول به منذ الفتح العثماني وهو ما قد يؤدي لتهييج الرأي العام وفي نفس الوقت لا يستطيع إبقائه ويغضب بريطانيا وهي في حالة حرب مع تركيا وهنا تحدثنا مذكرات الشيخ الظواهري أن رئيس الوزراء حسين رشدي باشا استدعاه لبحث هذه المسألة فأشار عليه بإبقاء الدعاء للخليفة مع عدم ذكر اسمه وأن يكون الدعاء له بالتوفيق لا النصر !!! وهو الأمر الذي استحسنه رشدي باشا ومضى في تنفيذه.
خشية السلطان من الغضب البريطاني وردة أفعاله المبالغ فيها كانت واضحة مع إعلان بريطانيا فرض الأحكام العرفية في مصر عام 1915 مما جعل المعارضين في مصر رهن الاعتقال ومن الحوادث التي تبرز ردود الأفعال المبالغ فيها ما قصه علينا الشيخ الظواهري في مذكراته أيضا من أن إلقاء بعض طلبة المعهد الجديد بطنطا لأطراف الجزر وبقاياه أثناء الفسحة على جنازة رجل مسيحي يوناني أشعلت فتيل فتنة كبيرة فقد رفع رجال الدين الروم بأمر الحادثة إلى السلطات العسكرية الإنجليزية والتي رأته بمثابة سخط على الأحكام العرفية في البلاد وأصرت على جلد الطلاب وهو ما وجد تعضيدا من الحكومة المصرية والسلطان ويحكي الشيخ أنه شرح للفريق إبراهيم فتحي باشا مدير الغربية حقيقة الأمر وبساطته وهو ما رفعه بدوره لرئيس الوزراء رشدي باشا .
على الجانب الآخر ضاق الشعب ذرعا بذلك فنجد امتناع طلبة كلية الحقوق عن لقاء السلطان وفي عام 1915 قبض على أحد المارة لعلو صوته بالقول "يا مسهل يارب" على مقربة من موكب السلطان مما فسر أنه رغبة من الرجل بالخلاص من السلطان فقبض عليه بتهمة العيب في حق أفندينا .
ومن طرائف عام 1915أن رئيس الوزراء حسين رشدي باشا كان قد أصدر قرارا بمنع تصدير "المواد والمحصولات الغذائية" في 2 اغسطس 1914 لكنه وبتاريخ 5 يناير 1915 استثنى من ذلك نوع الحلوى المعروف "بالكراملا" والذي يجوز من الآن فصاعدا تصديره بلا شرط ولا قيد ونشر هذا الخبر الرهيب في الوقائع المصرية !!
كل هذا لا يمنع أن للسلطان وجها آخر أكثر عطفا وتواضعا ولكن مع محيطيه
السلطان والنجفة
وجد السلطان يوما أن النور ضئيل في أحد دهاليز قصر عابدين فأمر محمود شكري باشا ناظر الخاصة السلطانية بإحضار نجفة فطلب الأخير من كبير مهندسي السرايات السلطانية "المسيو مركوريان" تحقيق الأمر والذي بدوره طلب من أمين المخزن حسن أفندي فتح مخزنه للبحث عن نجفة للسلطان فرفض حسن أفندي محافظا على عهدته رغم كل سبل التهديد والوعيد فلما بلغ ذلك السلطان استدعاه وسأله عن سبب امتناعه فرد حسن أفندي : "لا أستطيع أن أخون الأمانة بإعطائه (يقصد مفتاح المخزن) إلى شخص غيري إما إذا طلبتموه مني عظمتكم شخصيا فإني أنزل على إرادتكم وأعطيكم إياه" فأعجب به السلطان وأمر بزيادة راتبه من سبعة جنيهات لخمسة عشر جنيها لإخلاصه وحرصه على عهدته.
وحينما مات حسن أفندي في حياة السلطان أمر بعشرين جنيه تصرف لأرملته وأولاده ...هذا النوع من القصص التاريخي صح أم لم يصح ينبغي أن نستفيد منه في تعظيم دور الأمانة في حياتنا والحرص عليها ومقابلتها بالشكر والتقدير من جانب المسؤولين ..
السلطان والبصارة
من جميل ما يروى عن السلطان حسين كامل أنه سمع أحد تشريفاته يبدي ملله من ألوان الطعام التي تقدم واشتهاؤه لطبق بصارة.
فما كان من السلطان إلا أن أمر بتهيئة أكلة بصارة لموظفيه في المساء وبينما صاحبنا التشريفاتي يعرض على السلطان بعض الأوراق بشره السلطان ضاحكا :" ستأكلون غدا إن شاء الله طبق بصارة على كيفكم" فارتبك التشريفاتي أما السلطان فأغرق في الضحك.
وهنا ملمح لما يجب أن يكون عليه المسؤول من البساطة والرفق وهو جوهر تقوية وشائج العمل ونجاح أي فكر مؤسسي.
الوريث
حلم السلطان حسين كامل الذي قبل من أجله كل هذه التضحيات سرعان ما تبدد بعدما تنازل ابنه الأمير (كمال الدين حسين) عن خلافة والده وقد جاء في خطابه لوالده في 8 اكتوبر 1917 أنه "مقتنع كل الاقتناع بأن بقائي على حالتي الآن يمكنني من خدمة بلادي بأكثر مما يمكن أن أخدمها به في حالة أخرى".
وقد ذهب المؤرخون في بواعث الأمير في ذلك مذاهب شتى فمنهم من رأي أن ذلك لرفض الأمير لاستمرار الحماية البريطانية وهو أمر لا أعتقد صحته فقد كان باستطاعته إدارة المفاوضات مع إنجلترا لرفع الحماية كما فعل فؤاد ومنهم من رأي أن الأمير تنازل من أجل قصة حب جمعته بفتاة فرنسية تدعى (فيال ديمنييه) تزوجها وأنجب منها سرا ورفض الملك فؤاد الاعتراف بهذه الزيجة ولا أرى وجاهة في هذا الأمر فالأمير ليس بحاجة للزواج السري فقد سبقه محمد علي باشا وعباس حلمي الثاني في الاقتران الرسمي بأجنبيات ولكنه ربما كان لولع البعض بقصة تنازل إدوارد الثامن ملك بريطانيا حتى يتزوج من المطلقة الأمريكية (واليس سمبسون) ومحاولة النسج على منوالها من حياة القصور المصرية والصواب في وجهة نظري أن تنازل الأمير كان راجعا لسماته الشخصية وولعه بالصوفية وحياة الدراويش والزهد ولعدم إنجابه أطفالا وقد شاركته زوجته الأميرة (نعمت الله) هذه الحياة الزاهدة.. و يظهر اهتمامه جليا بالتصوف في تبرعه لتجديد تكية البكتاشية (إحدى الطرق الصوفية الألبانية وقد رحلت بعد ثورة 1952) وضريح الشيخ عبد الله بكتاش المعروف باسم ضريح البابا عبد الله المغاوري الأرنؤوطي وفي وصيته بالدفن بالقرب من كهف البكتاشية المقدس على جبل المقطم.
أخبار متعلقة :