من بين معايير الحكم على الشعوب، إدراكها لتلك اللحظة الفاصلة التي يتحول فيها الأثر من مجرد كونه أثرًا إلى تراث وحضارة وهوية أمة، ومن بين معايير الحكم على هذا الأثر نفسه، رغبة الآخرين في حرمانك منه والاستحواذ عليه.
ما سبق، عبارة عن كلمات لها معني يعيها جيدا كل مواطن يعشق تراب بلده، من هنا كانت بدايتي الحقيقية مع عشقي لآثار بلدي، فى بداية ثمانيات القرن الماضي، وأنا ما زلت طالباً، شاءت الظروف أن يُلقى بي القدر للإقامة المؤقتة في مملكة السويد (أقصى الشمال) حيث الطبيعة الخلابة والجو الثلجي الساحر في بداية حياتي لأسباب معيشية معروفة، مثلي في ذلك – بالطبع - مثل الغالبية العظمى من شبابنا البائس، الباحث عن "لقمة" العيش وادخار بعض الأموال اللازمة لتلبية احتياجات الحياة كالزواج و.....
من هنا، ظننت أنني - كأي شاب يحلم بجنة الله على الأرض فى مثل هذه الدول - سأجد عملاً يحقق لي ما أصبوا إليه، وأعود إلى بلد حتى أحقق الجزء الأهم من أحلامي بالزواج والاستقرار، لكن ليس دائما تأتى الريح بما تشتهى السفن، بحثت كثيراً عن عمل هنا وهناك دون فائدة، ذات ليلة ممطرة كنت أتجول في شوارع العاصمة السويدية ستوكهولم، أرفع وجهى إلى الله عسى أن يرزقني بعمل يكفيني معاناة شهر كامل أنفقت فيه كل ما أملك من مال فى هذه البلاد.
فى الشارع، وأثناء مناجاتي لخالقي بصوت مكلوم، سمعتني سيدة سورية في العقد الرابع من عمرها كانت تمشى بجواري، سألتني عن جنسيتى؟، أجبتها: أنا مصري، طالب جامعي، فصمتت لحظة، ثم أخرجت قلما وورقة من حقيبتها، وكتبت لي رقم هاتف لرجل مصري، وقالت لي: "اتصل به، وسوف يساعدك في عمل مناسب خلال الفترة التي تقيمها هنا، فهو صديق حميم لزوجي و...."، شكرتها جدا، وذهب كل من الى حال سبيله.
بعد ذلك، ذهبت إلى حيث إقامتي في فندق متواضع بالعاصمة السويدية، وفى الصباح هاتفت الرجل المصري الذى سأعمل معه، فما كان منه إلا أن رحب بي جدا، ووعدني انه سيقابلني بعد ساعات قليلة في مكان "ما"، أعطاني تفاصيل كاملة عنه، جاء الرجل واسمه "سامى"، علمت فيما بعد أنه شقيق الأستاذ محمود أبو زيد السيناريست المشهور بفيلم "العار"، الذى قام ببطولته كل من :حسين فهمى ومحمود عبد العزيز ونورا ونور الشريف ووجدي العربي والهام شاهين وطارق دسوقي، اصطحبني الأستاذ سامى معه في سيارته ماركة "الفولفو" إلى بيته ليومين، حيث كان هذا الرجل الكريم متزوج من سيدتان، أحدهما سويدية له منها ولدان، والأخرى تركية وله منها ولد.
أقمت مع "سامي" عدة أيام بفيلته التى تقطنها الزوجة السويدية، خمسينية رائعة الجمال، وتعمل بمهنة التمريض، وللحق أشهد بأنها كانت سيدة عظيمة بكل ما تحمله الكلمة من معنى حسب ما لمست من معاملتها مع زوجها وأولادها، عاملتنى أنا أيضا بأفضل ما يمكن، كانت لي كالوالدة أو الأخت الكبرى، كان واضحا أنها تكرمنى فى شخص زوجها المحترم، فجزاها الله عنى كل الخير.
بعد مرور حوالى عشرة أيام من ضيافتى فى منزل "سامى"، وجدته يقول لى :"خلاص يا حنف واجب الضيافة انتهى، وجاء وقت العمل"، سعدت طبعاً بهذا الكلام ووضعت ملابسى فى شنطتى ثم ركبت معه سيارته بعد أن ودعت ولديه وزجته شاكراً لهم حسن الضيافة ورقى المعاملة.
بعد حوالى ساعتين من ركوبى السيارة وصلنا إلى مدينة مقر إقامتى الجديد فى مدينة" مالمو" كانت عابرة عن صالة ومطبخ وحمام، لاتزيد مساحتها عن 20 متراً فى مجمع سكنى فوق ربوة مرتفعة عن الأرض بحوالى 30 متراً، مكان غاية فى الروعة والجمال، لاينقصه سوى أديب أو شاعر يقطن فيه حتى يُشاهد من الشباك الزجاج الكبير منظر الثلج يتساقط من السماء كما لو كان قطع من القطن المصري ناصع البياض.
سألنى "سامى" عن رأيي فى المكان، وما إذا كنت أحتاج إلى أى شئ لزوم المعيشة لحين أن يزورنى فى نفس الميعاد من الأسبوع القادم، وقبل أن أشكره على كل شئ طيب فعله معى وجدته يُخرج من شنطته مجموعة صور من البردى المصرى مرسوم عليه شخصيات فرعونية شهيرة مثل: كليو باترا ونفرتيتي ونفرتاري ورمسيس وخوفو وخفرع وامنحتب ..وبجوار هذا الوجوه كان يوجد فى البرديات بعض الرسومات الفرعونية ذات المناظر الخلابة.
كان "سامى" يعطينى درساً جميلاً عن تاريخنا الفرعونى كلما أخرج بردية، كان يشرح لى لمن تكون وكيف فعلت وما دورها فى الحضارة المصرية، وظل الرجل على هذا الحال حوالى 4 ساعات متواصلة، بعدها شرح لى كيف أسوق هذه البضاعة الراقية للعملاء السويديين من خلال كلمات سويدية بسيطة كتبها لى وحفظتها عن ظهر قلب مثل " دو كان تيتا"؟؟.. وتعنى : "ممكن تشاهد ما معى"، فإذا وجدت قبولا من العميل سواء أكان ذلك فى الشارع أو فى المنازل، فحينها أكل معه بقية الحديث وأخبره بأننى طالب مصرى وأدرس فى مجال الآثار، وأن هذه الرسومات من عملى.
فهمت كل شئ من "سامى" وبعدها استأذن الرجل وذهب إلى حال سبيله بعد أن اتفقنا على نسبة الربح كل منا، وللحقيقة لم أجد أفضل من معاملة هذا الرجل معى فى الجوانب المادية تحديداً، فعندما يزورنى بشكل دورى كل أسبوع ليعطيني بضاعة جديدة بعد ان أكون قد سوقت البضاعة القديمة وأعطيه ما معى من أموال، أجده يستحلفنى أن آخذ ما يكفينى بعد خصم مبلغ الإيجار وفاتورتى الكهرباء والمياه والغاز.
كان عملاً ممتعاً للغاية، كنت أشعر حينها بأننى سفيراً سياحياً وأثرياً لبلدى فى هذه المملكة الجميلة، حكايات وروايات كنت أسمعها من الشعب السويدى(نساءً ورجالاً..شباب وشابات) عن تاريخ مصر وحضارة مصر تقشعر لها الأبدان.....!!، من زار مصر منهم كان يحدثنى عن أسماء مناطق بعينها..وعن تاريخ هذه المناطق والآثار الموجودة فيها وقيمة هذه الآثار التاريخية، أما من لم يزر مصر فكان يحدثنى عن حبه لمصر وتاريخا وعظمة حضارتها وقيمة الفراعنة الذين ساهموا بعلومهم فى تقدم وتطور حضارات العالم كافة.
من المواقف الواجب ذكرها فى هذا السياق، هى مقابلتى لرجل يهودى الديانة ومصرى النشأة، كنت أبيعه بعض البرديات، أمسك بالبردية ونظر إليها نظارت عميقة امتزجت بالبكاء والحنين والشوق فى آن، سألنى باللغة الإنجليزية من أى مكان فى مصر؟؟..وعندما جاوبته بلغة انجليزية متعثرة بعض الشئ..ابتسم وقال لى:هل تتحدث العربية؟؟، قلت له والسعادة تغمر قلبى: نعم.. ثم سألته:هو حضرتك عربى؟، طيب منين تحديداً، سوريا.، لبنان، العراق..؟؟، أجابنى بنوع من الود والمحبة قائلاً: لا يا سيدى، أنا من مصر زيك بالضبط ومن حى السيدة زينب تحديداً.....!!، على الفور وجدت نفسي أقول :"يا الله".. هذا ما سمعه منى، فقال لى لا تستغرب فإن لى ولأسرتى قصة مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر جعلتنا نترك مصر ونقيم فى السويد.
تحدثنا معاً حوالى ساعتين، أصر بعد ذلك هذا الرجل وكان يُدعى "بنيامين" فى العقد السادس من عمره أن يعزمنى فى منزله الذى يبتعد عن مكان لقاءنا نحو 25 دقيقة بالأتوبيس، قبلت الدعوة وذهبت معه فوجدت زوجته وابنته ترحبان بى بشكل غير عادى، داخل منزل اليهودى - المصرى شاهدت ما لم أتوقعه، على جدران غرفة الاستقبال وضعوا صورة من ورق البردى داخل برواز كبير ومعلقة بشكل رائع للزعيم خالد الذكر جمال عبد الناصر وبجوارها صورة لبطل الحرب والسلام محمد أنور السادات، وصورة أخرى لكوكب الشرق أم كلثوم..أعلى الثلاث صور يوجد صورة كبيرة للأهرامات الثلاثة..خوفو وخفرع ومنقورع، وفى روحانيات هذا الجو الجميل سمعت صوت جارة الوادى السيدة الجميلة فيروز تغنى "على جسر اللوزية"، كل هذا جعلنى أجلس وأنا مطمئن.
جلست معهم لمدة 4 ساعات متواصلة أضافونى فيها على أشهى المأكولات والمشروبات وكأننى ابناً لهم لم يروه منذ زمن، كنت سعيد جداً بهذا الحفاوة ولم أهتم بجانب الديانة أو أى شئ آخر، وقبل أن أنصرف استأذنى "بنيامين" أن أعطيه كل البرديات التى فى حوزتى وأقول له على ثمنهم، فما كان منى إلا أن أمتثل لطلبه، وهذا كرم كبير جدا من هذا الرجل، وقبل أن اتحدث فى موضوع السعر، وجدت زوجته تخرج مبلغاً محترماً من "الكرونات" وهى العملة الرسمية للسويد ثم تضعهم فى ظرف وتلقى به فى جيبى، وتقسم على هى وابنتها أن أكرر الزيارة كلما سمحت لى الظروف، شكرتهم على ما فعلوه معى وذهبت إلى حال سبيلى، وانا أسير فى طريقى إلى مكان إقامتى كانت تحدثنى نفسي عن بلدى الحبيبة، مصر التى تسكننى..مصر التاريخ والجغرافيا، مصر الإنسان والطبيعة الجميلة..مصر مسرى الأنبياء والرسل، مصر الخير على أهلها وكل من يلجأ إليها، مصر العلم والحضارة.
بعد هذا الموقف الغريب، كنت أبيع لوحات البردى فى منطقة تسمى "فكشيو" تبعد عن العاصمة مالمو حوالى 100 كيلو أو أكثر قليلاً..وإذ بسيدة سويدية فى العقد الخامس من عمرها تريد شراء صورة للملكة كليو باترا، تحدثت معى بالانجليزية وفهمت منها مدى سعادتها بهذه البردية، وكم تعنى الملكة الفرعونية الشئ الكثير بالنسبة لها، بالطبع كنت سعيدا بما أسمعه عن تاريخ وعظمة وملوك بلدى، سألتنى عن سعر البردية فقلت لها مائة كرونة، والكرونة فى هذا التوقيت تعادل خمسون قرشاً تقريباً، وفوجئت بهذه السيدة تمنحنى 300 كرونة !!، أى بزيادة 200 كرونة عما طلبت، يا الله، كم هذا عظيم أن يمنحنا الخالق أجدادا عظماء نعيش حتى على سيرتهم العطرة بعد مماتهم بآلاف السنين.....!!
ومن المواقف الجميلة التى أسعدتنى بحق، هى أننى دخلت كنبسة خارج مدينة مالمو بسبب تأخر الوقت وعدم وجود مواصلات تقلنى إلى مكان سكنى، كانت درجة الحرارة تحت الصفر بحوالى 10 درجات، طرقت باب الكنيسة ثلاث طرقات، خرج لى قس فى السعين من عمره..تكسو وجهه ملامح الإيمان، لم يسألنى عن حاجتى منه كعادة الناس فى مثل هذه الحالات، بل قال لى تفضل يا بنى، كدت أتجمدت لولا أن احتميت بالكنيسة، أدخلى الرجل غرفة رها من وسائل الراحة ما كنت أتمناه، غاب عنى لحظات ثم أتى لى بقفازين وطبق به شربة خضار وشريحة لحم وقطع من الخبز مع القشطة والزبد، نظر الى نظرات كلها مودة ورحمة، وقال لى تفضل كل يا بنى.
حاولت ان أتحدث معه لكنه كان يرفض الحديث قبل أن أتناول الطعام وآكل بعض الفواكه التى كانت تملأ ثلاثة أطباق على منضدة الطعام، إمتثلت للأمر وأكلت حتى شبعت، ومن الأمور اللطيفة أننى كلما توقفت عن الطعام أجد القسيس يحثنى على مواصلة الأكل حتى أشبع، وبعد أن انتهيت من الأكل والشرب، قال لى القسيس: فهل تريد أن تصلى؟؟، قلت له أنا مسلم، ابتسم الرجل وقال لى:أنا أعرف، وها هى سجادة الصلاة داخل الدولاب الموجود أمامك..قلت له نعم أريد أن أصلى بعد أن أتوضأ، أشار لى القسيس على مكان الوضوء فتوضأت والعشاء، ولعدها قال لى: الآن يمكنك أن تستريح وسأوقظك فى الصباح حتى تحكى لى حكايتك.
فى السابعة صباحاً وجدت القسيس ومعه خادم أفريقى فى الثلاثين من عمره تقريباً يوقظانى لللإفطار، قمت من نومى وتوضأت وصليت الصبح، ثم تناولت معهما الفطار بعد ذلك ظل القيس لأكثر من ثلاث ساعات يحدثنى عن حضارة مصر وآثارها العريقة وأسرار فن التحنيط الذى برع فيه الفراعنة وأعجزوا به العالم حتى يومنا هذا، بعد ذلك انتقل إلى الحديث عن الكنيسة المصرية ودورها الدينى العظيم فى نشر السلام والمحبة، بصراحة كنت أتمنى ألا أبرح هذا المكان لكن للضرورة دائما أحكام، بعد انتهاء الحديث الذى لايشبع أبداً، قام القس ومعه الخادم الافريقى وأوصلانى إلى محطة الأتوبيس ولم يتركانى حتى ركبت واطمأنا على.
لهذه الأسباب وغيرها كان لابد أن أعشق بلدى أكثر وأكثر، أعشق هواها ومياهها وحضارتها وآثارها، وهل يعقل أن أسمع عنها كل ما سمعت وأقف عاجزا عن حبها.....؟؟!!
أخبار متعلقة :