وحيداً ..
فتح نافذته المطلة علي الشارع , بدأ يتنفّس أنغام الموسيقي , تغازله الأضواء في هيئتها المتناثرة ليلا ورائحة البخور التي تسرّبت إليه كمن وطأت قدماه بلاد , يود لو أنه احتضن كل ما فيها , هذه الرائحة التي جعلته يعود متقهقرًا بقطار الزمن إلي رائحة البخور التي كانت تطوف أرجاء حجرته محملة بأنفاس أمّه ودقات قلبها التي تدعو له ذهابا وإيابا , ممتطيا جواد ذكوريّته , يقطف النجوم بيديه من سماوات بعيدة ويسطّر تاريخا من الانتصارات لم يصل لمثله احد , يركب أمواج البحر بقارب صغير ويعبر حدود البلاد محمّلاً بعجائب الحيوان والطير , تلمع عيناه بذكاء شديد , يستطيع أن يتقدم الصفوف , كمخرج كبير له الحق في توزيع الأدوار أثناء اللعب , تقتله الهزيمة ويجعله النصر ملكًا متوّجًا , ربما لأنه كان الأقل حظًا في ظروف بيئته وضيق حال والده , نصب فخاخا كثيرة لطفولته , جعلت منه وحشًا يطارد غزلان البراءة داخله فتسقط صرعى بين فكي غطرسته واللامبالاة , يشعر دائما بازدياد رغبته في امتلاك كل شيء , أصبح مثالا حيّا لبطش الحياة حتى تحيل طائر اليمام إلي صقر جارح , يالها من أيام ..
ضجيج صوت السيّارات , مكبرات الصوت خارجة من أحد الشوارع الجانبية بأغنياتها الصاخبة , لا تحمل شيئاً من الرقة وعذوبة الكلمة , ذهب بخياله بعيداً مرّة أخري مرتدياً ثياب طفولة مكدّرة , حذاء اسود تملؤه الشقوق وقميص بنّي بهتت ألوانه , سنوات عمر أكلت أصابع بهجتها الحياة , وتركت لها القليل تلعقه ألسنة القهر بدم بارد , ارتسمت علي وجهه ابتسامة رقيقه , تذكر يوم أن أصبح ثريّا بما يكفي لشراء قصر علي النيل , لديه صندوق خشبي كبير يحوي الكثير والكثير من أغطية زجاجات .. (الكوكاكولا والبيرة والشويبس وغيرها .. ) , كانت شهوته الأولي التي يشعر من خلالها بزهو المنتصرين وكأنها خزائن هارون , أصبح تدلّله لنفسه مرض عضال , أصاب الآخرين كما أصابه , نفد صبر أمّه , تجمّد قلبها الحاني للحظات لم تعرف لسابقها مثيل , فراحت بكل قوّتها تكسّر الصندوق الخشبي , تبعثرت الأغطية يميناً ويساراً حتى ملأت أرضية الحجرة التي لم تظهر نقوشها من كثرتها , أوقات عصيبة عاشها في تلك الليلة , حملته أمّه بكِلتا يديها ثم ألقت به فوق سجادة الأغطية المبعثرة , ليرشق في رأسِه إحداها بأسنانه المدببة كأنها حربة , بدأت الدماء تسيل من رأسه غير مصدق لما حدث , راح يتخبّط بين حوائط الغرفة , كمن يبحث عن بقعة ضوء في صحراء معتمة , عاني قليلاً ولكنها لحظات وكأنّها دهر حتى عثر علي الباب , ترك لقدميه الطريق بكل قوّته جرياً لا يعلم إلي أين ؟ , شعر بقشعريرة في جسده , مسح عيناه التي ترغرغت بالدموع , أغلق النافذة واستدار بالكرسي المتحرك متجها إلي المرآة , يقرأ بعضا من التفاصيل التي تركتها سنوات عجاف , يالها من آثار لا تزال علي جبهتي وكأن الدماء تسيل منها اليوم .
أخبار متعلقة :