بوابة صوت بلادى بأمريكا

يس العيوطي يكتب : الرئيس بايدن حبيب السكك الحديدية

طوال خمسين عاماً، وجوزيف بايدن قبل توليه الرئاسة فى البيت الأبيض يركب القطار من محطة قريبة من منزله فى ولاية ماريلاند إلى العاصمة واشنطن، وكانت هذه عادته التى تمليها عليه عاطفة الأبوة لكى يغطى صغاره ويقبلهم قبل أن يناموا.
منشأ هذه العادة هو أن زوجته السابقة ماتت فى حادثة سيارة مع إبنتها، ووجدوا ابنها الصغير "هنتر" يحتضن أمه المتوفاه فى صمت ودموعه تنهار على خديه.
الأمريكيون شعب يشبه الشعب المصرى فى عواطفه القوية. ينتحبون بشدة وبضوت عالى فى أحزانهم، ويضعون باقات الورد على أماكن الحوادث القاتلة، ويقيمون احتفالات سنوية استذكاراً لمن اختطفهم الموت منهم. من أهم المقالات التى يكتبونها هى مقالات التأبين المفعمة بالتواريخ الشخصية إبتداء من سنوات الطفولة، مقالات تعتبر قطعاً من نسيج أدب عميق يعكس أطوار الحياة التى مر بها الفقيد أو الفقيدة ويشاركهم الأهل والأصدقاء فى تلك المقالات التى ينتشر بعضها فى الصحف والتلفزيون والسوشيال ميديا.
والمعروف أن جوزيف بادين شخصية شعبية يخاطب الجميع من يعرفهم ومن لايعرفهم على السواء وخاصة عمال السكك الحديدية. قضى خمسين عاماً فى مجلس الشيوخ عن الحزب الديمقراطي، وكان اليد اليمنى للرئيس باراك أوباما الذى عمل معه كنائب رئيس طوال ثمانية أعوام. وكان بايدن هو مهندس القانون المعروف بقانون الرعاية الصحية القليلة التكلفة The Affordable Care Act الذى جعل من أمريكا دولة تنفق بسخاء على المستشفيات والمرضى والأبحاث الطبية وتكنولوجيا العلاج.
بل إن هذا الاهتمام الكبير بميدان الصحة العامة كان العامل الأساسي فى اكتساب الحزب الديمقراطي لكل الانتخابات العامة منذ الخمسينات بإستثناء فترة صعود الحزب الجمهوري بقيادة دونالد ترامب الى سدة الحكم لفترة لم تزد على أربعة اعوام فقط. ومن المعروف أن الجمهوريين لهم فلسفة فى الحكم تختلف عن فلسفة الديمقراطيين.. الجمهوريون ينادون بضرورة تضييق المساحة الحكومية فى الشئون العامة ، والديمقراطيون منذ أيام فرانكلين روزفلت يرون أن للحكومة دوراً كبيراً فى تلك الشئون. ودفع هذا التناقض بالجمهوريين الى اتهام الديمقراطيين بالاشتراكية وهو اتهام لا أساس له.
بايدن يرى فى السكك الحديدية شرايين تربط أوصال هذه الجمهورية التى تغطى معظم قارة الشمال الأمريكي. وهى نظرة موضوعية وعاطفية فى الوقت ذاته. بنى العمال الصينيون السكك الحديدية الأمريكية فى عام 1865 بعد إنتهاء الحرب الأهلية الأمريكية. وتبعتها مصر فى ذلك فى عام 1866 فربطت بين الاسكندرية والقاهرة والسويس برباط من الصلب قبل أن تكون هناك قناة السويس التى أفتتحت عام 1869.
السكك الحديدية تنقل ثلث كل أصناف التجارة الأمريكية الداخلية الضخمة باسعار متهاودة. ترى قطار البضائع يجر وراءه ستين أو سبعين عربة تحمل كل مايحتاجه الشعب الأمريكى شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً. وليس من المعروف أن حياتى المهنية منذ أن بلغت الـ19 عاماً كانت فى السكك الحديدية المصرية. كنت عامل تلغراف بعد تخرجى من مدرسة السكك الحديدية فى منشية الصدر. كان المرحوم عمى يس العيوطى الذى سمانى المرحوم والدى باسمه بعد أن كان أسمى حين ولدت "هادى العيوطى". أصر المرحوم عمى على تغيير اسمى ليتطابق مع اسمه، كما أصر على أن أتخرج من مدرسة السكك الحديدية لأنه كان يعمل مديراً لمخازن البضائع بمحطة مصر فى باب الحديد.
استرعى هذا جريدة الأهرام حينما زرت القاهرة عائداً من أمريكا إلى الوطن فى إجازة ومعى دكتوراه فى العلوم السياسية من جامعة نيويورك، فكتبت مقالاً عنى عنوانه: "من عامل تلغراف إلى دكتوراه فى العلوم السايسية".
وعوداً الى بادين وغرامه بالسكك الحديدية. فى مطلع هذا الشهر، هدد عمال السكك الحديدية الأمريكية بالإضراب. تظلموا من حرمان الموظفين من أجازات مرضية بأجر. وقالت المتكلمة بإسم مجلس النواب، نانسى بيلوسى Nancy Pelosi بأن الأضراب لو حدث قبيل عطلة الكريسماس ورأس السنة الجديدة (2023) ،وكل عام وانتم بخير، فإنه سيكلف أمريكا خسارة قدرها بليون دولار كل اسبوع.
دعا هذا الوضع جون بادين إلى التدخل كرئيس للدولة لحسم الخلاف وخاصة أن بادين قد وقع على قانون بخفض التضخم المالى. فقام بدور الوسيط فى الخلاف الذى كان 150.000 من موظفى السكك الحديدية أحد طرفيه. والأمر يسير الآن فى طريق التسوية. محور التسوية الموافقة على منح موظفى السكك الحديدية أجازة أسبوع مرضية كل سنة بمرتب، وهو أمر يتوافق مع الوضع فى انجلترا وأوربا الغربية.
ومن الأمور السارة لنا كجالية مصرية فى أمريكا أن نرى أن اهتمام ذوى الأمر فى مصر وعلى رأسهم الرئيس عبد الفتاح السيسى بربط أوصال مصر بالسكك الحديدية والطرق السريعة والطرق الزراعية، أدى هذا إلى اتفاق بين مصر وشركة سيمنز Siemens الألمانية لعمل خط حديدي سريع من العين السخنة على البحر الأحمر الى الساحل الشمالى غرب الأسكندرية لايستغرق سوى ساعتين فحسب. مبروك لمصر.
ومن الطريف بالنسبة لتاريخ السكك الحديدية المصرية أن خطوط القرى كان يربطها قطارات الدلتا التى سميناها "خطوط ساويرس". وكان المرحوم الوالد الشيخ السيد محمد العيوطى يعتمد عليها فى إيصال الأسمدة الكيماوية والبذور الى باب مخازن العيوطى بالقنايات، مركز الزقازيق، شرقية.
ومن أهم تلك الأسمدة سماد شيلى على أسم جمهورية شيلى بأمريكا الجنوبية. كان قطار الدلتا (ساويرس) يقف أمام مخازننا فترة من الزمن تسمح  للعمال بالتفريغ والتخزين إذ كان الوالد ممثلاً للجمعية الزراعية الملكية فى المنطقة. وكنت أقضى أجازة الصيف كلها فى المخزن أبيع الأسمدة والبذور للفلاحين. وكان "الشكك ممنوع والزعل مرفوع"!!
يدفع الفلاح أجر السماد أو البذور قبل أن تحملها حميره وبغاله والجمال (سفن الصحراء) إلى المزارع الواسعة الجميلة المحيطة بقرية القنايات. وأحبنى الفلاحون وأحببتهم. وحينما أقبض الأثمان المعلن عنها، يعطوننا هدايا من الكعك والجبن والبصل، فأقوم بأكلها دون إنتظار، قبل أن أدخل المنزل الكبير (منزلنا) للغداء وكأننى لم آكل شيئاً. وهذا سر المهنة.
علمتنى السكك الحديدية (طرق الدلتا) دبلوماسية الحوار، وأهمية الزراعة والسماد، والحساب إذ كنت أحصى النقود مرتين قبل أن ينصرف المشترى.
وشاءت الظروف أننى لم أستمر فى الدراسة فى منشية الصدرلأتخرج للعمل بالسكك الحديدية، إذ تحولت إلى معهد المعلمين بضاحية الزيتون وتخرجت للتدريس بمدرسة النقراشى باشا النموذجية بحدائق القبة.
الرئيس بادين وأنا نرى فى السكك الحديدية صداقات دائمة، وصفير القطار ينعش ذاكرتى بايام الجمعية الزراعية الملكية وقطارات ساويرس.

أخبار متعلقة :