بوابة صوت بلادى بأمريكا

نُسيبة عطاء الله: القصيدة هي إحدايَ والقصّة هي عيادة الأدب .. أنتصر باللّغة على كلّ شيء

 
 
حوار أجراه: خالد ديريك
 
 
رافق مع صرختها الأولى العناد فالتزمت الصّمت كنوع من الرّفض والتّحدي، ثمّ لاحقها اليتم في السّن الرّضيع إلّا أنّها كانت ذكيّة في طفولتها، كانت تبحث دائما بين الأوراق في مكتبة والدها وكأنّها تبحث عن استفسارات تفوق قدرتها وعمرها، كبرت بسرعة في بيئة من القلق والنّزاع واليتم  فنضجت قبل الآوان، ورثت الطّيبة والكرم كما الحزن والهمّ من والدتها، كأن تسلك دروب النّبلاء، كأن ترى العالم، كلّ العالم جميلا فقط، جنت في المحصّلة أكواما من الخيبات، والمواجع، تعتبر هذه الصّدمات في العالم الحقيقي واردًا ومألوفًا أحياناً، إلّا أنّها حوّلت تلك الخسارات والهزائم  إلى جسور تسير عليها  بأقدام من الإصرار، وبدّلت قطعان الألم بأجراس العطر معلّقة في أفق الفرح، وبالتّالي زيّنت مشوارها بالنّجاحات الأدبيّة والعلميّة وأثبتت أنّها سنديانة لا تلين رغم كلّ الزّوابع. 
وهي تبحر الآن في فضاءات اللّغة والأدب بطرق بارعة بصفتها مبدعة متميّزة، تمتلك شخصيّة قويّة إنسانةً وكاتبة تخوض مجمل القضايا والحسّاسة منها أيضا، إنّها تكسر التّابوهات وتمضي غير آبهة طالما أنّها تقدّم رسالة سامية. القصيدة عندها مفعمة بالجمال وذات بعد فلسفيّ غالبا، وتتنوّع لتتجاوز الهمّ المحلّي، فهي تتناول معظم الأمور التي تهمّ الوطن والمجموعات والشّعوب المستضعفة والإنسان بشكل عامّ، وهذا هو جوهر الشّعر والأدب، وعنه تقول: "القصيدة هي إحداي". 
 في القصّة تنتصر باللّغة فهي من قائدات سفنها، وتمتلك خيالًا خصبا للإتيان بأبهى الأفكار، وموهبة تتلاعب بالخيوط السّردية لتمتّع الأرواح، تتلبّس بشخصيّات قصصها وترى أنّ القصّة هي عيادة الأدب. تكتب بلغة جزلة، تمزج البعد الفلسفيّ والخيال بالواقعيّ، ترصّ حروفها رصّا وكأنّها ستبني قلاعًا خالدة.
أهمّ كُتبها المطبوعة:
1. الأدب: - مجموعة قصصية "فايس عِشقْ" عن دار فضاءات –الأردن- 2017
2. الشعر: - ديوان "الجلوس عند الهاوية" عن دار ميم –الجزائر- 2017
- ديوان "في ضِيافة غودو" عن دار خيال –الجزائر- 2020
- ديوان "صمتُكَ وحنَاجِري" عن دار فكرة كوم –الجزائر- 2022
- ديوان "وَحْش المُومْنة" عن دار الجمال – الجزائر- 2022
وكتب أخرى.
نُسيبة عطاء الله كاتبة وأستاذة جامعيّة في النّقد الحديث والمعاصر، مدقّقة نصوص ـ معسكر/ الجزائر
نصّ الحوار: 
 
 
حدثّتنا الأستاذة نُسيبة عن أهمّ مراحل طفولتها، التي منها تشكّلت شخصيّة نُسيبة الكاتبة والإنسانة:
وُلِدتُ في يومين، ربّما قد يوحي هذا لعلاقتي بالموت والحياة، ولكنّي بارعة في الإقناع براعَتي في الانتظار، فقد أبيتُ أن أخرج في ليل الثّالث عشر من آذار واحد وتسعين وتسعمئة وألف، نزل رأسي ولم يعجبه ذلك العالم البارد، كنتُ أؤثِر الاختناق على تلك الغرفة الباردة، وجسدي الذي اتّفقت كلّ الرّوايات على أنّه كان بحجم ملعقة القهوة، آثر الضّيق الدّافئ على حياة أخرى؟! أعتقد أنّني بقيت في نقاش طويل مع الله: "ألم أقل لك مرارا أنّني لا أريد أن أولد من جديد؟" 
 
 
ولادة متعثّرة ويتم مبكّر: 
في فجرِ الرّابع عشر من آذار قرّروا أن يفتحوا أمّي بالمقصّ لإخراجي، كانت قوّتهم أكبر من عنادي. أنا أشعر طوال حياتي أنّ تلك الولادة العسيرة لطالما وقفت حاجزا بيني وبين أمّي، علاقتي بها كانت برزخا يشبه عجزي وانبعاثي اللّاإرادي... لقد بقيت صامتة ولا أفتح فمي لا للبكاء ولا للرّضاعة، ولولا أنفاسي الصّغيرة لدفنوني مع مشيمتي، بعد أسبوع لقّموني حليب أمّي الذي كاد يقتلها تراكمه في صدرها بالحمّى، لقّموني إيّاه بالملعقة... وهكذا كنتُ غير آبهة بالحياة، رضيعة هادئة ومتأمّلة، حتّى أنّني لم أكن أتغوّط إلّا بمحاولات أمّي باستعمالها الصّابون، كنتُ أبكي فقط عندما أسمع نباح الكلاب ولا يُعيدُني للنّوم سوى صوت أبي. لم أتغيّر أبدا، بقيت أعبّر بالصّمت عن انسحابي ورفضي للأشياء، لكنّ أبي بعد عام ونصف من وجودي غادر الحياة، وتركني عرضة لنباح الكلاب ومخالبهم وأنيابهم، ربّما أنا منذ تسع وعشرين عاما لم أخلُد للنّوم.  
 
 
النّضوج قبل الأوان: 
يسعدني أنّي فعلت الأشياء بسرعة حتّى أسعد أبي، لقد جلست باكرا وحبوت باكرا وخرجت أسناني باكرا ومشيت باكرا وتكلّمت باكرا، وهو قد رحل باكرا، فعدت إلى صمتي باكرا. طفولتي كانت طفولة طفلة يتيمة نشأت في الموت والنّزاعات والخوف، لمّا أتمعّن جيّدا في ذاتي، أجد أنّ أمّي جزء كبير منّي رغم أنّني أنا من ينبغي أن أُعَدَّ جُزءًا منها، ولكنّ طفولتي كانت هي ما بعد السّادسة والثّلاثين لأمّي، أي أنّني انتقلت مباشرة من السّنة الثّانية إلى السّادسة والثّلاثين، كنت أفهم وأشعر بكلّ شيء، ذلك دفعني إلى أن أحاول الانتحار في عمر الرّابعة، ولا تزال أمّي إلى الآن تلوم نفسها، ظنّا منها أنّي شربتُ دواءَ جدّتي بالخطأ أو لأنّي اعتقدته حلوى... العالم لطالما كان مؤلما لصدري مثل تلك اللّحظة التي غرسوا بها أنبوبا لتطهير معدتي، ذلك الأنبوب لمّا اقتلعوه حفروا نفقا في روحي، وكانت تلك أوّل محاولة فاشلة للّحاق بأبي.
 
 
خوض غمار القراءة في سنّ صغيرة:
قد أقول لك أنّني كنتُ ذكيّة جدّا وقدراتي تفوق حجمي وعمري، ولكن ليس هذا ما جعلني أنمو إنسانيّا وعلميّا... لقد كانت المكتبة التي أنشأها والديّ في عمر زواجهما القصير كانت مرتعي في ساعات طويلة من اليوم، أجلس عندها بحثا عن أبي، في كلّ صفحة، وعندما أجد ورقة ملخّص ما، كتبه بخطّه أقف أمامها بجُبن، أخفيها وأهرب، يكبر حبّي للمجهول كلّما ازداد عطشي لأن أفهم، أقرأ ولكنّي لم أكن أفهم.
 
 
سلكت درب النّبلاء وجنت الخيبات:
بالموازاة مع ذلك نما حقدي وتملّكي كلّما جاء شخص ليستلف كتابا من أمّي، وهكذا اختفت كتب كثيرة من ميراث أبي، بنى هذا جدار صمت آخر بيني وبين أمّي، وبيني وبين النّاس، لم أستطع أن ألومها، والغريب أنّني أصبحت أشبهها! أقتطع من قلبي الثّمين وأعطي للنّاس أكبر من حاجتهم، وهكذا كنتُ أتعرّض للرّمي فأتحوّل إلى ذاكرة، لا أحد مرّ بي أو رآني نسيني، فأنا لستُ معجونة من نفسي فقط، كلّ روح فقدتُها اختلطت بي، اختصرتُ الجميع في ذاتي، ولديّ مخزن حكايات، لم يتركنِ مصيري المرتحِلُ أرويها، لقد كنتُ رحّالة عابرة للأماكن، حارقة للمراحل، منشغلة دوما بالتّجارب والامتحانات والابتلاءات... ولا أدري هل في ذلك قدر الكاتبة أم قدر العارفة أم كلاهما معا؟
 
 
نُسيبة صامدة كالسّنديانة رغم كلّ شيء:
منذ اكتشفت أنّ هذا العالم يعجّ بالغباء لم أعد أبذل جهدا في شيء، أسير على مهل، لا أكترث للزّمن ولا بمقاييس وضعها آخرون رغبة منهم في البروز، كنتُ ظاهرة غصبا عنّي مذ وُلِدت، كشيء يميّزني وحدي وأيضا بالوراثة.
في خضمّ ذلك لم أسمح لنفسي بالخسارة، ولو أنّ ما وصلتُ إليه من توفيق الله إلّا أنّ عنادي وقوّتي وإصراري على البقاء لأجل أهداف لا تتعلّق بي وحدي، كان دافعي للنّجاح، لا ينبغي أن أذبل لأنّني لستُ نُسيبة فقط، أنا شجرة بجذورها.
 
 
الأدب...
تبحرين في فضاءات اللّغة بطرق بارعة، كيف ومِمَّ صَنعت نُسيبة سفينتَها النّحوية البلاغيّة ثمّ الكتابيّة المصطلحاتيّة العميقة؟ هل خدمك اختصاص النّقد الأدبيّ؟ أم للفنّ الكتابيّ عالمه الخاصّ على شكل الموهبة مثلًا؟
• لغتي صنعتها أمّي، إضافة إلى مَلَكة من الله أعطاني إيّاها، وألهمني ذكاءً يمكّنني من خلق معانٍ بعضها أكتبه، والكثير الآخر منه أسمح له بالهروب لأنّ الكسل من العوامل التي تُشعِرُني باللّذة.
مساري الأدبيّ العلميّ كان مضحكا؛ في سنوات التّدرج الأولى لم أكن أعلم ما هو الأدب إلّا من خلال بعض المحاضرات التي أقنعني محاضروها بحضورها – أذكر مرّة أنّ أستاذة اللّسانيات السّيدة رقيّة جرموني التي كانت وقتها رئيسة قسم اللّغة العربيّة وآدابها، قامت بمناداتي بمكبّر الصّوت في المدرّج، وأخذ الجميع يبحثون عنّي في الحرم الجامعيّ، لأنّي لم أكن أحضر لا المحاضرات ولا الحصص التّطبيقية ما عدا بعض الحصص في العَروض والبلاغة والفرنسيّة حبّا في الأساتذة لا غير، وكنتُ أهرب إلى قسم القانون وأحضر محاضرات الجنائي مع طلبة السّنة الثّالثة، كم كان ذلك ساحرا وعوّضني عن افتقادي لعلم النّفس الذي كنتُ أحبّه لكنّه كان يُدرّس في الجامعة الرّئيسية. أوشكوا على إقصائي وأرسلت إليّ رئيسة القسم من أجل الذّهاب إلى مكتبها، فقالت لي حرفيّا: "سأسامحك لأنّ أخلاقك تشفع لك، بشرط أن تلتزمي بالحضور"- لم أكن آبه كثيرا طالما أنّه لا شيء يسير بحياتي وفق خياراتي، والحقيقة أنّ كلّ ذلك كان إرشادا إلهيّا نحو ما عشته بعد ذلك.
وتعرّفت على الأدب أيضا، من خلال بعض الكتب التي كنتُ أسرق الوقت وأهرب إلى المكتبة لقراءتِها... لقد شكّلت لديّ مشاكلي العائلية صعوبات نفسيّة في التّعلم -رغم ذكائي الحادّ ولكنّ العاطفة مُضنية- إلى جانب خيبتي وتوقّعاتي التي سقطت على رأسي إبّان الجامعة. بصفتي مفرطة الحساسيّة هذا أعاقني جدّا، وفكّرت في الهجرة لمتابعة دراستي بسوريا، راسلت جامعة تشرين بحمص وكنتُ سأشرع في إجراءات الانتقال، ولم أحسب حسابا لرفض أمّي. نظرتُ إلى رفضها ثمّ إلى معاناتي في البيت والشّارع والجامعة، نظرت إلى هزيمتي العاطفيّة وانكسار الحبّ الأوّل، فوجدتُ أنّ هذا العالم لا يُواجَه إلّا بالصّمت. مررتُ بمرحلة تبلّد طويلة خاصّة عندما خاب أملي في قُسنطينة فوجدتُ نفسي بمستغانم أدرس عن أجيال الكمبيوتر وأحلّ معادلات من الدّرجة الثّالثة في حصّة المنهجيّة العلميّة على طريقة الإيكسل ولكن على الورقة وليس الكمبيوتر، وبعض الحصص الأخرى كانت تمرّ بمرارة، وأنا ما بين بلادة الواقع وفورة الشّباب المكبوتة، لم يكن في وسعي إلّا أن أكتب كما كنت أفعل منذ طفولتي لمّا أعجز عن تفسير ما يحدث حولي. لم أراقب مطلقا لغتي، ولم أكن أعرف عن الأجناس الأدبيّة سوى ما تعلّمته في الثّانوية، ولكنّ الأمر يختلف عندما تكون أنت الكاتب، لم تكن لي الرّغبة في أن أتساءل ما هذا؟ اشتريت مذكّرة وصرت أمشي معها، وبها، لا أجهد نفسي في أن أبحث عن كلمة تاهت منّي، ألجأ إلى بديلها أو ألغي الفكرة من الأساس، هكذا تعلّمت الكتابة والمحو لكنّي لم أعرف أنّني كاتبة حتّى التقيت بكتّاب آخرين من بلدان مختلفة، على المدوّنات والمنتديات، وكنت أتحاشى كلّ ما ومن هو جزائريّ، لقد جعلني واقعي أفقد الثّقة في الوطن وأنقل آمالي إلى ما بعده، هكذا بعد أن تزوّجت خارج الجزائر ثمّ عدت إليها مجدّدا بتجارب كبيرة ودروس مؤلمة قرّرتُ أن أتدارك نفسي... كان اختصاص مناهج النّقد الأدبيّ الحديثة والمعاصرة، هو عنوان مسابقة الماستر، شاركت وفزت وهناك تعرّفت على الأدب وعلى قصيدة النّثر، مع أنّني كنتُ أقرأها قَبلا ولكنّي ربّما لم أكن أنتبه. 
في السّنة الأولى ماستر كنتُ أُمّا لطفل على وشك أن تكون مطلّقة، أعاني من الاكتئاب الحادّ وموت الرّوح، أحيتني قصيدة قرأها أستاذي في فلسفة اللّغة "بشير خليفي"، عنوان القصيدة كان "إلى عائدة". لقد كانت تلك أوّل مرّة أبكي فيها منذ وقت طويل ثمّ لقيتُني استيقظت من رماد أنوثة عاطلة، بدأت أنزف دون توقّف كلّ ما كان جامدا قبلها... أنا منذ ذلك العام
منذ 2015 وأنا كاتبة، ولست أدري هل الفضل في ذلك يعود للألم، للصّمت، للنّقد، للفلسفة، للّغة، للشّعر، أم لقلبي؟
أعتقد أنّ كلّ شيء يحدث بالطّريقة التي تثيرنا، الكون يترتّب لأجل لحظة ما، تكون هي اللّحظة بذاتها لا غيرها، لحظة تولد معها لغتها وحسّها كأنّ قلبك كان قيد التّحديث لأجلها، نصحو لا ندرك بعدها كم كنّا نياما ولكن حتما ندرك كم اختلفنا، وكم ابتعدنا، وكم كبُرنا، وكم نحن أقوياء، وكم نحن أحرار، وكم نحن أحياء...
 
 
تكتب بلغة جزلة، ذات نصوص فلسفيّة وملغّمة قريبة من نمط سليم بركات 
تسترسل عن مرحلة التّعرف على الكُرديّ سليم بركات قائلةً: 
• اكتشفت سليم بركات من عينيه، كان مجلّد أعماله الكاملة أمامي في معرض الكتاب قبل سنوات، حاورتني نظرة التّحدي تلك، وأنا أحبّ اكتشاف الأشخاص الذين يحملون تلك النّظرة، فأنا أعرف أنّ خلفها الكثير من الثّقة والعناد والكبرياء والطّفولة أيضا. فتحت الصّفحة التي وقع عليها ظفر إبهامي، ومن أوّل سطر فهمت أنّ هذا شيء مختلف ومتفرّد، اصطحبتُ ذلك المجلّد السّميك مع حقائب من الكتب، صففتُها في غرفتي وحتما ليست صدفة أن وضعتُ المجلّد مقابلا لمكان جلوسي ونومي، حيث يُقابلني وأمرّ عليه دوما، كان وجهه آخر شيء أراه قبل أن أنام لكنّ قلبي كان ميتا تجاه الشّعر والأدب، أشتري الرّوايات والدّواوين ولا أقرأها، بقيت تلك العينان المتحدّيتان تراودانني لتقليب ما خلفهما، قد يكون هذا التّحدي الوحيد الذي فشل فيه سليم بركات، وهنا نتشابه، كان عليّ أن أقتنع أوّلا حتّى أراه، كان مثل شباب الحيّ الوسيمين الذين لم ألتفت إليهم إلّا لمّا أوشكتُ على مغادرة المدينة للأبد. وذات يوم أرسل لي صديقي الشّاعر والفنّان التّشكيلي الكردي المقيم بألمانيا حسين كري بري رابط فيلم "بيكَس\ المشرّدون "، الفيلم جعلني أشعر بمشاعر ضائعة ذكّرتني بالسّحر الذي بثّته في قلبي رواية: "ممّو زين" لمّا قرأتها قبل عشر سنوات.
 كلّ ذلك الجمال هو كرديّ! كلّ ذلك الفنّ من كلّ لون، وكذلك تينِكَ العينينِ أمامي... 
كنتُ أرتّب القصائد لديوان "في ضِيافةِ غودو"، وانتابتني رغبة عارمة في الكتابة، لكنّي كنت أريد مادّة عاطفيّة لم أستعملها من قبل، أخرجتُ ذلك المجلّد وكان الأمر يبدو كما لو أنّني أزحتُ وجه سليم بركات ودخلتُ في رأسه، كانت لأوّل مرّة منذ وقت طويل أواجه لغة جديدة، يا للرّوعة إنّه شاعر خارج التّقليد، ولا يوجد بداخله محمود درويش كما قرأت في مقالات ناقشت تلك العلاقة المربكة بينهما، تلك الصّداقة المسفوكة تحت أقدام التّماثيل والآلهة، بل سليم كان رجلا بعيدا عن المعبد ويشبه ذاته فقط...  هكذا هو رجل كان يهوى جمع السّكاكين ولا يحبّ السّكر وأطفأ آخر سيجارة له دون تخطيط أو إجهاد أو إقحام للإرادة، رجل طفل لا يخجل من مواجهة الكاميرا بشروال قرويّ وقميص داخليّ حتما كان يستحقّ كأسا على طاولة غودو، أردتُ في حواري الشّعري معه أن أكون جانبه الأنثويّ، حاولتُ أن أكون جسدا صغيرا لأنّ الأحجام الصّغيرة الأنثويّة تجعل الرّجال ينحنون ويتحدّثون مثل وحوش وديعة، والوحوش حين ترِقّ تغدو أضعف من الحِملان... لكنّي لم أحاول التّدخل في حسرته، تركتُها كما همس لي بها مفعمة بالوفاء الذي ينكره القاصرون أمام الشّعر والإنسانيّة.
 
 
اللّذين تأثّرت بهم قبل تشكّل كيانها الأدبيّ الشّعري الخاصّ:
أحببتُه (سليم بركات) لبعض الوقت ثمّ تجاوزته محتفظة بالامتنان، مثل كلّ الذين سكبوا كؤوسَهم في روحي، تأثّري نصّ ألِده مع قطعة منّي ثمّ أمضي إلى نصّ آخر أسعى لأن يكون أعلى وأرفع، ولكنّي لا أجرّ أحدا معي، لا أسمح لأحد بأن يُلغيَني أو يسحب صوتي تحت صوته -ربّما كان هذا في البدايات مع بعض التّجارب- 
بل أستمدّ العِطر كما لوّنته ذائقتي لا كما يفوح بالوردة...
 هناك حتما من كان صخبهم عاليا في كلماتي لأنّي أحببتهم أكثر ويعيدُني إليهم الحنين كما يُعيدُنا العِطر إلى الذّاكرة، منهم الشّاعرة السّودانية "روضة الحاج، والجزائريّة "حنين عمر"، و"أحلام مستغانمي" و"أدونيس"، وقبلهم جميعا "امرؤ القيس" و"ولّادة بنت المستكفي".
 
 
تطرح القضايا الحسّاسة وتكسر التّابوهات لأنّها ...
• هذه من صفات شخصيّتي، أنا جريئة ومِقدامة.
هناك الكثير من الأشياء التي لم أقلها بعد، وهناك ما لن أقوله لأنّه ليس كلّ شيء يُقال، وكذلك هناك ما قلته بشكل مموّه ومبهم ومدسوس في مناطق عميقة من القصد قد لا يفهمه أحد تماما كما أريد أو كما ينبغي، وما قلته ويبدو حسّاسا أو كسرا لشيء ما، فربّما لأنّي لا أقلّد ولا أشبه أحدا، كلّ ما في الأمر أنّني صادقة إلى حدّ كبير وهذا صار غريبا جدّا في هذا الزّمن إلى درجة الاستنكار، ومع ذلك فأنا مع التّفكيك لأجل البناء على أسس سليمة وليس الهدم فقط لأجل الثّرثرة أو الإثارة.
 
الشّعر ... 
العناوين لديها لا تأتي اعتباطا، فالعتبة عندها هي الأهمّ:
• أحيانا يولد العنوان مع النّص، وأحيانا بعده بكثير أو قبله بكثير، وأحيانا يتحوّل العنوان إلى النّص ويغدو محتاجا إلى عنوان، وأحيانا يكون العنوان هو منبثَقَ النّص وفكرته أو بؤرته. إنّ العتبة بالنّسبة لي هي الأهمّ حتّى في قراءاتي واقتنائي للكتب.
 
 
تنزّل عليها القصائد بدون مواعيد:
. تأتيني القصيدةُ كوحيٍ لا أقلّ، كمرض على الأقلّ، والكتابة بالقلم أعترف أنّها أقسى ما كتبت وأصدقه على الإطلاق، أمّا ما تبخّر في الحلم وقتله الكسل أو التّجاهل أو سرقته عوالم موازية، فقد بقي حسرة في القلب، وهي أعمق "ليتَ" تنهّدتُها، ليتني كتبتُها ولم أنثُرها للنّسيان، يؤلمني أكثر أنّ كتابات كثيرة تبخّرت في خاطري رأيتُها في الحياة، كأنّ الكون ينتقم منّي بالفكرة التي لم أستقبلها، أن يهديها إلى غيري.
القصيدة ليست صديقتي، لأنّه لا ينبغي أن يكون لي أصدقاء فهم بهذه الرّتبة أمنحهم عداوتي على طبق القلب وأنا في غِنًى عن المزيد من التّآكل والنّهب.
القصيدة هي إحدايَ هي تتنحنح في الضّجيج، لطالما ألهمني الضّجيج، فالسّكون يجعلني أتوحّد به.
 
 
ترى الشاعرة نُسيبة عطاء الله أنّ الشّعر في عصر الرّقمنة هذا مريض بالشّعراء:
. الشّعر في عصرنا هذا مريض بالشّعراء قبل أن يكون مريضا بالغاوين، وثمّة أخذٌ حتما ما دام هناك عطاء، يؤسفني فقط أنّه أكثر كينونة وكيان ومفهوم اعتدَت عليها الحداثة السّائلة وما بعدها، لأنّ الشّعر قرين الإنسانيّة والحياة الصّلبة، فلا يحيا السّائل في السّائل بل لا بدّ للأنهار من ضِفاف ولا بدّ للبحار من شطآن.
 
 
القصّة...
تنتصر باللّغة في السّرد، وتؤكّد على أهمّية الموهبة لصنع المبدع:
•العمق وحسن بناء العلاقات الذّهنية في النّص من شروط الأدب، لكنّي أنتصر باللّغة على كلّ شيء، بالنّسبة لي مهما بدا العمل الإبداعيّ عقلانيّا وعميقا لن أكمل قراءته إلّا إذا شدّتني لغته وأدهشتني، وهذا هو الفارق والسّحر في الأدب، القصّة بالذّات تحتاج إلى عاطفةٍ توازن الفكرة، وإلى لغة تجعلك ملتهبا وأنت تقرأ. أحبّ العمل الذي ربّما يسمّيه البعض ساذجا ولكنّه جميل ودافئ ويشعرني بأنّني أقرأ لإنسان وليس لآلة، خذ مثلا تطبيق التّرجمة بغوغل، إنّه يمنحك ترجمة لكلّ اللّغات لكنّه لا يفهم الجمل المعقّدة والبديعة، لأنّه ليس منتجا وليس مبدعا، لهذا أنا أقول دوما بأنّ القراءة وحدها لا تصنع كاتبا، بل الموهبة من تفعل.
 
 
هي التي ترسم مسارات لأبطال قصصها، وتفتح أبواب التّأويل متقصّدة:
• الكاتب هو ربّ في النّص، ربّ وقائد، الحرّية التي يمنحها لكائنات صنعها لا تقع في حدود اختيارهم فحسب، بل وفق مشيئته أيضا، ولهذا فهو ليس مجرّد ناقل ومفعول به بل هو فاعل. في مجموعتي القصصيّة القادمة أبطال قصصي هم شخصيّات واقعيّة، لكنّي منحتهم مسارات أخرى عكس تلك التي عاشوها حقيقة، وبذلك أنا أصنع النّتيجة التي أريد وربّما النّتيجة التي لا أتوقّع، ولكنّها ما رسمتُ لحدوثه. أحبّ أن ألعب في النّص دور الحكيم أحيانا، وأحيانا أتوه في نفسي، أنسحب لمّا تُلغى ذاتي وقد أغيب سنوات عن قصّة فقط لأنّي استمعت لشخوصها أكثر ممّا يجب، بشكل اخترقني شخصيّا. في مجموعة "فايس عشق" كتبت قصصا ظنّ الجميع أنّها تتحدّث عنّي، وهذا غير صحيح تماما، فقط أنا من أردتُ أن أفتح هذا التّأويل باستعمالي لأدوات سرد الذّات بشكل متعمّد، وأحببتُ أن أجعل نفسي مادّة لأُشفى من عطب مشابه وأسمع في النّص ما أهرب من سماعه فيّ.
 
 
رغم بروز الرّواية إلّا أنّها متمسّكة بحبال القصّة لأنّها...
• لأنّي ما زلتُ أخشى التّورط في الشّخصيات، فأنا أتلبّس الشّخصيات ولا أصنعها فحسب، ويؤذيني ما أفعله بها، سأكتب الرّواية لمّا يقسو قلبي قليلا، وربّما أتصالح مع المشاريع الرّوائية التي تركتها مفتوحة في بداياتها وهربت. القصّة ينقذني قصرها، كما أنّني أتجنّب فيها كونها خياليّة بحتة حتّى لا أكتب مصيري، أقتنص ما حدث وانتهى من قصص حولي وأمنحها نفَسا جديدا وعالما مختلفا يشبه هذا السّؤال: ماذا لو عدتَ إلى الخلف واتّخذت الطّريق الآخر؟ 
القصّة أكثر حكمة من الرّواية، هي عيادة الأدب، لهذا المجتمع الذي لا يقرأ القصص هو مجتمع مريض، وأنا أرى في الرّواية رفاهيّة أكثر من الشّعر والقصّة والمسرح وهذه الفنون الأخيرة مَحكمة عادلة، فيها الكثير من الحلول وأيضا، المواساة للشّعوب المقهورة والتي تغرق، لا تعكس واقعا بقدر ما هي تفضحه كنوع من المواجهة التي تستدعي وقفة مع الذّات، أمّا الرّواية فهي تُناقش بصرامة أقلّ، قضايًا كبيرة التّعامل الجادّ معها يمكن أن يفتح للمجتمع أبواب مستقبل خفيف من أخطاء الماضي ومن ضياع اللّحظة الرّاهنة في القلق دون محاولة فعّالة لإدارتِها.
 
 
إصدارات...
ديوانك " في ضيافة غودو" الذي صدر في سبتمبر 2020 م، من أين استوحيت عنوانه؟ ماذا يعني لك هذا الدّيوان؟ وكيف رأى النور؟ 
• عنوان الدّيوان هو عنوان قصيدة كتبتها منذ 2017، 
ولمّا تأمّلت في القصائد التي ضمّنتها ذلك الملفّ بالتّحديد، وجدتُ أنّ الزّمن يسكن مفاصلها بكلّ أشكاله وتساؤلاته وفي أكبر تجلّياته "الحضور والغياب وما بينهما، أي الانتظار"، وأنا أكره الانتظار رغم أنّني كائن صبور جدّا، إلّا أنّ الانتظار يتلف أعصابي، أو بالأحرى كان هذا في الماضي القريب. أيضا غودو هو كائن لطالما خفت منه، فمنذ قرأت عن مسرحيّة في انتظار غودو تحوّل هذا في مخيالي الطّفولي إلى وحش ما، يجعل الجميع في انتظاره ولا يأتي، وأنا لا أحبّ أن تبقى حروفي عارية، بدل أن أنتظر غودو أو أخاف منه، ذهبت أنا إليه ووضعت النّقاط.
 وحكاية قصيدة "دمعة زاجلة" تشرح هذا المعنى بإسهاب، حيث أنهيت فيها أمرا كان عالقا بداخلي منذ أن كان عمري ثمان سنوات. لقد أعلن الديوان عن نفسه في خِضمّ وقوف طويل مع النّفس وجرد جميع الحسابات وتقليب صفحات الماضي العميق، لذلك هذا العنوان هو تماما ما يشبهُني وقتها.
أمّا عمّا يعنيه لي "في ضِيافةِ غودو" فهو يعني لي جزءا كبيرا عن رحلتي من الظّلام إلى النّور، ببزوغه بدأنا نرى معا.
 
 
لامست أنّ الطّابع الإنسانيّ طاف من خلال الرّمز والإشارة إلى بعض المقموع شعوبًا ومجتمعات... هل تنوين الانتقال إلى الطّرق الوعرة؟ أي طرح قضايا إنسانيّة خارج بلدك ومحيطك القريب، ما هي الرّسالة التي تودّين إيصالها من خلال هذا الدّيوان / في ضيافة غودو؟ 
• أعتقد أنّك تقصد بسؤالك طرحي لقضيّة التّطبيع والصّحراء الغربيّة، والأكراد...
كلّ فواكه الفكر معصورة في ذهن الشّاعر، وهو يسقي منها قصائده حسب ما تقتضيه الرّؤية ولحظة الإبداع المشتعلة بهاجس ما؛ فقصيدة "الأشجارُ عند بعضِها والوطن مِدخنة" هي فعلا محرّكها قضيّة التّطبيع التي رأيناها في وقت قصير تتحوّل إلى موضة سياسيّة، ولأنّني شاعرة فإنّ ما يحرّكني أكثر هو العاطفة، فلا أكتب تحت وطأة العقل بل لمّا يضيق صدري بما أفكّر به، كان على فيديو غنائيّ بيوتيوب لعربيّة مع إسرائيليّ، كفيلا بأن يجعلني أضع أفكاري بالخلّاط وفي النّهاية كأسٌ واحد بمذاقات مختلفة بعضها مبهم والقارئ كفيل باستشفافه واستذواقه.
أمّا قصيدة "أبناء العلامات" فقد أوقدها تعاطفي الشّديد مع قصّة صديق مهاجر من كردستان سوريّة، والمأساة ليست في هجرته كحال الكثير من الأكراد في العالم، بل في كونه كان مغتربا في وطنه الذي لا يُصنّف فيه على أنّه مواطن إذ هو لا يملك بطاقة هوّية، ولهذا فهو مهاجر غير شرعيّ إلى بلاد النّاس كان ابنا غير شرعيّ في بلاده!
 كيف في هذا العالم الذي يدّعون أنّه تقدّم بعجلة التّنمية نحو العدل والمساواة، يعيش أناس في أراضيهم كنكرات، كيف لا يعترف الوطن بأبنائه؟ كيف لا يعترف العالم بالإنسان حتّى تلك الجهات التي تنادي بالإنسانيّة؟ شغلتني كثيرا قضيّة الأكراد والأقلّيات في العالم منذ صغري، ولكنّي لم أتوقّع أن يكون الأمر للحدّ الذي يجعل الكثيرين يُنعتون في أوطانهم بـ"لا مواطن" ويُنسبون فقط إلى العلامات.
رسالتي من خلال هذا الدّيوان وكلّ دواويني هي أنّ "الشّعر هو حياة الضّمير الإنسانيّ" إذا ماتت الشّعوب يُحييها الشّعر كما يُحيي الماء النّباتات اليابسة.
 
هل مجموعتك القصصيّة "فايس عشق" هي محاولة منك لكشف الأسرار والخفايا التي تحدث خلف الشّاشة الزّرقاء؟ أم لها غايات أخرى؟
• قصص فايس عشق هي تصوير للمساحات الخالية في دواخلنا، والتي تجد رحابتها في الافتراض فتمتلئ بالوهم وتغرق به، أردت من خلالها محو الزّمن الواقعيّ وجعله لُغة كما يحدث لمّا يذوب الوقت في المحادثات وننسى أنفسنا في السّحر الأزرق والسّم الأزرق كذلك، كثيرون في الواقع اعترفوا لي بعيشهم علاقات حبّ افتراضيّة رغم وجودهم ضمن علاقة الزّواج، ولهذا كان لا بدّ من أن يكون لفايس عشق نهايات مأساويّة كما ينبغي أن ينتهي الوهم، فالسّعادة الحقيقيّة هي فيما نشعره لمّا نراه ونلمسه، ولهذا نحن أرواح مجسّدة في عالم أرضيّ ولسنا أرواحا تسبح في السّماء السّابعة، لو كان الأمر هكذا لما كان ثمّة وجود لهذه الحياة الدّنيا.
 
 
ـ ديوان " الجلوس عند الهاوية" فيه الكثير من الأسئلة والاستفسارات، هل هذا الدّيوان هو صرخات في وجه الذّكورية؟
• نعم، الذّكورة السّلبية، إلى جانب الأنوثة المذكّرة، والذّكورة المؤنّثة... فكلّ اسم لا يشبه مُسمّاه هو اختلال ونشاز ومصدر سُمّية وظُلم وقهر، لم أقصد وأنا أكتبه أن يكون بهذا التّمرد والثّورة الذين لمستموهما جميعا، ولكن ربّما كما تعلم، في الجلوس عند الهاوية الكثير من الاعترافات الممزوجة بالبكاء والعتب والصّراخ والرّغبة في الإلقاء بكلّ شيء نحو تلك الهاوية حتّى لا يبقى في داخلنا سوى الرّغبة في التّحليق أخفّ من ريشة بيضاء.
 
 
ديوان " صَمتُكَ وحَناجِري" إصدارك الأخير، هل هو توثيق لبعض مرادفات التّراثية والأماكن الجغرافيّة كالغرب الجزائريّ أم هو إظهار للحكايا والقصص الشّعبية على شكل شعر، وهل فيه شيء من الخصوصيّة؟
 إذن، هل هو شامل متنوّع بين الغزليّ والوطنيّ الوجدانيّ ... إلخ؟
 
•قد أكون ساردة في شعري، وأكتب الشّعر بشكل قصصيّ، فأنا أحيانا لا أكتب الشّعر عشوائيّا ولكنّني أدخل حكاية ما رأيتُها تستعصي على السّرد أو لا تصلح له أو به، وأحيانا أفعل ذلك كنوع من التّمويه، فثمّة ما أريده أن يخبو عميقا وإذا اتّضح فلا يتّضح بشدّة، لهذا الشّعر كاتم أسرار حميم، خاصّة لقلب مثل قلبي طيبته أحدُّ أسباب طعنه.
ومن حكاياتي تلك ميراث شعبيّ كبير، أقطّر التّاريخ في بعض شوارع قصائدي، هذا ممتع رغم أنّه موجع، ولكنّ الأماكن جزء كبير منّي، لأنّني لا أتذكّر الأسماء، وأنا شخص سيّء جدّا في وصف الجهات، فكلّ شيء يذوب بذاكرتي ويتحوّل إلى عوالم سينمائيّة، التّعبير عنها وتصوير مشاهدها أكثر غموضا ممّا أراه، ولكن ليس بوسعي فعل شيء أمام لغتي، إنّها في الغالب أكبر من أن أتحكّم بها.
في ذلك كلّ الخصوصيّة طبعا، أنا معجونة بكلّ معاني الحبّ، كعاطفة هو في دم واحد مع الوطن وكلّ شيء، لهذا لا أعتبر أيّ قصيدة كتبتها في حياتي مصنّفة ضمن خانة معيّنة حسب موضوع واحد، فأنا أشعر بكلّ شيء دفعة واحدة، وهذا من خصوصيّاتي الشّخصية، أي أنّه يقع ضمن كثرتي في مفردي، أمّا عن الخصوصية بمعناها "الحميميّ"، فأجل أنا أدسّ كثيرا من سيرتي وأفكاري السِّرية في قصائدي،
وعن "صمتُكَ وحناجِري" فهو يحمل الكثير منّي ومن قصصي العاطفيّة ومن طفولتي وخيباتي وقصيدة "صمتُكَ وحَناجِري"، "تاء التّأنيث" و"العود" و "أحمدُك"، "كأنّني يويو"، "صِدَعُ البِلّور" وقصائد أخرى هي قصائد تقع ضمن هذا المعنى...
هذا الدّيوان ظلّ محبوسا طويلا جدّا، حاولتُ نشره منذ صيف 2018، وقد أعاقتني ظروف مادّية وعزوف دور النّشر عن نشر الشّعر، وأيضا وعود كاذبة لناشرين بعضهم أصدقاء. هو كتاب مهمّ لي لأنّه حمل حدسا وتخمينا لأشياء كثيرة كنتُ أشعر باقترابها بعضها قد حدث بسرعة، أي بعد أشهر قليلة، مثل الحَراك الجزائري الذي كانت ذبذباته قريبة إلى بصيرتي، وقد استشعرتُها بعمق بعد حادثة موت العيّاشي عند سقوطه بأنبوب بِناء، كان كلّ شيء ينذر بغضب قادم، والغضب هو المحرّك الذي دفعني إلى التّأزم والبحث طويلا عن قاعة فارغة لأنزوي فيها وأكتب. كنتُ وقتها أستاذة بجامعة معسكر، ولم أجد قسما فارغا بسهولة، أثناء بحثي عنه مررت بقاعات كثيرة في الكلّية جديدةِ البناء وحديثة العهد، وأزعجتني جدّا مظاهر التّخلف واللّامبالاة على أشكالها، للأساتذة قبل الطّلبة فخرجت منّي "كراكيب" وكعادتي أترك القصائد كما تَلِدُها لحظة الصّدق. كما أنّني كنتُ أستشعر مرضا في الأجواء مثل الكوليرا منوط بالحبّ وسيغيّر خارطة العالم بما فيها جغرافيا العلاقات أيضا في قصيدة "كراكيب" وقصيدة "تحايُثات". 
لقد حزنت جدّا على هذا الدّيوان قليل الحظّ، وظننتُ أنّه سيرى النّور أخيرا في صيف 2020 مع دار ابن بطّوطة بالأردن، ولكنّهم نصبوا عليّ وبعد إفاقتي من الصّدمة قرّرت نسيان الأمر واكتفيت بسعادة مزيّفة تظاهرتُ بها مع صدور "في ضِيافة غودو" ذلك الخريف. حاولتُ مجدّدا نشره في خريف العام الماضي 2021 عند دار نشر جزائريّة ناشئة تُدعى "الكاتب"، لكنّهم أرادوا استغلالي وماطلوا في طبع الكتاب وطلبوا مقابل ذلك أن أقوم بحملة دعائيّة لهم وجلب الكتّاب إليهم، كما أرادوا استعمالي كوجه إعلانيّ عن طريق صوري، ولهذا اضطررت إلى فسخ العقد وسحب الدّيوان. أمرضني ذلك خاصّة أنّه تزامن مع حادث خطير كاد يودي بحياتي عانيتُ منه صحيّا ونفسيّا لوقت طويل. قد لا أعتبر "صَمتُكَ وحَناجِري" انتصارا لأنّني بصفتي شاعرة خاسرة أكثر منّي رابحة، ولكنّ تمكّني من نشره هو نوع من المواساة الإلهيّة، لأنّ الأمر قد حدث بفعل إلهيّ بحت وأنا ممتنّة للّه على شعور الرّضا الذي جعلني أستطعمه رغم كلّ شيء، فالحمد لله.
 
 
الخاصّة ...
أبدت رأيها في علاقات مواقع التّواصل الاجتماعي بقولها:  
• هو عشق إلكترونيّ! ينتهي مع قطع الكهرباء وتبدّل الظّروف والأمزجة، هذه هي القاعدة ومن الغباء أن يعتقد أحد بأنّه الاستثناء.
 الحياة الحَقّة قبل أن تورق فروعها في السّماء يجب أن تثبّت جذورها في الأرض، وكلّ شيء بُني على افتراض مصيره الزّوال. الطّبيعي في الأمر أن يكون كلّ شيء إلكترونيّ جزءا يسيرا من وسائل حياتنا وليس أساسها ولا كلّها، وبالأخصّ فيما يمسّ العلاقات الإنسانيّة والعاطفيّة.
 
 
بين الصّداقة والحبّ، والثّقة والوفاء مرّت عليها قصص محزنة، تسردها بإسهاب: 
• أؤمن بالحبّ لأنّي أفيض به، أنا عاشقة كبيرة...
 وأؤمن بالصّداقة لأنّي صادقة صدوقة ومخلصة ووفيّة، ولكن لم يكن لي الحظّ أبدا في هذه المعاني النّبيلة، لقد كنت دوما الطّرف الذي يُعطي ولم آخذ سوى الألم والطّعنات. المآسي والخيانات جعلتني أعرف قدر نفسي "أنّني لست من هذه الأرض، بل ملاك تجسّد"، أزكّي نفسي بشدّة لأنّي أهل لذلك، الآن أصبحت على دراية بما أريد وما أستحقّ. في الواقع لقد وثقت بأناس كثيرين على مستوى ما يُسمّى بالصّداقة، لكنّي فعليّا لم يكن لي أصدقاء أبدا، كان لي أشخاص وثقت بهم إلى حدّ كبير لكن ليس إلى حدّ الخِلّة، كنتُ دوما ولا أزال، أعتبر الجميع معارف وبالأكثر إخوة.
 الحبّ والصّداقة! أخفي هذه المناطق العميقة منّي لشخص واحد، هو نصفي الآخر الذي يستحقّ هذا النّبع الصّافي من الحبّ والمعين العذب من التّماهي العميق الذي لم أسمح لأحد أن يشرب منه إلّا بقدر ما بلّلت به ريقه، كما أنّني أؤمن جدّا بأنّ هذا الشّخص الذي سيستحقّ حبّي هو الذي سيستحقّ صداقتي وجميع أنواع مشاعري وعواطفي، فأنا لا أمنح نفسي مجزّأة، وعموما أنا لا أثق أبدا، دوما كنتُ حذرة حتّى في أقصى حالات غفلتي ونيّتي الصّافية، إنّها روحي المستيقظة وحدسي الحيّ، لم أشعر بالأمان في علاقاتي بل شعرت بالوهم وكنتُ أعلم أنّه وهم لكنّه أعجبني وأحببتُ وجودي داخله بسبب وَحدتي وغربتي ويُتمي المُتقاِدم، لكنّي في الأخير إذا شممتُ رائحة الإهانة أختار نفسي ولو على حساب حياتي؛ المدهش والرّائع في كلّ تلك المأساة أنّ الله خلقني مرارا أقوى وأجمل.
 الأمان المطلق هو ما يحمل في طيّاته الحبّ والصّداقة وأنا على يقين بأنّي سأناله كتعويض من اللّه، لأنّ الله عادل وأنا شخص تأذّى كثيرا فوق التّصور وفوق الخيال. لقد دفعت غاليا ومن عمري وصحّتي ثمن أنّني رائعة فوق التّصديق، رائعة بشكل مخيف للبشر ومعذّب لي.
 
 
مدمنة على الأمل والعطاء:
• أنا مدمنة على الأمل، وطول الأمل مرض عضال تعوّذ منه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. مؤخّرا اقتربت من الاتّزان، أصبحتُ أنتبه إلى العلامات الحمراء ولا أدع شيئا يسحبني، حتّى حبّي للحليب بالنّاسكافيه لا أتركه يصبح عادة، فحتّى العادات السّليمة أحبّ كسرها، لأنّ مثاليّتي المفرطة أضرّتني (وأقصد بذلك حبّي لفعل الأشياء كما يجب دون أيّ خطأ)، ولا بأس من أن نتدحرج نحو النّقيض لتعديل تطرّفنا بعد ذلك؛ أكثر أمر يزعجني منذ فترة طويلة هو عدم قدرتي لا على القراءة ولا على الكتابة ولا على التّأمل، التّفكير الكثير يرهقني ويسلب الكثير من طاقتي، أمّا عن أمور الحياة المادّية فربّما الأكل هو أكثر ما أحبّه ومع ذلك فكلّ شيء يتوقّف على مزاجي، إلّا أناقتي لا تتأثّر أبدا لا بظروفي ولا بمزاجي
ومدمنة على العطاء... لا تزال مدرسة حبّ الذّات هي أصعب مدرسة رسبتُ فيها مرارا، فالامتحان الأكبر في حياتي هو أن أحبّ نفسي وأمنحها أكثر من الآخرين، أنا عطاء الله فعلا على النّاس لكن عليّ كان عطائي لنفسي مجذوذا، لأنّي كنتُ حريصة على أن أغدق بكلّ شيء حُرِمت منه، عطفا على النّاس ممّا تجرّعتُه، وكان هذا سذاجة في أغلبه لا رحمة، فالنّية العمياء قاتلة لصاحبها، وكم من موت أحياني الله حتّى فهمت؟!
لمّا أنظر إلى الذين يستغلّونني، أجد أنّهم مرضى جشعون عثروا على صيدليّة مجّانية، رغم أنّ أوجاعهم لا تُساوي جزءًا من الألف التي أشعر بها، لكنّ مشكلة المِعطاء بسخاءِ آلامِه ظنّه بأنّ الجميع مثله... لا أنكر أنّ طبيعة الرّوحاني مأساة له، فهو مثل شبّاك النّافذة الذي يُسرّب الهواء نظيفا ويعلق به الغبار والحشرات، أمّا أجساد الآخرين فمثل زجاج النّافذة المغلق، طبيعتهما مختلفة تماما، لهذا يبقى الزّجاج يتّهم الشّباك بالمبالغة والحساسيّة والأفلاطونيّة والفضائيّة، ويبقى الشّباك يعتقد أنّ الزّجاج يشعر بالطّبيعة مثله فيحميه وهو لا يحتاج الحماية، كما يحتاجها هو نفسه.
الجميل في هذا القدَر هو حبّ الله وبلوغ الحِكمة، هو أنّ العِناية الإلهيّة محيطة دوما بالقلوب البريئة.  
 
 
بعض الذّكريات المؤلمة التي أثّرت على نفسيتها إبّان مرحلة الإرهاب التي ضربت بلادها في التسعينات القرن الماضي: 
• أنا إنسانة تُعلِّم بي البشاعة، لهذا أتجنّب ما يشوّهني ويفتح جرحا بروحي وقلبي، أهرب من البشاعة إلى قوقعة الجمال، وأختار ألّا أنظر خارجها، لكن رغم ذلك، الورديّ كان لونا شبه مفقود في حياتي، أصوغه من خيالي في الأغلب ومن ألوان الطّبشور والألوان المائيّة والشّمعية التي كنتُ أكتب وأرسم بها. 
كانت أمّي تسعى جاهدة لإبعادي عن كلّ سوء لكنّ القدر وضعني أمام واقع قاسٍ... ليس هذا مكانا لاستذكار تلك الصّفحات البعيدة على كلّ حال، لكن لا بأس بوميض من تلك الكليشيهات لأجيبك...
مدينتي تيغنّيف كانت شبه نائية عن الإرهاب، لكنّ الموت كان أقرب إليّ من سماء بيتِنا، منذ الرّابعة من عمري وأنا أطبع في ذاكرتي نعوش أحبّائي، هذا خلق مساحة هشاشة واسعة بداخلي تجاه الموت، تؤلمني أنباؤه بكلّ الطّرق التي تأتي بها، وكنت أتجنّب حكايات الذّبح في المجالس. نشرة أخبار الثّامنة وبرامج اللّيل المتحدّثة عن الـ"الجّيا" كانت عوالم رعب تسرّبت إلى نفسي عميقا، ومرّة مرضت جدّا لمّا شاهدت بالصّدفة أشكال الإرهابيّين في التّلفاز، كانت أمّي تظنّ أنّي أصاب بالزّكام بسرعة لكنّ الحقيقة كانت أنّي أنغلق على خوفي لأنّي لا أعرف كيف أعلنه؟! تحوّل هذا بداخلي إلى رُهاب، وقد أُصاب بالهيستيريا إذا رأيت شخصا يشبه هؤلاء. مرّة رأيت ثلاثة رجال في معرض الكتاب يشبهون تلك الصّور فأصبت بالاختناق ودارت بي الأرض. ربّما كنت سأكون إحدى الضّحايا لولا لطف الله
في حادثة وقعت بصيف 1998، حيث كنّا عائدين من تقضية إجازة الصّيف عند خالي بوهران، وكنّا في سيّارة قريبٍ لنا، أمّي وأخي الرّضيع وبنات خالي الثّلاث وأنا، وتوقّفت بنا السّيارة في أخطر مكان يربط بين ولاية وهران ومعسكر وتحدث فيه مذابح كثيرة، في "طريق ديبلينو" المليء بالمنعرجات بين الجبال، كان ذلك وقت الظّهيرة.
نزل قريبنا يحاول إصلاح السّيارة، بينما نحن طأطأنا رؤوسنا واختبأنا خلف المقاعد وأخذنا نتلوا الشّهادة، وأمّي تلهج بالدّعاء، كنتُ من فينة لأخرى ألقي نظرة على الجبال، كان ذلك مزلزلا لكياني، ولا سيّارة مرّت بنا لوقت طويل.
حتّى مع السّاعة الثّالثة مرّ ابن خالتي بشاحنته الزّرقاء الكبيرة، وحملنا جميعا في الصّندوق وانطلق بنا هاربا وهو مرعوب، من كمين كان منصوبا خلفنا. إلى حدّ الآن أنا لا أستطيع مشاهدة أو قراءة شيء يتعلّق بتلك الفترة، ومنذ عام في دورة بريطانيّة للنّقد السّينمائي، أجبرنا على الكتابة عن أحد أفلام تلك المرحلة السّوداء عنوانه "الآن يمكنهم القدوم"، بقيت أشهرا طويلة حتّى استطعت التّخلص من مشاهد ذلك الفيلم الذي أمرضني كثيرا وأبكاني وأدخلني في دوّامة حزن كبيرة، لكنّه أيضا كان نوعا من التّطهير والمواجهة لهذا الجرح العميق في ذاكرتي.
كان بيتنا يقع في آخر شارع بالمدينة، وما خلف الشّارع غابة زيتون، كان مجرّد التّفكير في ذلك مرعبا ولكنّ شارعنا كان آمنا وكلّ الجيران متّحدون وكأنّنا عائلة واحدة في بيت واحد. 
الحادثتان الأهمّ اللتان هزّتا شعوري بالأمان في طفولتي، هو حادثة زلزال كبير، وحادثة تسلّل لأحد المجرمين إلى بيتنا، كانت ليالٍ سوداء في تاريخ حياتنا أنا وأمّي، بعدهما قرّرت أمّي الزّواج لتحميني وتحمي نفسها، ولكنّنا لمّا نقرّر الارتباط بدافع الحاجة إلى شيء ما، فإنّنا نجلب إلينا المزيد منه، فقد كان زواج أمّي مأساة مؤقّتة في حياتنا لكنّها أثمرت عن شيء جميل وهو أخي. أحزن جدّا لأنّ أمّي امرأة لم تفرح أبدا في حياتها وأنا أحمل الكثير من حزنها وهمّها. أرجو من الله أن يجعلها ترى الفرح فينا لأنّ هذا كلّ ما تتمنّاه.
 
 
الكاتبة والأستاذة الجامعيّة نُسيبة عطاء الله تختم هذا الحوار الطّويل والماتِع بالقول: 
أرجو من كلّ كاتب (أديب وشاعر)، أن يسعى ليكون إنسانا أوّلا، لأنّ انعدام أخلاق الكتّاب أفقد العالم الثّقة في الشّعر والأدب.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
       
 

أخبار متعلقة :