من الطبيعى أن يكون القطار السريع، المقرر أن يشق الفضاء العمرانى المصرى بين مدينة العلمين على البحر المتوسط ومدينة العين السخنة على خليج السويس، الأكثر سرعة من كل خطوات التنمية التى نقوم بها.
وليس مدهشًا على الإطلاق، أو لا ينبغى أن يكون مدهشًا إطلاقًا، أن نعلم من الآن خطط تطوير هذا المشروع، من مدينة العلمين إلى مدينة مرسى مطروح غربًا، ومن مدينة العين السخنة إلى الجنوب على ساحل البحر الأحمر إلى مدينة سفاجا، ثم يتجه غربًا لكى يعبر النيل إلى مدينتى قنا ونجع حمادى، ثم ينطلق شمالًا غرب النيل حتى يصل إلى مدينة السادس من أكتوبر، ثم إلى مرسى مطروح حاملًا تجارتنا ومنتجاتنا إلى ليبيا وشمال إفريقيا.
فى الأمر تفاصيل كثيرة، ولكن المعلوم أنه فى يوم الإعلان عن المشروع كانت هذه التفاصيل متاحة للإعلام المصرى، وما بات معتادًا العلم أن خطوات بدأت بالفعل لتجهيز الأرض التى سوف يمر بها المشروع، وأن العقود مع الشركات الأجنبية، بعد أن مرّت بالدراسة والمفاوضات، قد أُنجزت، وجرى كل ذلك وتم فى أوقات قياسية.
كافة المشروعات التى جرَت منذ سبع سنوات كانت على هذا المنوال؛ وإذا كانت نقطة البداية هى مشروع قناة السويس الجديدة، فإن ما تلاها من مشروعات كبرى وعملاقة تمت على ذات النهج: أن تكون سريعة الإنجاز بالعمل على ثلاث فترات من العمل ليلًا ونهارًا؛ وأن تكون معتمدة على أحدث ما عرفه العالم من التكنولوجيا؛ وأن تكون آخذة فى الحسبان أن تكون من الاتساع والبراح والإمكانيات ما يستمر معنا لأجيال قادمة. خرجت مصر بسرعة من ترددها الكبير خلال العقود السابقة، وباتت تقوم بالمشروعات التى تناسب دولة عدد سكانها يتجاوز ١٠٠ مليون نسمة.
.. ومساحتها مليون كم٢، ولديها ٣٠٠٠ كيلومتر على شواطئ البحار، وعاشت خلال الأعوام السبعة آلاف الماضية، ومن حقها أن تعيش فى كرامة خلال الأعوام السبعة آلاف القادمة. أصبحت الطرق فسيحة، والمصانع والمساجد والكنائس فيها الكثير من براح معبد الكرنك، والمدن لائقة بالقرن الواحد والعشرين.
هناك الكثير مما هو معلوم عن خطوات التنمية، التى جرت بذات السرعة التى جرى بها مشروع «القطار السريع»، فما الذى حدث حتى تكون خطواتنا بطيئة، وأحيانًا يضاف إلى البطء التحرك فى الاتجاه المضاد بالعودة إلى ما مضى الذى يقع فى الاتجاه العكسى، وأحيانًا يظل السير فى المكان هو السائد إزاء عملية تعبئة الموارد القومية.
خلال نفس الفترة تقريبًا فإن الدعوة ذاعت بالمطالبة بنصيب قوى للقطاع الخاص فى عملية التنمية، ذكر ذلك الرئيس عبدالفتاح السيسى قبل سنوات عندما أُنشئت «المزارع السمكية»، ومرة أخرى عندما دخلت «الصوب الزراعية» دور الإنتاج، ومرة ثالثة عندما قرب افتتاح «العاصمة الإدارية»، ولم تَخْلُ مناسبة إرساء حجر الأساس لمشروع أو افتتاحه من هذه الدعوة التى تتحدث عن «الاقتصاد المفتوح» ودور القطاع الخاص الرئيسى فى مستقبل مصر.
الواقع الذى حدث هو أن العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين شهد انكماش نصيب القطاع الخاص من الناتج المحلى الإجمالى؛ وكان هذا الاتجاه مستمرًّا حتى قبل «الجائحة»، التى جاءت لكى تفرض دورًا ونصيبًا أكبر للدولة فى الاقتصاد وإدارته. وعندما حلت كارثة الأزمة- الحرب الأوكرانية، باتت الحاجة مُلِحّة إلى دور أكبر وأكثر سرعة، وله مشاركة كثيفة وسريعة فى عملية التنمية لا تقل فى سرعتها عن تلك الجارية عن حق لمشروع القطار السريع.
فى ١٤ يونيو الماضى، أى قبل أربعة شهور تقريبًا، صدرت عن مجلس الوزراء «وثيقة ملكية الدولة»، التى جاءت على الأرجح استجابة لمطالب مُلِحّة من القطاع الخاص والمؤسسات الممثلة له بأن تقوم بتحديد المجالات التى يحق لها العمل فيها، وتلك الخالصة للدولة.
وكانت النتيجة هى أن هناك مجالات سوف تكون للدولة وحدها، وأخرى سوف يجرى فيها «التخارج» من الدولة ومنح ما تم التخارج منه إلى القطاع الخاص، وهناك قطاع ثالث للمشاركة بين القطاعين. لم يكن هناك من بأس فيما قدمته الوثيقة من أمل لتحديد الأمور ووضع النقاط فوق الحروف وتحتها. ولكن ما حدث كان درجة عالية من الصمت، الذى لا يقطعه إلا التخمين بأى من الشركات التى سوف تُتاح للاستثمار الخاص.
ومن الجائز أن المسار الزمنى للوثيقة أخذ سرعته من الرغبة فى إجراء حوار اقتصادى وطنى لكى تدخل الوثيقة إلى مجال آراء العارفين، حتى ولو جاء الأمر على حساب السرعة اللازمة لقطع المسافة ما بين التخلف والتقدم كما هو معتاد فى المشروعات القومية الأخرى.
ما يحدث عمليًّا هو أن مرور الزمن لا يضيع علينا وقتًا كبيرًا كان ثمنه فجوة كبيرة بين الإنجازات الكبرى والواقع الاقتصادى، فالأصل فى القضية، وأظنه كان المقصود من توجيهات الرئيس السيسى فى المشروعات المشار إليها أعلاه، هو أن مصر قابلة فى مسيرتها التنموية لأن يكون اقتصادها مفتوحًا، يقوم على «اقتصاد السوق»، الذى يعطى القطاع الخاص والرأسمالية الوطنية دورها المطلوب والسائد فى الدول الصناعية الجديدة والبازغة. هذه الدول قطعت أشواطًا كبرى من التقدم خلال العقود الماضية، والتى ينبغى لها أن تكون المرجعية لمشروعنا الوطنى.
ولكن ما حدث عمليًّا هو أن مشروع إصلاح الجهاز الإدارى للدولة لا يزال ينتظر التطبيق، ولكن أكثر من هذا فإن الجهاز الإدارى يقدم للساحة التشريعية قوانين تؤدى إلى المزيد من زيادة الأعباء على الدولة. القانون الأخير الخاص بتصنيع السيارات الصديقة للبيئة (الكهربائية) يقوم على عمودين: إنشاء مجلس أعلى للتصنيع؛ وصندوق لتقديم الحوافز للصناع، ومن حقه فرض الضرائب فى حال أن الحكومة لظرف ما لم تقدم الحوافز الكافية.
كلاهما من الخيال التقليدى للبيروقراطية المصرية، فرغم وجود تمثيل للقطاع الخاص فإن أغلبية المجلس فى يد الجهاز الإدارى للدولة؛ أما الصندوق فإنه يبدأ من نفس النقطة التى تبدأ بها مشروعات الجهاز الإدارى: تقديم الدعم فى زمن نضجت فيه الدولة بما فيه الكفاية لكى تتجاوز فكرة الدعم فى مجالات شتى.
فى الواقع العملى فإن إنشاء المجالس العليا باعتبارها السبيل لسرعة القرار لا توجد له سوابق تاريخية ملهمة، وأدى ذلك إلى الازدحام الشديد لوقت صناع القرار؛ وأكثر من ذلك أن إنشاء صندوق للحوافز منذ البداية سوف يعنى أن المشروع ليس قادمًا لكى يضيف إلى القدرات الوطنية التى سوف تمده بالحوافز، وإنما لكى يأخذ منها.
الفارق ما بين مشروع القطار السريع ومشروع العربات الصديقة للبيئة فى السرعة والإنجاز هو أن الأول بحث عن الشركة الأهم فى العالم لكى تنجز المشروع، وهذه تعلم الشركات المصرية التى تتعاون معها، وكلها تعلم العوائد الاقتصادية الضخمة التى سوف يقدمها المشروع إذا ما جرى تشغيله وفق اقتصاديات السوق. مراعاة هذا الفارق ربما تكون موضوعًا لجبهات الحوار الاقتصادى المباشرة، وتلك التى سوف تجرى فى إطار «الحوار الوطنى».
أخبار متعلقة :