زلت قدمي وتلك تصاريف الأيام، لأجدني وقد توطنت سُكناي في بيتٍ متواضع ، من ثلاثة طوابقٍ يضم أجناسا شتّى ، هجره أصحابه بعدما أوكلوا إجارته لرجلٍ من الهنودِ يُسمّى " فواز" ، هو الآمر المُتصرِّف ، هبطت من السيارةِ التي اقلتني من المطارِ مباشرة ، نحنُ الآن ضحايا شمس الظهيرة الحارقة ، تحت نيرها الذي لا يرحم ، لم تطاوعني نفسي النّزول ، إذ كيف لي المجازفة ، وأنا أهنأ في دعةٍ تحت برد المُكيّف الذي يلفحني ، وفي الخارجِ تتماوج مُتلمّظة شياطين جهنم ، طالعت الشّمس فوجدت نظرات الحقد وقد انصبّت على الأرضِ ومن فيها ، لم يكن من بُدّ غير مغادرةِ السّيارة ، وقد تململ السّائق "البنغالي "قائلا في تأففٍ : " ليش ما تنزل صديق "، ، وبدأ يبرطمُ ضجرا، وقعت عيني أوّل ما وقعت على واجهةِ البيتِ، القابع في سكونهِ راضيا مُستسلما لمصيرهِ، يجتر همومه في صمتٍ كصمتِ الموتى ، شعرت بوخزة اللّهب تحرِق جلدي ، لحظتها انفتح الباب الخارجي ، لأجد من خلفهِ عوالم أخرى ، لأسرابٍ من بُنيّ الإنسان في مملكةٍ مخفية ، شخوصا في هيئتنا ، غير أنّ لَهم رطانة غريبة لم تتعهدها أذني ، اللهم إلّا في أفلام العيد التي سحرتنا صغارا ، لم اميّز من لكنتهم غير كسارةٍ من لسان العرب ، هالني جرأتهم على الحياةِ في هذا الوسط المشتعل ، وكأنهم في فلكٍ يسبحون ، أشار عجوز منهم نحونا مُلقيا بالتحيةِ في ابتسامةٍ بشوشةٍ ، أزاحَ لحظتئذٍ عن وجههِ سمرة قد تلبّدت ، من طلاءٍ غامق يُشبه منقوع " الكركديه ".
صَرَبَ ابن خالي بكفهِ فوقَ كتفي مُرحّبا : " أهلا بك يا نجم في فندق النجوم الزُّرق "، وانخرط في عفوية في ضحكة طويلة ، وقد توزّعت عينه ما بيني وبين المكان الذي غَامَ من أمامي ، تمالكت نفسي تدريجيا وأنا أغالِبُ هياجَ أعصابي وانفلاتها ، مُكتَفيا بمطالعةِ خليط البشر الذي حَام من حولي ، كأسرابِ النّمل التي خرجت من تحتِ أطمارِالمكان ، انجذبت أنفي طوعا لرائحةٍ نفاذة ، لم تمهلني طويلا ، بعدما اقتحمت الأجواء " طشة" قوية لاذعة ، تناثرت كالقنبلة ، لأول مرةٍ في حياتي أجد لرائحةِ الطّبخِ أثرا يحرِق الوجوه ويكوي الجلود ، مزيج مُرعِب ، سريعا سالت مدامعي ، واحتَقنَ أنفي ، وتلبّدَ مدخل البيت في لمحِ البصر ، بسحابةٍ داكنةٍ دسمة تحلّقت حول موائد الطّبيخ التي توزّعت بين أروقةِ المكانِ في عشوائيةٍ مقلقة ، وبعد انجلاءِ الغارة واستقرار الأوضاع ، اشتبكت عيني مع الفاعل ، الذي وقفَ مُبتهجا ، يُردِّد مسرورا مقطوعات لأغانٍ هندية حماسية على ما يبدو ، يُحرِّك مغرفة خشبية تآكلت أطرافها يمينا وشمالا ، قد كسى خشبها العتيق جِنزار مخيف ، تتابعت نظراتي السَّاهمة وكأنّ الزّمن قد توقّفَ عن الدورانِ ، اعتدلَ صاحبنا قبالتنا فَتبدّى كالماردِ العجوز ، خَرجَ لتوهِ من القمقمِ، يتصبب منه العرق يَحكَ جسده البضّ في الحائطِ مستسلما لخشونتهِ، وقد لَفّ وسطه بخرقةٍ مزركشة بالية، تداخلت ألوانها فبدت في بُهرجٍ يستفز العين ، تضيء محاجر عينيه في وهجٍ أخاذ ، هزّ رأسه في حركةٍ نصف دائرية هاشا مُردّدا في لطفٍ محيّر : " هلا صديق "، ، عرفت لاحقا من أنّها تحيتهم المعهودة ، اصفرَ معها وجهي ، وتداعت قواي ، وأنا أرى مستقبلا واهيا ، وقد تَجسّدَ مجهولَ الملامح أقف على أعتابهِ مُرتَبكا ، داعيا الله القدير أن يهيئ لي من شدتي مُرتفقا ..
أخبار متعلقة :