بوابة صوت بلادى بأمريكا

ناصر كمال يكتب : لحظة سقوط

 
 
أتسلق الدرج إلى أعلى..أحس بالتعب الشديد..لا أدري كم استغرقت للوصول إلى هنا..أدلف إلى السطح..ألقى نظرة.. لم يكن هناك أحدا.. مجرد قطع من الأثاث القديم يتناثر فى الزوايا..أتجه إلى الحافة..أرقب الصورة حيث السيارات تعدو مسرعة على الطريق الأسفلتي والمارة يبدون كقطع الشطرنج يتحركون بخطة غير واضحة المعالم بالنسبة لى..أحس بالدوار والخوف, فأنا مصاب برهاب الأماكن العالية..أستند على السور أحسه يتهاوي..لم أستطع أن أتماسك..أسقط مترنحا إلى أسفل..أصرخ, ولكن صوتي يأبى أن يخرج, وقبل أن أصطدم بأرضية الشارع, أفتح عيناي ناهضا, ونبضات قلبي تتسارع.. أدرك انني عشت كابوسا آخر..أحمد الله أنني مازلت قابعا على سريري فى غرفتي الصغيرة الفوضوية.. أشعر ببعض الدوار وكأن هناك رابطا خفيا يجمع بين الأحلام والواقع.
منذ أن عدت إلي الوطن من بلاد الغرب بعد أن اكملت دراستي للدكتوراة فى إدارة الأعمال, والتى حصلت عليها بمنحة تفوق, وأنا أبحث عن عمل يليق بشهادتي الجديدة..كانت لى آمال عريضة, ولكنها تبخرت بعد مرور شهور, وفشلي فى الحصول على ذلك العمل.. كنت على وشك العمل كمندوب مبيعات بسيط براتب وعمولة حتي أوفر لقمة العيش حين تلقيت مكالمة من إحدي الشركات تخبرني بميعاد مقابلة عمل..لم أكن متفائلا فقد خضت فى الفترة الأخيرة الكثير من المقابلات, والتى انتهت جميعها بالفشل, ومع ذلك كان على أذهب, فربما تكون تلك الفرصة الأخيرة للحصول على وظيفة مناسبة, رغم أن تلك الشركة كانت تبدو غامضة بعض الشئ بالنسبة لى, فلا أجد معلومات كافية عنها علي صفحات الأنترنت..فقط أسمها ويدعي"أس أر" وبأسفله شعار غامض يقول:
                           "نحن معك لتكتشف المجهول"
 وقد عثرت على إعلان لها صدفة على إحدي مواقع التواصل الاجتماعي..تعلن فيه عن وظيفة شاغرة لشخص يحمل مؤهلا متقدما فى إدارة الأعمال, ولكن ليس هناك فى الإعلان ما يدل على نشاط الشركة أو ما تقوم به. 
كان على الاستعداد للمقابلة, وقد قمت بذلك على أكمل وجه ..ارتديت البدلة الوحيدة التى أمتلكها, وعدلت من رباط العنق, وتأكدت من لمعة الحذاء..حملت كل ما أمتلكه من شهادات حصلت عليها, وتجنبت ركوب الباص حيث استقليت سيارة أجرة حتي لا أفسد أناقتي, ثم توجهت مباشرة إلى الشركة.
قادني الأمن إلى الطابق الثاني حيث أدخلني غرفة كتب عليها من الخارج بخط واضح "المدير التنفيذى"..استقبلتني سيدة شقراء تبدو فى الأربعين من عمرها, وتحمل قسمات رقيقة مع عينين زرقاوين..استطاعت بملامحها الجميلة وأناقتها الواضحة أن تأسرني تماما, فأحسست بأني نسيت كل ما أعددته من إجابات للأسئلة المحتملة فى مثل تلك المقابلات..أدركت بأنني سوف أفقد الوظيفة, فجلست منتظرا أن ينتهي كل ذلك بسرعة..لاحظت السيدة ارتباكي الواضح فبادرتني بالحديث:
- أري أنك تحمل مؤهلات كافية لشغل الوظيفة, وأعتبر أن تلك المقابلة للتعارف
بث كلامها الأمل فى نفسي, فزالت بعض من الرهبة التي كانت قد امتلكتني فى البداية, ومع ذلك لم أستطع الرد إلا بإبتسامة صغيرة, فواصلت هي الحديث:
- أعرفك بنفسي..أنا "سلوي رمزي" صاحبة الشركة أما هذا المكتب فسوف يكون لك إذا حصلت على الوظيفة
بدا الأمر واضحا الآن فاسم الشركة هو إختصار للحروف الأولى لصاحبتها ولكن لماذا تدير هي المقابلة بنفسها؟..نظرت إلى نظرة فاحصة, وكأنها تقرأ أفكاري, ورغم رقة ملامحها كانت نظرتها حادة تخترق العقل والقلب معا..قاومت تأثيرها القوي على وبدأت أبادلها الحوار:
- كنت أود يا سيدتي لو سمحتي لى أن أسأل عن طبيعة عملي ونشاط الشركة أيضا
- أنظر! ..نحن متفردون بل نحن الشركة الوحيدة هنا التى تقوم بإدارة هذا العمل وهو اكتشاف الفضاء
تعجبت كثيرا, فأنا لم أسمع يوما أحدا يتحدث عن اكتشاف الفضاء فى بلادنا.. لاحظت هي اندهاشي الشديد, ولكنها تابعت الحديث قائلة:
- نعم! اكتشاف الفضاء, فلدينا مناظير حديثة وضخمة جدا تم استيرادها من الغرب, ويمكنها تصوير الفضاء بدقة عالية, والوصول إلى صور لم يقرأ أحد حتي عنها فى الكتب, ولكن الأهم هي أنه لدينا غرف مزودة بأجهزة خاصة للواقع الأفتراضى يتم توصيلها بجسم الإنسان, فكأنه حرفيا انتقل للفضاء..سوف يحس أولا بانعدام الوزن, ومن ثمة يمكنه أيضا أن يتحرك ويشاهد كل ما يدور فى الكون الفسيح..أنها تكنولوجيا حديثة جدا ومكلفة, ولذلك تلك الرحلات الافتراضية باهظة الثمن أيضا
- ومن هم المستهدفون من هذا المشروع؟
- عملاءنا ينقسمون إلى نوعين: الأول هم الباحثون والثاني هم الأغنياء الذين يبحثون عن المتعة, وقضاء بعض الوقت خارج حدود الارض
دارت المقابلة لمدة ساعة كاملة بيننا كنت قد تخلصت خلالها من حالة الارتباك, وبدأت أعرض عليها رؤيتي لتسويق وتطوير هذا المشروع الفريد من نوعه, وانتهي اللقاء بيننا بمصافحة قوية من طرفها تخبرني بعدها بأنني حصلت على الوظيفة المعنية, وهكذا أصبحت مديرا تنفيذيا لشركة تنقل البشر من عالمهم إلى عالم آخر لم أكن أدري حقا ما هي حدوده؟ وإلى أين يمكنه أن يقودني؟
كان العمل مزدهرا علي عكس ما توقعت مما جعلني منصرفا طوال الوقت بإجراء الحجوزات ووضع الجدوال ومتابعة التنفيذ, والذى يستمر يوميا من الصباح وحتي الخامسة مساءا, فتعودت فى نهاية اليوم على أخذ قسطا من الاسترخاء فى غرفة الكون الافتراضى..كان عقلي يبدو مزدحما بكثير من الأرقام والبيانات التى تتداخل وتتراكم عبر الساعات, فتبدو مثل قطار سريع يتجول داخل الدماغ محدثا صداعا لا ينتهي..أصبحت تلك الغرفة هي الملجأ الوحيد للخروج من تلك الحالة حتي صرت مدمنا عليها, ولكن الغريب أنني أحسست بمرور الوقت بأن الحاجز بين ما أراه والواقع بدأ يتلاشي, فأشعر بانعدام الوزن وأنا أسير فى الطريق حتي أكاد أن أفقد السيطرة على أعضاء جسدي, فيتطاير ذراعي فى الهواء أحيانا, وترتفع قدمي عن الأرض فأسقط فى أحيانا أخري لكن هذا لم يثنيني عن الذهاب إلي تلك الغرفة يوميا بعد انقضاء العمل.
مرت ثلاثة أشهر لم أحصل فيهما على أجازة ولو ليوم واحد..كان المرتب مجزيا جدا, ولكن لم يكن هناك أجازة أسبوعية حتي بت مستهلكا تماما, لذلك قررت اليوم أن يكون غدا أجازة لى..كتبت الطلب, ومضيت إلى السيدة الجميلة صاحبة العمل ..نظرت إلى نظرتها الحادة عندما قرأت ما فى الورقة, فرأت فى وجهي تصميما شديدا..لم تجد هناك بدا من الموافقة..أمسكت بالطلب فرحا مثل طفل صغير..خرجت من مكتبها نزقا متهللا فبدوت كأحمق أمام الموظفين..تجاهلت الجميع, وانتظرت حتي انتهي اليوم وعرجت على غرفة الكون الافتراضى لأتجرع حصتي من الخيال والمغامرة, ثم غادرت مبني الشركة لأستمتع بأجازتي منذ الأن.
أعددت وجبة شهية, والتهمتها, ثم أحضرت طبقا من المكسرات غالية الثمن..وضعته أمامي وأنا أستلقى على الأريكة أمام التلفاز..ظللت أقلب فى القنوات, فقد قررت أن أقضى ليلتي كسولا ومسترخيا..وجدت فيلما هزليا..ظللت أضحك على كل كلمة تقال, وكأنني عطش للمرح..قاومت النعاس الذى بدأ يتسلل إلى أجفاني, ولكني فى النهاية تركت نفسي أغط فى النوم على الأريكة..وجدتني وقد انتقلت بكامل جسدي إلى الفضاء ..أتنقل بين النجوم والكواكب حتي لاحظت كوكبا برتقاليا لامعا بالأعلى..كان مبهرا فأتجهت إليه..مددت يدي لألمسه وأغوص فيه..قبضت يدي على الهواء وأرتج جسدي..فتحت عيناي لأجد نفسي على سور السطح أعلى منزلنا, وأسفل مني يوجد الطريق الأسفلتي المزدحم..ظل جسدي يترنح, ولكنه فى النهاية سقط متهاويا إلى أسفل..اصطدم بالطريق..انتظرت أن أنهض لأجد نفسي على السرير, ولكنني نظرت فوجدت وجوه الناس وهي تتسائل فوقى أن كنت قد فارقت الحياة قبل أن أغرق فى ظلام دامس, وأفقد الأحساس بكل ما هو حولى.
 
 
 
 

أخبار متعلقة :