تابعت بقلق بالغ تصريح خطير لأستاذ الجيولوجيا في جامعة القاهرة عباس شراقي مفاده أن "إثيوبيا حجزت 9 مليارات متر مكعب من مياه الفيضان كانت في طريقها لمصر".. وعلى الفور استحضرت ما قاله نائب البرلمان السابق والسياسي المتابع لهذا الملف سمير غطاس عندما أكد في تصريح له يون الأحد 14 يونيو 2020 إن هناك شركات خاصة في بعض الدول العربية شاركت في بناء سد النهضة، كما أن هناك حسابات كانت مفتوحة فى البنوك المصرية للتبرع لسد النهضة، قبل عشر سنوات من الآن، وتم تداركها وأغلقت، وأضاف "غطاس" - خلال حواره ببرنامج "كل يوم" المذاع على شاشة "ON" - أن هناك دول عربية لها تأثير كبير وواسع على إثيوبيا، كما يوجد علاقات بين إثيوبيا مع إسرائيل وتركيا.
ومع كل ما هو معلن، لا يجب إغفال علاقات إثيوبيا بمصر، فنحن أمام علاقة من نوع خاص تربط شعبين شقيقين، لهما تاريخ مشترك طويل جداً، هذا أولا، ثانيا هناك حقيقة جوهرية وهي أن أكثر من 70% من فيضان نيل مصر/ مصدره النيل الأزرق الذي ينبع من الهضبة الحبشية، وكانت تجمع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والإمبراطور هيلا سلاسي صداقة قوية بعد فترة طويلة من الشد والجذب بين بلديهما، حيث كانت مصر تركز على الجانب الديني، لأن إثيوبيا في ذلك الوقت كانت تابعة للكنيسة الأرثوذكسية المصرية، بل وكانت كنيسة الأم ترسل قساوستنا للعمل في الكنائس الإثيوبية.
كما كان للبابا السابق كيرلس علاقات شخصية بـ "هيلاسلاسي"، وكثيراً ما كان "عبد الناصر" يوظفها لخدمة مصالح البلدين المشتركة، كما كانت تتم دعوة "هيلاسلاسي" في افتتاح الكنائس في مصر، وكان البابا أيضاً يفتتح الكنائس في إثيوبيا، وبعد الإطاحة بـ "هيلاسلاسي"، بدأت تتراجع قوة العلاقات المصرية - الإثيوبية إلى أن وصلت لمرحلة العلاقات الرسمية الشكلية، وكانت من نتيجة ذلك أن استقلت الكنيسة الإثيوبية عن الكنيسة الأم في مصر، والتي ظلت منذ دخول المسيحية إلى إثيوبيا تابعة للكنيسة المصرية حتى عدة سنوات مضت، كما أصبح لها باباً إثيوبي خاص بها، وانفصلت قيادتها عن مصر تماماً.
عام 1975 اعتبر الرئيس الإثيوبي منجستو هايلا مريام في التحالف المكون من: الولايات المتحدة ومصر السادات والمغرب والسعودية وكينيا وإيران الشاه ضد المد الشيوعي، أنه مؤامرة مصرية موجهة ضد إثيوبيا، وفي خطبة له عام 1979 أعلن عن عدائه لمصر بشكل علني وصريح.
منذ 1991 تعاقبت عدة حكومات على إثيوبيا، إحداها يتزعمها ملس زيناوي - قائد جبهة تحرير تجراي TLF الانفصالية سابقاً - وهي على علاقة وثيقة بالخرطوم في عهد عمر البشير، شهدت علاقات إثيوبيا تحسنا ملحوظا مع كل دول الجوار العربية ماعدا إريتريا التي يحكمها إساياس أفويرقي - قائد الجبهة الشعبية للتحرير التجرينية (TPLF) - والتي كانت شديدة القرب - عرقياً وسياسياً - من جبهة تحرير تجراي (TLF) خلال سني الثورة.
ثم تدهورت العلاقات بين مصر وإثيوبيا مؤخرا، لأسباب ذكرنا بعضها سابقا، وسنوضح أكثرها لاحقاً، وذلك بعد تدخل العنصر الصهيوني على الخط نكاية في مصر، وهو ما تجلى في الخلاف بين دول المنبع ودول المصب لحوض نهر النيل، إذ قادت إثيوبيا وشجعت توجه دول المنبع إلى التوقيع منفردة على اتفاق لإعادة تقسيم مياه النيل رغم اعتراض مصر والسودان، في نوفمبر 2010، ادعى رئيس الوزراء الإثيوبي ملس زيناوي باحتمال لجوء مصر إلى العمل العسكري ضد بلاده بسبب الخلاف على مياه النيل، وبأنها (مصر) تدعم جماعات متمردة ضد نظام الحكم في أديس أبابا، وهو الأمر الذي أثار دهشة القاهرة التي اعتبرت تلك الاتهامات عارية عن الصحة، وتابع "زيناوي" ادعائه لوكالة رويترز قائلاً:
-"إن مصر لا يمكنها أن تكسب حرباً مع إثيوبيا على مياه نهر النيل، وإنها تدعم جماعات متمردة في محاولة لزعزعة استقرار البلاد"، وأضاف:
-"لا أخشى أن يغزو المصريون إثيوبيا فجأة، فلم يعش أحد ممن حاولوا ذلك قبلاً ليحكي نتيجة فعلته، ولا أعتقد أن المصريين سيختلفون عمن سبقهم، وأعتقد أنهم يعلمون ذلك"، وتمادى "زيناوي" في شطاحته:
-"حان الوقت ليحسم المصريون موقفهم إذا ما كانوا يريدون العيش في القرن الحادي عشر أو القرن التاسع عشر"...!!
وفي المقابل، أعربت مصر عن دهشتها وأسفها بسبب هذه التصريحات، وقال المتحدث باسم الخارجية المصرية حسام زكي - في بيان رسمي:
-"إن ما يثير الاستغراب، هو حديث "زيناوي" عن مواجهة عسكرية بين البلدين بشأن المياه"، وأضاف:
-"أن الاتهامات التي تضمنتها تصريحات "زيناوي" بشأن استغلال مصر لمجموعات متمردة ضد النظام الحاكم في إثيوبيا، هي اتهامات عارية عن الصحة"، مؤكدا "حرص مصر على توصل النظام في أديس أبابا إلى توفير الأجواء المناسبة التي تحول دون استفادة أي طرف من وجود هذه الجماعات"، وأعرب "زكي" عن أسف القاهرة لإقدام بعض الدول - وفي طليعتها إثيوبيا - على استباق نتائج الحوار من خلال التوقيع على مسودة الاتفاق الإطاري غير المكتمل، قبل التوصل إلى التوافق المنشود بشأن اقتسام مياه النيل.
من جانبه أبدى وزير الخارجية المصري حينها أحمد أبو الغيط - خلال زيارته لأبوظبي – دهشته للغة التي استخدمها "زيناوي"، قائلا:
-"إن مصر لا تسعى لحرب، ولن تكون هناك حرب"، والمعروف أن دول حوض النيل التسع، ومن بينها مصر وإثيوبيا؛ تجري منذ زمن بعيد محادثات لتسوية الخلافات حول اقتسام مياه النيل، حيث ترى بعض الدول أنها تعرضت للغبن في اتفاقية سابقة وقعت عام 1929، لكن في مايو 2010 وقعت إثيوبيا وأوغندا وتنزانيا ورواندا وكينيا اتفاقية جديدة مناقضة للاتفاقية السابقة بشأن مياه النيل التي أبرمت عام 1929 وتعدها هذه الدول ظالمة لها، وأعطت الدول الموقعة لبقية دول حوض النيل - مصر والسودان وبوروندي وجمهورية الكونغو الديمقراطية - عاما للانضمام للاتفاقية، لكن تلك الدول انقسمت بسبب خلافات وراء الكواليس منذ التوقيع"، وأضاف "أبو الغيط":
-"وبموجب اتفاقية 1929 تحصل مصر - التي ستواجه نقصا في المياه بحلول 2017 - على 55.5 مليار متر مكعب سنويا، من المياه المتدفقة في النيل والبالغة 84 مليار متر مكعب، وتمثل إثيوبيا مصدرا لحوالي 85% من مياه النيل، وأقامت إثيوبيا خمسة سدود ضخمة على مدى العقد الأخير، وبدأت إقامة منشأة جديدة للطاقة الكهرومائية تكلف 1.4 مليار دولار.
في 3 مايو 2011، أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي ملس زيناوي عن تأجيل عرض الاتفاقية الإطارية الخاصة بمياه النيل على برلمان بلاده، لحين انتخاب رئيس جديد لمصر، وقال زيناوى - خلال لقائه الوفد الشعبي المصري - إنه وافق على تشكيل لجنة خبراء مصرية - إثيوبية للتأكد من أن سد النهضة لا يؤثر على حصة مصر في مياه النيل، وإذا ثبت ضرره سنقوم بتغيير التصميم، وأضاف أن الرئيس السابق حسني مبارك كان يتعامل مع ملف المياه بطريقة أمنية، وأوكل إدارة هذا الأمر للوزير عمر سليمان – رئيس جهاز المخابرات العامة - الذي كان يتعامل مع دول الحوض بطريقة "الإملاءات" وليس المشاورات، ثم توالت الخطط والمؤامرات والمماطلات الإثيوبية من حكومة زيناوي حتى وصلت حكومة آبي أحمد الذي كشف عن سوء نية نظامه تجاه مصر من خلال التصريحات والأفعال معاً.
في هذا السياق، وقبل ذلك بثلاث سنوات مضت، كنت قد استشعرت "خبث" التحرك الإثيوبي لكسب ود وثقة عدة دول تكن أنظمتها الشر لمصر، منها على سبيل المثال الا الحصر: تركيا، قطر، إسرائيل وربما إيران، بالإضافة لبعض الدول الإفريقية الصديقة، وحينها طالبت قيادتنا السياسية في مقال تم نشره بموقع "جريدة الجمهورية" بعنوان "الطريق إلى سدود إثيوبيا"، بالتحرك لضرب "سد النهضة" الإثيوبي، والسدود المزمع إنشاؤها، وبدأت مقالي بالتاي نصه:
- بعيداً عن شائعات وعبث صِغارنا في الداخل والخارج، سواء أكانوا من فئة الحاقدين على النظام الحالي من جماعة الإخوان، أو المغيبين أو المتأثرين بكلام هؤلاء الحاقدين عن ملف "سد النهضة"؛ فلا يجب التسليم بأن هذه القضية وليدة اليوم أو أمس كما يروجون؛ فعداء الأنظمة الإثيوبية الموالية للصهيونية العالمية مؤكدة ضد مصرنا الحبيبة منذ زمن بعيد وحتى الآن؛ لدرجة أن هذا العداء أصبح منهجاً وعقيدة لكل من يعتلي سدة الحكم في هذا البلد الإفريقي الشقيق لأسباب معروفة وواضحة جدا.
-الديكتاتور "هايله سيلاسي" نموذج أصيل لهذا العداء؛ مثله في ذلك مثل "آبي أحمد" و "ديسالين" وغيرهم من الموالين لهذه الفئة الحاقدة على غيرها من أصحاب الديانات السماوية والحضارات العريقة، ويخطئ من يظن أن "الصهاينة" وصبيانهم سيتراجعون يوما عن سياستهم العدائية تجاهنا إلى قيام الساعة لأسباب – كما أشرنا – توراتية بحته؛ وما كتبه عالمنا الجليل الدكتور مصطفي محمود في مؤلفيه: "التوراة" و"الموامرة الكبري" عن المكائد والخطط الاستعمارية لمصر خاصة والمنطقة عامة، يؤكد يوما بعد يوم ما يجرى الآن ومن قبل على أرض الواقع.
- وبالرجوع إلى علاقة مصر بأثيوبيا، سنجد أن قدماء المصريين منذ فجر التاريخ حرصوا على احتواء وتجنيد القبائل الإثيوبية لصالحهم ضد أعدائهم؛ وذلك من خلال علاقات تجارية مميزة بينهم، إلى أن عبثت الصهيونية الحاقدة في جينات كل من يجلس على العرش الإثيوبي، وتحديدا في عهد الخديو إسماعيل محمد سعيد - والى مصر والسودان من يناير 1863 وحتى يونيو 1879 - حيث استطاعت قوى البغي والحقد والتآمر على مصر ( مجموعة من الدبلوماسيين الأجانب الذين أحاطوا بعرشه ) أن تُشعل نيران الخلاف بينه وبين إثيوبيا، فما كان منه إلا أن عمل بمشورتهم في استئجار جيش من مرتزقة: أوروبا وأمرريكا ( 9500 مرتزق تقريبا) لغزو إثيوبيا مرتين متتاليتين فاشلتين في فبراير ومارس العام 1875 في موقعتين سُميتا بـ "جوندات" و"جورا" مقابل آلاف الجنيهات الذهبية بعيدا عن جيش مصر بالطبع، وهذه قضية أخرى لها "غصة" في حلق الإثيوبيين، ولا مجال هنا لذكرها.
- لكن ما يجب التركيز عليه فى سياسة الخديو إسماعيل؛ هو توابع مغامرتيه الفاشلتين لغزو إثيوبيا بجنود مرتزقة، والتي أغرقت مصر فى تراكم الديون الأوروبية، مما دفع بريطانيا للتحرك بدعوى استرداد أموالها واحتلال مصر فى 13 سبتمبر 1882، ومنذ هذا التاريخ؛ استمرت الحرب المعلنة بين مصر وإثيوبيا حتى وقع القطران بوساطة بريطانيا اتفاقية "هويت" لوقف الحرب بينهما؛ وبذلك عادت الأمور إلى طبيعتها حتى تولي الإمبراطور المارق "سيلاسي" حكم بلاده عام 1930.
-ولإظهار الدور الصهيوني في تلك المؤامرة، يجب تسليط الضوء على نسب "سيلاسي" كما هو مُشاع في التاريخ الإثيوبي؛ حيث ينتمي إلى سلالة ملكة سبأ؛ زوجة الملك "سليمان بن داود" ثالث ملوك مملكة يهودا الموحدة، والذى حكم فى الفترة من 970 حتى 931 ق.م؛ ومنذ اليوم الأول لتوليه حكم إثيوبيا، أعلن إخلاصه للصهيونية العالمية، فكانت أولى خطواته لإثبات هذا الولاء أن جعل شعار جيشه "شبل أسد يهودا"، وهذا الشعار – كما هو ثابت تاريخيا وأثريا – عبارة عن رمز جيوش الملك سليمان الذى تبنته فيما بعد بلدية القدس عقب احتلالها على يد مرتزقة بني صهيون 5 يونيو 1967، في تحد ظاهر أو ربما متعمد لمصر خاصة، والعرب عامة.
-علما بأن "سيلاسي" سبق وقام بزيارة شهيرة لمدينة القدس عام 1924 معلنا تأييده وتبرعه بالذهب الإثيوبي لتسليح العصابات الصهيونية القادمة لأرض فلسطين من كل بقاع الأرض!!، فما كان من العرب بقيادة كل من مصر والسعودية؛ إلا إعلان رفضهم التعامل مع الإمبراطور المارق.
-ونتيجة التحالف الإثيو – صهيوني الذي أصبح يُهدد وحدة العرب كافة، وفي مقدمتهم نيل مصر؛ حاول فؤاد الأول - ملك مصر والسودان – بالاتفاق مع "موسوليني" – رئيس الحكومة الإيطالية حينئذ - الإطاحة بهذا المارق لتأييده وتبنيه المشروع الصهيوني لابتلاع فلسطين وتهويد ديانتها، وقد لعبت الأقدار في ذلك الأمر دورا عظيما حينما كشف "موسوليني" لملك مصر عن قراره بغزو إثيوبيا في اكتوبر 1035 لفتح طريق برى أمام جيشه داخل المستعمرات التي احتلتها إيطاليا في كل من: الصومال وإريتريا، وقد كان؛ فهزم "موسوليني" الامبراطور الإثيوبي، وأعلنت إثيوبيا فى 5 مايو 1936 مستعمرة إيطالية، وتم نفى "سيلاسى" إلى بريطانيا منذ هذا التاريخ، وحتى عودته إلى عرشه بإثيوبي 18 يناير 1941 في احتفال شعبى كبير.. وللحديث بقية.
أخبار متعلقة :