( يا صباح الخير يا للي معانا ) , صوت أغنية قادم من شرفة احد البيوت المجاورة , يختلط مع صوت بائعي الكارو المتجولين , سيمفونية لعزف غير منفرد تعوّدت عليه الأذن طويلاً حتى أدمنته فلم يشغلها كثيراً , طوّحت قدميّا في حركة بهلوانيه خفيفاً كلاعبي السيرك , مستبشرا بيوم صباحي جميل , خطوات قليلة , ابتعد صوت الراديو وصوت بائعي الكارو , كان لا يزال ارتخاء جفون عيني منسدلا لم يفسح الطريق بعد لرؤية نضرة , حاولت تنشيط حركة جفوني بفركها بيدي , انفرد صوت ارتطام بالأرض يعزف وحيداً كرنّة آلة معدنية , تنبّهت إليه لأجده متكوّراً أسفل قدميّا , عجوزاً تشققت شفتاه كأرض قاحلة , تكشّر عن أنيابها عظام وجنتيه وكأنّه سجين خرج لتوّه من زنزانة موحشة , يزحف باحثاً عن يد تعيد له نداوة طفولته وشبابه , جريئا كان يمشي منتصباً يختال في خطواته , نعم هو .. لسنوات ظللنا أصدقاء , يحاول كل منّا أن يرسم البهجة علي وجه الأخر قدر استطاعته , تكوّمت الساعات العصيبة يوما بعد يوم , تباعدنا أيضا يوما بعد يوم , كانت لقاءاتنا أشبه بغرباء حتي صرنا بالفعل غرباء , ابتساماتنا كخطوط بيضاء قليلة وسط سواد حالك , نعم هو .. بأصابع مرتعشة مددت يدي نحوه متكوّراً كقطعة خبز جافة , احتضنته بشفقة وضممته إلي صدري , كنت متعجلا , أفسحت له مكانًا يليق بعجوز مثله بين ارفف مكتبتي وبين أحضان من شاهدوا مولده .
سريعا ارتديت ملابسي , مسحت نظارتي جيداً فأنا حديث العهد بالمشي بها , كانت بالنسبة لي نافذة اطل من خلالها علي العالم بشكل جديد وأوضح وأكثر اشراقة , مهرولًا انزل السلم حتي وصلت إلي الباب الرئيسي للمنزل , وظيفتي تحتم علي الحضور مبكرًا دون تأخير , لم يعد وقت كافي لركوب الأتوبيس , أشرت بيدي لأول تاكسي قادم من بعيد , بالفعل وصلت في موعدي , مازالت موسيقي أغنيات الصباح
تيقظ النيام , طلبت كوبًا من الشاي , ومع أول رشفة تذكرت ما حدث , توقفت قليلاً
أحاول تفسيرًا لذلك ولكني عدت سريعا لأ تابع عملي , لم يكن هو الحدث الأكبر حتي يشغلني , هناك قضايا أخري أهم واكبر من ذلك , انتصف النهار , اللزوجة تحيل الأوقات الجميلة إلي ساحة حرب , حاولت كسب المعركة , أدرت المروحة إليّ مباشرة , نعم كدت احلق في السماء عندما سرَت في جسدي نسمات الهواء حتى غفوت قليلاً , لا اعلم بالتحديد كم من الوقت مضي , انقطع التيار الكهربائي , توقفت المروحة عن إرسال نسماتها , انساب العرق علي وجهي مالحًا حتى تذوقته , استيقظت رافعًا رأسي لأري مَن حولي وقد انفض الجميع عن مكاتبهم , لملمت أوراقي المبعثرة , وهممت بالوقوف لأسمع مرة أخري صوت ارتطام لآخر بالأرض , كان مصابًا ببعض جروح وانكسار في احدي قدميه , بيد حانية التقطّه وتركت يدي تنساب برقة علي جسده النحيل وضعته في حقيبتي حتى أعود لأفسح له مكاناً كطفل صغير يلهو علي ضفاف قصائدي , حاولت بشتّى الطرق إيجاد تفسيراً لما يحدث , وماهي علاقة نومي بذلك ؟ , تخدّر جسدي تحت وطأة نسمات الهواء التي تبعث بها أحضان السماء الحانية , لم تمنعني حيرتي من الاستسلام لفراشات نوم عميق , أفقت منه وأنا مرتجف , ثلاثة تعلق واحد منهم بأهداب رموشي وأخر كان يسبح في مياه عيني وأخر كان علي حافة الجفن , أريد أن افتح عيني علي اتساعها ولكني لا أريد خسارة أخري لأحلامي , يكفي من الأيام إراقة لدماء الكثير منهم .. حبيبتي التي لم أتزوجها , وظيفتي التي لم احصل عليها , قصيدتي التي لم اكتبها , كلّيتي التي لم ادخلها .. , هنا قررت أن أغلق عينيّ حتى أحافظ علي ما تبقي منهم وان اضطررت لأن أتنقّل بين الشوارع والحارات واجلس بين الأهل والأصدقاء , أنام وأصحو مغمض العينين , أقضي كل أوقاتي كأنّي ولدت كفيفاً , أتخيّل كل ما يدور حولي , متّكأً علي عصا ابتسامتي و ظل أحلامي السعيدة .
أخبار متعلقة :