كل عام وانتم بخير بمناسبة العام الهجرى الجديد رقم 1444. هى رمز لم يثبر العالم الاسلامى او غير الاسلامى مغزاه بعد ولاغضاضة فى ذلك، حيث أن موضوع الهجرة يشغل بال العالم من عصر ماقبل التاريخ. بعد ثمان سنوات على بدء دعوة محمد صلى الله عليه وسلم للإسلام، هاجر هو وأنصاره الى بلاد مسيحية هى الحبشة. عبروا البحر الأحمر من شرقه الى غربه باحثين عن ملجأ من أذى أقاربهم وعشيرتهم فى قريش.
وحينما مثلوا أمام النجاشي طالبين حمايته وعدهم وأوفى بوعده.
رفض النجاشي ردهم إلى أيدى من آذوهم إذ استمع إلى ماجاء فى القرآن الكريم فى سورة مريم العذراء وما أوردته عن المسيح عيسى فوجد فيها الرباط الوثيق بين كل الأديان السماوية، وفاضت عيناه بالدموع إذ أيقن أن المهاجرين المسلمين يثقون بما آمن به هو وأسلافه من أقدم الأزمان.
الهجرة إذاً هى الطريق إلى الأمن والسلام حينما لاتنفع المقاومة. وحينما نغوص فى فكرة الهجرة احتفالاً بالعام الهجرى الجديد، نجد فيها من المعانى مايعجز القلم والفكر عن سردها جميعاً. أنصع معانيها هو رفض الاستسلام للظلم بالخروج من بوتقة البركانية ، الرد السلبى هو الذى ينطق بما أدى اليه الظلم. هجرة الرسول الى الطائف بالجزيرة العربية كانت فشلاً ذريعاً إذ قذفه أولاد الطائف بالحجارة ويقال أن الرسول أصابته تلك القذائف اليدوية الصخرية، وانقلب الحال حينما رحب بالنبى اهل يثرب (المدينة المنورة فيما بعد).
ومن دواعى الدهشة التاريخية أن أمير الكويت، الصباح فر من بلاده هرباً من جحافل غزو صدام حسين الكويت عام 1990، إلى أين هرب؟ إلى الطائف بدعوة من الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، فالطائف بلد ذو نسيم عليل، وجغرافيته تجعل منه مكاناً آمناً ولو إلى حين. فرار الصباح كان هجرة حتمية انتهت بدخول قوات عسكرية من 27 بلد بما فيها مصر، بقيادة الجنرال شوارزكوف ، من مواليد نيوجرسى.
يحي القرآن الكريم الهجرة لكى ينجو المهاجرون بدينهم ولو إلى بلد مسيحى عريق- اثيوبيا، بل إن القرآن يشيد بالهجرة فى حوالى عشرين من آياته، نكتفى بإقتباس من بعضها فيما يلي: فى رساله سماوية الى الرسول جاءت الآية الخامسة من سورة المدثر قائلة "وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (2) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (3) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ" (الآية 5) ، وفى سورة المزمل ورد مايلى " وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً" (الآية العاشرة). ويحي القرآن من يستقبل المهاجر من الظلم ويجعله جزءاً من أسرته، حين تقول الآية التاسعة من سورة الحشر: "وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلْإِيمَٰنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ".
نستنتج من كل هذا أن لكل هجرة طرفين: المهاجر والمستضيف. ولقد ضربت مصر المثل الأعلى باستقبال كل مهاجر عربى سواء كان فلسطينياً او سورياً أو ليبياً أو جزائرياً. ام الدنيا وهى المحروسة تضحى من أجل تكريم المهاجر ولو كان ذلك مكلفاً لمواردها التى تكاد أن تلتهمها الزيادة السكانية (تعدادها الآن مائة وخمسة ملايين) أى مايفوق ثلث تعداد الأمة العربية بأكملها.
بل علينا أن نتذكر فى العام الهجرى الجديد أن الهجرة تكاد أن تكون ركنا من أركان الإيمان وأن التقاعس عن الهجرة، فراراً من الظلم، يلغى التبعة على من تسبب فى ارغام المهاجر على النزوح عبر حدود الظلم.
تقول سورة النساء: "أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا" (الآية 97). هنا نجد ان الفقه الإسلامى، وهو جزء من الفقه الدولى، يلغى الحدود السيادية فى حالات الهجرة. إن جاء المهاجر إلى أرض الهجرة بقلب سليم والانصياع لقوانين وأعراف وآداب الدولة المستقبلة.
وهنا نوجه الأنظار إلى أن قطاعاً من اللاجئين الفلسطينيين وهم أهل غزة حاولوا وفشلوا فى غزو مصر من تحت الأرض عن طريق آلاف من الأنفاق حفروها فى منطقة رفح. كان هذا انقلاباً على أصول الهجرة لأنه حاول الغاء السيادة المصرية على حدودها، وتحدى القانون الدولى بأن للهجرة قواعدها وإلا كانت غير مشروعة. بل إن أصحاب الأنفاق من شعب غزة كانوا يتقاضون آلاف الدولارات ثمنا لإستخدام تلك الأنفاق. وحينما دعتنى قيادات حزب الوفد لمشورة قانونية فى هذا الشأن قلت فى القاهرة اهدموها!! وتم ذلك فى غضون أيام معدودة، وانتهت محالاوت استغلال مصر للإتجار بقواعد الهجرة.
عوداً إلى جذور السنة الهجرية منذ أيام محمد صلى الله عليه وسلم كانت بداية الدولة الأسلامية فى أحضان المدينة المنورة (وكان أسمها اليهودى يثرب) حينما وصل الرسول مع أتباعه القليلين هارباً من مكة إلى يثرب، خرجت الوفود بالدفوف والأغانى "طلع البدر علينا من ثنيات الوداع. وجب الشكر علينا. مادعا لله خير داع"
وكأنني اسمع تلك الدفوف تدق فى ذاكرتى معلنة مطلع السنة الهجرية التى أسس لها رسول الأمة بعد ثمان سنوات من تلك الهجرة المباركة. وهنا نلاحظ أن الهجرة التى نحتفل الآن بعامها رقم 1444 ألغت الأنساب والأحساب التى كانت تربطها دماء القبائل، واستبدلتها بروابط الإيمان وإلغاء القبلية والجاهلية والعصبية. وهى وشائج كاذبة لأنها سطحية، نرى ظاهرها فى قول الشاعر العربى الذى وضع القبيلة موضع التاليه حين قال: "أولئك آبائى فجئنى بمثلهم.. إذا جمعتنا بإجرير المجامع"
هذه النظرة هى من أسباب تخلف بعض الدول العربية التى ترى فى العولمة دوباناً للجاهلية التى مازالت ترفع راسها بين الحين والحين.
الهجرة ألغت حدود العشيرة وأحلت محلها ماعبر القرآن الكريم عنه بقوله سبحانه وتعالى فى سورة الأنبياء: " إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُونِ"
لذا أرى فى توحيد الله فى كل الأديان السماوية رفضاً للشرك إذ الله ليس لجنة وليس شركة مساهمة وليس قابلاً للمنافسة. ولعلى أرى وجه إخناتون الفرعون العظيم، والد توت عنخ آمون، بوجهه المتقلص داعياً إلى التوحيد، ورفض تعدد العبادات داخل إطار البلد الواحد.
إن كان مينا قد وحد الوجهين، البحرى والقبلى، فى فجر التاريخ مؤسساً مصر الحديثة، فإن اخناتون رأى توحيد الأعراف الدينية خير رباط لدولة دامت حتى الآن 7000 (سبعة آلاف) سنة. السنة الهجرية وحدت الأمة بكل اطيافها.
وينبغى ألا ننسى أن القرآن قد أسس مبدأ أزلياً وهو الحكمة. "ويعلمك الكتاب والحكمة" بل إن الحكمة وهى استخدام العقل فى نظر الأمور هى صك الإيمان. ولن يتكامل ذلك الإيمان إلا بالإعتراف بحق أصحاب الديانات السماوية الآخرى، وأبرزها ديموغرافيا، المسيحية فى العبادة وفى سائر الأحوال الشخصية.
وكما قلت سابقا على صفحات الغراء "صوت بلادى": "المفكر لايكفر" وحين تقرأ الفاتحة وفيها "مالك يوم الدين" فالمعنى هنا أن لله جل جلاله عاقبة الأمور وبمعنى يوم الدين هو يوم الجزاء.
وليس لإخواني أو داعشي أو سلفى أو تاجر دين أن يملى من هو المؤمن، ومن هو الكافر. والكافر هو من يحاول الإملاء والسيطرة، والسطو على المعتقدات بلسانه ووسائل الاعلام. هو المارق الذى يحول دون ممارسة المؤمن اى دين من ممارساته. العقيدة فى القلب لا فى الاعلانات والميكروفونات.
السنة الهجرية هى ذكرى سنوية بأن الظالم يلغى حقه فى الانصياع له. وهى تبشر بإنطلاقة من كبوات الزمان وخلخلات الأعراف، وتسييس القوانين، إذ هى توحد بين القلوب إلينا جميعا بشرى أن العام الهجرى يقول لنا "من هنا نبدأ" وفى كل بداية بركة إذ فيها مراجعة لما ارتكبنا من أخطاء، وفيها أمل فى أن يكون الجديد أفضل من القديم، جعلها الله سنة مباركة على الجميع.
أخبار متعلقة :