"الأديب الماهر لا بد أن يكون لديه القدرةُ على الفكاهة، سواء كان شاعرًا أو خطيبًا أو كاتبًا أو قصّاصًا أو روائيًّا، فهو بهذه الملَكَة يستطيع أن يصلَ إلى نفوس سامعيه، ويفتحَها لآرائه، ويدسَّ في ثنايا فكاهته ما يريد من المبادئ والنظريات فيتقبّلها القارئ أو السامع في لذة ومتعة ويكون ذلك أفعلَ في نفسه، ولهذا ينجح الأديب الفكِه أكثر مما ينجح الأديب العابس"( )
ويعتبر الأسلوبُ الساخرُ أقدرَ الأساليب على نقد الواقع، وأكثرَها تأثيرًا في النفوس، ولما كان نقد الواقع هدفًا من أهداف المقامات، فإنها لذلك تعتمد على الفكاهة والسخرية اعتمادًا كبيرًا، والسخرية أو الأسلوب الساخر قديمٌ قِدَمَ الأدب نفسه، وقد أفاض الدارسون في بحث أصوله فمنهم من جعل أرجع بداياته إلى الرومان حيث السخرية من البشر وحماقاتهم، لقد كانت السخريةُ وما زالت من العناصر التي تلفت نظرَ الباحثين والنقاد في الأساليب الأدبية لبعض الكتاب، "والسخرية تعتبر أرقىٰ أنواع الفكاهة ؛ لأنها تحتاج إلى قدر كبير من الذكاء والخفاء والمكر." ( )
والأسلوب الساخر في الأدب من أشقِّ الأساليب على المبدعين؛ إذ لا يُتَوقَّع لكلِّ أديبٍ أو مبدعٍ أن يجيدَه في كتاباته، وكم من أديبٍ حاول أن يكتبَ بأسلوبٍ ساخر لكنه لم يقوَ على ذلك، وجاء أسلوبه سمجًا ممجوجا، وكان كمن يحاول أن يحلِّقَ بجناحيه فيضربَ بهما الأرض لكنه يقعي ولا يرتفع، وكبا كبوةً حاطمة.
والأديب الساخر ذو قدراتٍ خاصةٍ متنوعة، أولها موهبته الفطرية، فأسلوب الكتابة –في عمومه - موهبةٌ قبل كلِّ شيء ثم تأتي عواملُ أخرىٰ كثيرةٌ تصقل تلك الموهبةَ وتنميها. أما ثانيها فرُوحه الناقدة التي تستطيع وضعَ يديها على العيوب وتبرزها، ثم تصف العلاجَ المناسبَ لما يعرو الأشخاصَ والمجتمعَ من أمراضٍ سلاحها السخرية والفكاهة.
"وهي – السخرية - نوعٌ من الضحك الكلامي أو التصويري الذي يعتمد على العبارة البسيطة ، أو على الصورة الكلامية مع التركيز على النقاط المثيرة فيها . وتحاول السخريةُ أن تتخلص من الانفعال في الظاهر، فتبدو كأنها لا تنبعث عن عاطفةٍ ما عند قائلها لأنها تخاطب العقل ، وتسعىٰ الى أن يكون الجوُّ حولها مشبعًا بالإدراك والوعي؛ حتى تستطيع أن تثيرَ الضحكَ السريع ، لتسلطَ الضوءَ بصورةٍ أكثرَ سرعةٍ على الأشياء التي لا تناسب الحياة، والتي يمكن أن نصِفُها بأنها لا تليق بالفرد أو الجماعة، وهي عندما تسلط هذا الضوءَ السريعَ تخدم فكرةً عميقة، ولكنها تريد لها أن تكون عابرة ، حتى يمضي كل شيء في خفة ونشاط." ( )
تشيع في مقامات الغزاوي الفكاهةُ والأسلوبُ الساخر، ويعتمد عليها في مواقف نقد الواقع والطباع والعادات، فيجعل منها معولا يهدم به أصنامَ الزيف والوهم في أسلوبٍ ساخرٍ مضحكٍ مبكٍ في آن، والهجاء من صور الفكاهة والأسلوب الساخر، والدكتور الغزاوي من هؤلاء الذين فُطِروا على الفكاهة والأسلوب الساخر، ومَن كان في ريب من كلامنا فدونه إبداع الرجل يحتكم إليه، وفي مقاماته التي بين أيدينا مادةٌ خصبةٌ لهذا الأسلوب المحبب إلينا؛ فنحن نفضل هذا الضربَ من الكتابة خصوصًا في الحديث عن النقد( ) ومن شواهد الأسلوب الساخر – وهي كثيرة - :
- (حَدَّثَنَا أَبُوْ كِمَامَةَ الْكُوْرُوْنِيُّ) مفتتح يبعث في النفوس ضحكًا، يطوي ألمًا مكتومًا، فتبتسم الشفاه وتبكي القلوب، وهو نموذج للسخرية المريرة، وصورةٌ مضحكةٌ مبكيةٌ، تجسد خطر الجائحة التي عمَّتِ العالمَ في زمن (الكوفيد)، فسال الدمعُ، وعم الغمُّ، تبدو مضحكةً لوصف الراوي بذلك الوصف الملازم للكمامة (أبو كمامة) وما فيها من إيحاء الملازمة، صورة تضحك وتبكي في أن؛ فكاتبنا يسخر من حال الإنسان وضعفه وخوفه من العدوى وحذره الناس (وَقَدْ تَبَاعَدَتْ أَجْسَادُنَا, وَتَنَاثَرَتْ أَشْخَاصُنَا, حَتَّى كَأَنَّ الْخِصَامَ قَدْ ضُرِبَ بَيْنَنَا بِسُوْرٍ لَهُ بَابٌ, بَاطِنُهُ فِيْهِ الْمَلَامُ, وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْمَوْتُ الزُّؤَامُ)
- (فَعَلَ صَاحِبُنَا فِعْلَةً شَنْعَاءَ, وَجَرِيْمَةً نَكْرَاءَ, فَلَيْتَ أُمَّهُ لَمْ تَلِدْهُ, وَإِلَى الدُّنْيَا لَمْ تُوْجِدْهُ؛ فَقَدْ عَطَسَ صَاحِبُنَا عَطْسَةً مُدَوِّيَةً, أَحْدَثَتْ هِزَّةً قَوِيَّةً, وَمَعَ أَنَّهُ حَاوَلَ إِخْفَاءَهَا بِكُمِّهِ قَدْرَ الْإِمْكَانِ, فَإِنَّ صَوْتَهَا قَدِ انْسَرَبَ, وَظَهَرَ وَاضِحًا لِلْعَيَانِ, وَعِنْدَئِذٍ نَظَرَ إِلَيْهِ الْقَوْمُ, فَكَادَ لَحْمُ وَجْهِهِ يَسْقُطُ مِنْ الَّلوْمَ, فَأَطْرَقَ إِلَى الْأَرْضَ خَجِلًا, وَطَأْطَأَ رَأْسَهُ مُتَمَلْمِلًا, وَجِلًا, وَقَدْ بَانَ عَلَيْهِ التَّأَثُّرُ بِالْجُرْمِ الَّذِي فَعَلَ, وَبِالْمُصِيْبَةِ الَّتِي مِنْهَا الْكُلُّ قَدِ اسْتَغْرَبَ, وَذُهِلْ, وَالْقَوْمُ عَلَى حَالَةٍ مِنَ الْاِسْتِنْفَارِ, حَتَّى كَادَ يَحِيْدَ عَنْهُمُ الْهُدُوْءُ وَالْاسْتِقْرَارُ, قَدْ تَرَكَ كُلٌّ مِنْهُمْ مَا فِي يَدَيْهِ, وَتَفَرَّغَ لِمَا رَأَى بِأُمِّ عَيْنَيْهِ, وَمِنْ ثَمَّةَ فَقَدْ تَبَادَرُوْا إِلَيْهِ بِالْمُلَاحَاةِ وَالسَّبِّ) حين يعم (الكوفيد) (فالعطسة) فعلة شنعاء، وجريمة نكراء، فيا لسخرية القدر! ويا لها من صورةٍ تعضد الصورةَ الأولىٰ في مفتتح المقامة! يضعنا الدكتور الغزاوي بين موقفين شديدَي التناقض، فلا ندري أنضحك لتلك الصورة الساخرة أم نبكي لها؟!
أنضحك لأن العطسة آضت فعلة شنعاء، واستحالت جريمة نكراء؟! أم نرثي لهذا الذي (كَادَ لَحْمُ وَجْهِهِ يَسْقُطُ مِنْ الَّلوْمَ, فَأَطْرَقَ إِلَى الْأَرْضَ خَجِلًا, وَطَأْطَأَ رَأْسَهُ مُتَمَلْمِلًا, وَجِلًا, وَقَدْ بَانَ عَلَيْهِ التَّأَثُّرُ بِالْجُرْمِ الَّذِي فَعَلَ)؟!
- في (الْمَقَامَةُ الْعِرْقُسُوْسِيَّةُ ) تتجلى السخرية في أبهىٰ صورها، وفي ذكاءٍ شديدٍ يدرك الغزاوي أن الناس في شهر رمضان يبحثون عما يبعث في نفوسهم سرورًا، ويدخل في قلوبهم حبورًا، سيَّما بعد صلاة العصر وقبيل الإفطار؛ إذ تمرّ الدقائق ثقالًا، والنفوس تمور من الفكر والخيال، فيُلقي إليهم بتلك الفكاهة الساخرة الساحرة، التي ترصد وتجسد عادات الناس في شهر رمضان، وكلها عادات مورثة تناقلتها الأجيالُ جيلًا بعد جيل" اِعْلَمْ, يَا رَعَاكَ اللهُ, أَنَّ حُبَّ الْعِرْقُسُوْسِ مَرْكُوْزٌ فِي النُّفُوْسِ, مَغْرُوْسٌ فِي الْفِطْرَةِ, جِبِلِّيٌّ فِي الرُّوْحِ, مُتَأَصِّلٌ فِي الطَّبْعِ, بَدْهِيٌّ فِي الْعَقْلِ, مَأْمُوْرٌ بِهِ فِي الشَّرْعِ وَالنَّقْلِ, قَدْ تَحَدَّثَتْ بِأَهَمِّيَّتِهِ الْأَخْبَارُ, وَتَرَادَفَتْ بِفَضْلِهِ الْآَثَارُ, الْمُتَوَاتِرُ مِنْهَا وَالْآَحَادُ, وَالْمُتَّصِلُ الرِّوَايَةِ وَالْإِسْنَادُ " وليست الفكاهة بخافيةٍ في وصف حب الناس لذلك الشراب (الْعِرْقُسُوْسِ) بأنه مأمور به في الشرع والنقل، وَتَرَادَفَتْ بِفَضْلِهِ الْآَثَارُ, الْمُتَوَاتِرُ مِنْهَا وَالْآَحَادُ, وَالْمُتَّصِلُ الرِّوَايَةِ وَالْإِسْنَادُ، ثم تأتي تلك الصورةُ العجيبةُ الموغلةُ في الفكاهة من عادات عائلة الكاتب نفسه، وما هذا إلا لأنه جُبل على تلك الطبيعة الساخرة والفكاهة غير المتكلفة كما ذكرنا: " بَلْ بَالَغَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْغَزَّاوِيَّةِ- رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى – أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ الْإِفْطَارُ عَلَى شَرَابٍ سِوَاهُ, بَلْ لَقَدْ أَوْغَلَ بَعْضُهُمْ فَرَأَى إِعَادَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ قَضَاءً, فَلِلَّهِ دَرُّهُمْ, وَعَفَا اللهُ عَنَّا وَعَنْهُمْ!!" كدنا – حين طالعنا تلك اللوحةَ الساخرة - أن يُغشىٰ علينا؛ ولا شك أنكَ – أيها القارئ الكريم – سوف تشاركنا الشعورَ نفسَه حين ترى فقهاءَ الغزاوية – عائلة الكاتب – قد أفتوا بأن يومًا من أيام الصوم ليس في إفطاره شراب العرقسوس يجب إِعَادَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ قَضَاءً.
- في (مَقَامَةُ الْمُوَاجَهَةِ) يبلغ الأسلوبُ الساخرُ ذروته في مقامة هجائية، والهجاء - لا ريب - ضربٌ من الفكاهة يعتمد على السخرية في رسم صورة المهجوّ، وعلى قدر الجُرم يكون العقاب، ولا عقاب يستحقون غير هذا الأسلوب الذي رسم صورتهم خاضعين ناكِسي الرؤوس، "سَتَأْتُوْنَ إِلَيَّ يَوْمًا مَا مُجَلَّلِيْنَ بِالْعَارِ, مُتَّشِحِيْنَ بِالشَّنَارِ, مُتَسَرْبِلِيْنَ بِالْإِثْمِ, مُنَكَّسِي الرَّأْسِ, مُنْهَكِي الرُّوْحِ, خَاضِعِي النَّفْسِ, مُتَذَلَّلِيْنَ, مُطَأْطِئِيْنَ, مُنْكَسِرِيْنَ, مَخْذُوْلِيْنَ, تَائِهِيْنَ, طَالِبِيْنَ الْعَفْوَ وَالْغُفْرَانَ, وَالصَّفْحَ وَالتَّحْنَانَ, نَادِمِيْنَ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ, بَاكِيْنَ عَلَى مَا صَنَعْتُمْ, مُتَحَفِّزِيْنَ لِلِقَائِي, مُتَشَوِّقِيْنَ لِدَوَائِي, مُتَحَرِّقِيْنَ هُيَامًا لِرُؤْيَايَ, مُتَلَهِّفِيْنَ النَّظَرَ إِلَى وَجْهِي وَمُحَيَّايَ, تَرْتَجُوْنَ مِيْرَتِي, وَتَتَكَأْكَئُوْنَ عَلَى نِعْمَتِي, وَتَرْكَعُوْنَ فِي حَضْرَتِي, وَتَتَهَافَتُوْنَ, مِنْ ثَمَّ, عَلَى وِرْدِي, وَتُقَبِّلُوْنَ يَدَيَّ فِي طَلَبِ وُدِّي" فليس من المروءة ولا من الشهامة أن يخون الإنسانُ أخاه، ويكون جزاؤه جزاءَ سنمَّار، "وليس - الهجاء - إلا تصويرَ الهاجي للمهجوُ في صورة هزلية تثير السخرية والضحك، وقد حفِلَ العرب به أشد احتفال لأنه مرتبط بنوع حياتهم الاجتماعية، إذ هم يحرصون على المروءة التي هي الشجاعة والكرم ويحرصون على حسن السمعة."( )
أخبار متعلقة :