عادة ما تضع الثورات بلدانها على مفترق الطرق. فلا يصبح أمامها سوى " نهوض بلا سقف" أو " انحدارٍ بلا قاع " .. فمصر التى قامت بثورتين كان لأبنائها طموح في نهضة بلا سقف، ولكن المتآمرين على خرابها كان لهم طموح أخر وهو انحدار بلا قاع .. وفى كلتا الحالتين كان الاقتصاد هو بيت القصيد.. وكانت الأزمات التى تلت ثورة 30 يونيو وسواء كانت بفعل أهل الشر المتآمرين على خراب البلاد أو بفعل تداعيات الأزمات الطبيعة كأزمة كورونا التى أغلقت الأسواق وأخذت الاقتصاد العالمي بقوة نحو القاع .. أو بفعل تداعيات الصراع الدولي المحتدم بين روسيا وحلفائها وأوكرانيا واشياعها .. بمثابة الاختبار الحقيقي لصلابة الاقتصاد المصرى وقدرته على مواجهة العواصف العالمية وكذلك بمثابة اختبار لقدرة الحكومة المصرية على تجاوز الأزمات وحسن إدارتها والاستثمار فيها..
فلا نستطيع بحالٍ أن ننسى حركة " العقاب الثوري " التى دشنتها جماعة الاخوان وأنصارها إبان ثورة 30 يونيو . بهدف تضييق سُبُل المعيشة أمام المصريين، من خلال قيامها بافتعال أزمات اقتصادية متكررة ؛ كان لها مردودها السلبي العنيف على حياة المواطن المصري البسيط، المتصالح مع ذاته ووطنه، على استقرار الأوضاع فى مصر بصفة عامة، كعقاب للمصريين الشرفاء الذين شاركوا في إسقاط دولة الإخوان ..!
إن ما نكتبه الآن ليس " خطاباً سياسياً" طليقا،ً وإنما هو مقال يحاكى الواقع المصرى فى علاقته بالأزمات العالمية المتكررة والمحتدمة فى ذات الوقت. و يستند إلى حقائق وبراهين تدلل على صمود الدولة المصرية أمام العواصف الدولية والطبيعية التى تبدد اقتصاديات العالم، وتنذره بفقرٍ مدقعٍ متعدد الأبعاد والتداعيات .. ويؤكد على إصرار الدولة الحاسمة والرحيمة بشعبها على المضي قدماً نحو التنمية الشاملة متعددة الروافد والتداعيات .. بما يؤسس " لدولة التنمية" التى تشكل الملمح الرئيسي للجمهورية الجديدة، التى وضع السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي ركائزها ومقوماتها.. و التى ربما تنقل الدولة نحو التحضر والتحول الرقمي والحياة الكريمة للمصريين كافة ..
ففي طريق الدولة للانتقال بسياساتها الاجتماعية والتنموية، من سياسات تخلق الأزمات، إلى سياسات لإدارتها.. ومن سياسات تدير الأزمة ، إلى سياسات تستثمر فيها .. فقد سبقت الدولة أزماتها بخطوة .فتبنت سياساتً جديدةً للحماية الاجتماعية قبل إطلاقها لبرنامج الاصلاح الاقتصادى .. تقوم على انتشال المواطنين غير القادرين على التواكب مع التغيرات الاقتصادية والسياسات المالية والنقدية الجديدة لتصبح هذه السياسات بمثابة سدٍ منيعٍ يحول دون سقوط الطبقة الوسطى ويعزز القوة الشرائية للمواطنين ويزيد من قدرتهم على الادخار من أجل استدامة عمليات التنمية؛ بما يحقق رؤية مصر للتنمية المستدامة 2030.
ومن ثم فقد نجحت سياسات الحماية الاجتماعية التى كان برنامج تكافل وكرامة الذى يقوم على الدعم النقدي المشروط للأسر الأولى بالرعاية في 2015 أحد ملامحها الرئيسية، في تلقف الأشخاص الذين عجزوا عن مواكبة تداعيات برنامج الاصلاح الاقتصادى.. وكانت النتيجة الحاسمة لهذه الخطوة الاستباقية هو تراجع معدلات الفقر في مصر من 32,4 % عام 2018 إلى 29,7% عام 2020..وتحول الاقتصاد المصري حينها بشهادات دولية رفيعة المستوى صدرت عن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والبنك الإفريقي للتنمية من اقتصاد هش، إلى اقتصادٍ قادرٍ على مواجهة العواصف الاقتصادية الكونية .. ومع هذه الشهادة بالغة الأهمية؛ تحولت الدولة من دولة مهدد بالهشاشة إلى دولة تنموية صاعدة وبمعدلات نمو غير مسبوقة ..
وبمقتضى هذه النجاحات الاستباقية نجحت الدولة في التعامل مع جائحة كورونا التى أحدثت شللاً في الاقتصاديات العالمية وتسببت في غلق مؤسسات الصناعة والأعمال والخدمات وشردت أكثر من 850 مليون عامل على مستوى العالم، وخسر أكثر من 30 مليون مواطن عربي وظائفهم. ووضع أكثر من 150 مليون عامل على مستوى العالم اسمائهم على قوائم البطالة والتعطل عن العمل ..
ورغم هذه التحديات التى أصابت الاقتصاد العالمي فقد واصلت الدولة المصرية نجاحتها فكانت ثاني أكثر دولة بعد الصين تحقيقا للنمو الاقتصادى وحافظت على معدل نمو5,4 % مع توقعات لأن يصل معدل النمو إلى ما بين 5,9% و 6,1% بنهاية 2022 .. وتراجعت معدلات البطالة من 7.9% في 2020 إلى 7.4% في 2012.. مع تبنى سياسات جديدة للحماية الاجتماعية للعمالة المؤقتة والموسمية والفئات المهددة بالفقر من صغار المزارعين والصيادين ..
ومع تصاعد تداعيات الأزمة الأوكرانية الروسية تعددت التساؤلات عن الأوضاع الاجتماعية في مصر. خاصة في ظل أزمات سلاسل إمداد الطاقة والغذاء التى صاحبت الأزمة العالمية الراهنة .. والتي هددت اقتصادات معظم الدولة بالإفلاس، وخاصة دول العالم الثالث والدول الافريقية على وجه الخصوص، مع مخاوف محسوسة من أن تكون مصر واحدة من تلك الدول المهددة ..
مما استجوب علينا درء الشائعات والرد على تلك المخاوف، والتأكيد على أن الأوضاع في مصر مطمئنة للغاية.. نظراً لكون الدولة المصرية قد انتهجت عدة سياسات حِمائية، واتخذت اجراءات وتدابير احترازية جادة لتخفيف حدة التداعيات على معيشة المواطن المصري بوجهٍ عام .. كما وضعت الدولة استراتيجيات جديدة وفعالة لتنويع مصادر توريد القمح.. واعتمدت 14 بلدًا جديداً لاستيراد القمح، بخلاف روسيا وأوكرانيا. وهم الولايات المتحدة، كندا، أستراليا، فرنسا، ألمانيا، بولندا، لاتفيا، الأرجنتين، كازاخستان، باراجواي، المجر، رومانيا، بلغاريا، وصربيا. وحاليا تُجري القاهرة محادثات مع نيودلهي لبدء استيراد القمح من الهند.
ورغم استمرار عجلة الحرب وحدة الصراع، إلا أن واردات القمح من روسيا لم تتوقف؛ وارتفعت كميتها في شهر مارس 2022 بنسبة 24% مقارنة بشهر مارس 2021 لتبلغ 479195 طنا. بالمقابل، انخفضت الواردات من أوكرانيا بنسبة 42% فقط.
ليس ذلك فحسب .. بل عملت الدولة على زيادة الإنتاج المحلي كركيزة أخرى من ركائز الاستراتيجية الوطنية لتقليل الاعتماد على الأسواق العالمية.. حيث ارتفعت المساحة المزروعة بالقمح من 3.1 مليون فدان في عام 2018/ 2019، إلى نحو 3.6 مليون فدان حالياً. ويتم دراسة إضافة مساحات جديدة منه، سواء في الدلتا الجديدة، أو توشكى وغيرها.
هذا إلى جانب استمرار الدولة في تنفيذ برامج الحماية الاجتماعية المختلفة، وسياساتها في دعم السلع الغذائية؛ بما يخفف إلى حدٍ كبيرٍ من تأثير ارتفاع الأسعار العالمية على كاهل المواطنين، حيث بلغ عدد المستفيدين من البطاقات التموينية حوالي 70 مليون مواطن . بينما يستفيد من الخبز البلدي المدعو قرابة 83 مليون شخص.
وفى السياق ذاته أصدر السيد الرئيس قرار بزيادة المعاشات بمعدل 13% .. مع رفع الحد الأدنى للأجور من 2200 جنيه شهريا إلى 2800 جنيه .. بالإضافة إلى زيادة عدد الآسر المستفيدة من برنامج تكافل وكرامة بحوالي450 ألف أسرة بتكلفة مالية قدرها 2,7 مليار جنيه .. ليرتفع عدد الأسرة محدودة الدخل المستفيدة من الدعم النقدي المشروط إلى 4 مليون أسرة أي حوالى 16 مليون مواطن .. وترتفع المخصصات المالية لبرنامج تكافل وكرامة في الموازنة العامة للدولة 2021/2022 من 19,5 مليار جنيه سنويا إلى 22,5 مليار جنيه ..
ولعل هذه السياسات التى اتبعتها الدولة المصرية للتخفيف من حدة تداعيات أزمة الغلاء العالمية؛ هي جعلتها توصف بأنها " دولة رحيمة " تحقق بفعالية التوازن ما بين متطلبات التنمية التى عادة ما تتطلب إجراءات تقشفية، و رضا المواطن الذى هو هدف التنمية الأول وصانُعها في ذات الوقت .. مراهنة على وعي المواطن؛ الذي يحقق الاستقرار، الذى هو الركيزة الأولى للاستثمار والتنمية الشاملة.. وتدفعه دائما إلى الاطمئنان وعدم القلق وأن في ظهره سنداً قوياً اسمه مصر .
أخبار متعلقة :