بداية، تجدر الإشارة إلى أن مصطلح «العقد الاجتماعى» ليس مجرد تركيبة لغوية من كلمتين، بل هو فى حقيقته نظرية ظهرت ضمن المعارف الأكاديمية فى عصر التنوير، وتهتم بمدى شرعية سلطة الدولة المدنية على الأفراد، فهى تسعى لترسيخ خضوع الأفراد لقوانين المجتمع والأنظمة الحاكمة، وتشدد نظرية العقد الاجتماعى على إلزام الأفراد بقبول التنازل عن بعض حرياتهم والخضوع للسلطة الحاكمة أو ما يمثلها أو ما يناظرها كقوة حاكمة مثل قرار الأغلبية أو حتى الأعراف المحلية السائدة، وقد أخذ المصطلح اسمه من كتاب «العقد الاجتماعى» لجان جاك روسو الذى ناقش فيه هذا المفهوم.
إذن يمكن فهم العقد الاجتماعى بأنه صك ملزم للفرد ليتنازل عن جزء من حريته فى المجتمع نظير أن ينعم بالمنافع والمزايا التى يوفرها المجتمع من قوانين وحماية وتحقيق التوازن بين حقوقه وحقوق المجتمع، وهى صفقة لا بأس بها فى إطار تبادل المصالح.
دعونا إذًا ننتقل للحديث حول العقد الاجتماعى، ولكن هذه المرة ضمن الإطار الأصغر وداخل الحجرة المغلقة وهى الأسرة، وتقوم الفرضية الآن على أن الأسرة هى المجتمع، وأن عنصر القوة والحماية التى تحدثنا عنها فى سياق العقد المجتمعى هى ذاتها ضمانات توفير الأمان الأسرى والرعاية وتوفير متطلبات الحياة مقابل الخضوع لقوانين يحددها رب الأسرة أو القائم على الرعاية والامتثال لجميع الأعراف والتقيد بالمحددات المجتمعية والعقائدية كما تعتنقها الأسرة.
إذن يتبادر سؤال فى غاية الأهمية وهو كيفية تصنيف هذه التبعية وكيفية توصيف هذا العقد الذى يقايض بحرية الفرد أو بجزء منها مقابل التمتع بالكفالة والحماية الأسرية وإلى أى مدى تستحق هذه المزايا التنازل عن جزء من الحرية؟
وفق حسابات الحياة المدنية والمعاصرة، يجب الإقرار بأنه لا يمكن للفرد مواجهة جميع تعقيدات الحياة المدنية والتعامل معها إلا بتلقى عائد المشاركات أو على الأقل مكسب عائل الأسرة الإسهامات من بقية أفراد الأسرة، إلا أن بعض الأجيال من الشباب- خاصة فى المعاصرة- بدأ فى التذمر من هذه الوصاية الأبوية وظهرت أفكار تحررية تدعو للانسلاخ من هذه القيود، وبات الأمر جليًا عند اقتناص الشاب فى مراحل التعليم الجامعى حريته فى اختيار النمط التعليمى الذى يتفق مع ميوله غير مبالٍ برغبة الأبوين، بل وتقرير المصير الاجتماعى فى اختيار شريك العمر بعيدًا عن ترشيح الفتيات فى صالونات الزواج الأهلية وبعضهم تجرأ وحطم «التابوهات» المجتمعية التى ظلت لصيقة بطقوس الأعراس، وغيرها من أوجه الانسلاخ من القيد الأسرى الذى حدده العقد الاجتماعى «المصغر».
والسؤال الذى يطرح نفسه فى ظل هذه الحريات: هل هذه الظاهرة صحية، وهل يمكن الرهان على الشباب فى تحمله المسئولية ومنحه رخصة إدارة حياته؟ فى الحقيقة لم تأتِ الإجابة مطمئنة بعد رصد الكثير من ظواهر وعلامات الفشل فى النتائج التى أفرزتها حرية الاختيار والتقرير ومنها بالطبع ظاهرة ارتفاع نسب الطلاق ضمن الزيجات التى تأسست خلال العقدين أو الثلاثة مؤخرًا.
لعل تفاقم ظاهرة الطلاق بين زيجات المسلمين والانفصال بين المسيحيين تنذر بفشل الشباب فى التحرر من قيود وسطوة العقد الاجتماعى الذى سقطت معه حسابات العرف المجتمعى، وللأسف لم تخرج علينا دراسات الأساتذة المتخصصين فى المعاهد البحثية ذات الصلة بالدراسات الاجتماعية بأية أطروحات أو أوراق بحثية تشخص أو تحلل الظاهرة حتى يمكن الخروج بنتائج ونصائح علاجية لظاهرة الطلاق الأسرع من الزواج، وبالتالى ترك ملف الأزمة متداولًا بين ساحات التخمين ومقالات غير مدروسة تخرج علينا من حين لآخر من مواقع التواصل الاجتماعى والمدونات غير المتخصصة وبرامج الفضائيات المتفرغة تارة للحظ وحديث الأبراج وبرامج الطهى تارة أخرى.
فى دول العالم الأول أفلحت أساليب التربية فى تخريج جيل يتمتع بالخبرة والوعى يكفى لإدارة حياته بمنهجية عملية بدءًا من التربية الجنسية التى تمنح الشاب فهمًا راقيًا لكينونة الأنثى ووضع العلاقة الأسرية فى خانة المسئولية، ومن ثم انتفى عن الأنثى وصف «الوعاء الجنسى» الذى مُنيت به الثقافة العربية أو المحلية.
لم تقف مناهج الغرب العلمية عند هذا الحد، بل تمكن الشباب عبر الدراسات الاجتماعية والنفسية والسلوكية من دراسة مناهج حل المشكلات بالأسلوب العلمى، ومنهج علاج الأزمات، ناهيكم عن بقية البرامج التنموية مثل برامج تطوير الذات والتواصل السوى مع الآخرين ومهارات التفاوض وكيفية التخطيط الجيد لأى مشروع إنسانى أو جهد بشرى.
فى مناهجنا الدراسية بالجامعات، لم تغذَ هذه المناهج بالدراسات الاجتماعية والنفسية التى تمنح خبرات الحياة للدارسين إلا فى أضيق الحقول، وربما كانت حكرًا على الدارس المتخصص فى الشأن التربوى، بينما تستند الفرضية الصحيحة إلى أن هذه الدراسات هى من حق الدارس فى أى من مجالات الحياة، فيجب أن يدرسها طالب الطب والهندسة والمحاسبة وجميع علوم الحياة، لأنها القاسم المشترك فى التعايش بين أفراد المجتمع.
فى النهاية، يمكن إيجاز القول فى أن ملحمة «العقد الاجتماعى» التى أسسها «جان جاك روسو» لم تكن نظرية فلسفية تُخبأ فى صفحات الكتب وتُزين بها المقالات الثقافية، وإنما أفلحت هذه النظرية فى طرح النموذج الأصغر وهو مجتمع الأسرة الذى يجب أن يخضع أطرافه لحكمة الراشدين وتأجيل بعض فرص الشباب فى التدخل لحين اكتمال النمو العاطفى وامتلاء العقول بحصة وافية من الخبرات.
أخبار متعلقة :