انتشر في مصر في الثلث الثاني من شهر يونيه حدث وُصِف بأنه قصة غريبة، وكان ذلك في أرجاء مدينة ادكو بمحافظة البحيرة، ومضمون هذا الحدث يتخلص في إقدام بعض المواطنين على الاستحمام بـ "مياه الصرف الصحي" بزعم أنها تشفى من الأمراض الجلدية، اعتقادا منهم أنها مياه مبروكة تشفيهم من أمراضهم. وهذه البركة في تصورهم تأتي من كون هذه المجاري مجاورة للمساجد، فهي - إذاً بركة - هذه البركة تذكرني ببركة إمام المسجد بالعزبة النائية التي ولدت فيها، وكان الناس يأتون إليه بمرضاهم لكي يشفيهم من أمراضهم ببركته هذه، وما كان من الرجل إلا أن يتفل على موضع الألم أو الداء فإذا بالمريض أو أهله يتصورون شفاء قد يحدث من تفلة ذلك الشيخ.
إنها العقلية الأسطورية الخرافية التي لا تحترم العقل ولا تسعى للعلم، ولكنها تتكل على ما ورائيات قادرة على الإتيان بالمستحيل والقادرة على صنع المعجزات، ولا شك أن هناك امتداد لهذا الاعتقاد الخرافي الذي دفع هؤلاء الناس للتبرك بمياه المجاري، وهل يمكننا أن نربط ذلك بما تم الزعم به في سنوات خلت من أن ماء زمزم يشفي من جميع الأمراض حتى السرطان، ولعل القارئ الكريم لم ينس بعد هذه الخرافات التي كان ينشرها رجال دين وغيرهم من أن هناك معجزات قد تحققت بفضل مياه زمزم، ولم نقتنع يوما بمثل هذه الادعاءات، بل سطرنا مقالا أثناء أزمة كورونا تساءلنا فيه: هل شفت مياه زمزم المصابين بفيروس كورونا؟! وطرحنا تحديا أن يقوم من يزعم ذلك بالاعتماد على مياه زمزم للشفاء من الإصابة بهذا الفيروس.
لم أندهش من انتشار قصة هذا التبرك بمياه مجاري المساجد، لأنني أومن أن التربة في مجتمعنا خصبة أشد الخصوبة لانتشار مثل تلك الخرافات، وتعزيز العقائد الخرافية.
إن عقائد وتصورات الناس لا تتغير هكذا بسهولة ويسر، ولكنها تحتاج جهداً جهيدا ووقتا طويلا، تظل تعامل فيه الأفكار وتتصارع، وتظل الفكرة الجديدة تزيح شيئا فشيئا تلك القديمة المتغلغلة في النفوس، وتظل تقاوم العقيدة القديمة تلك الجديدة، خاصة على المستوى الجمعي، الذي لا يمكننا أن نلحظ فيه التغيير إلا من خلال ميكروسكوب دقيق، هو التأمل العميق، في المجتمع: أفراده ومجموعاته وطوائفه، هذا الذي يعكس عظمة الأنبياء الذين تظهر بجلاء في تغييرهم السريع "نسبيا" للمجتمعات التي أُرْسِلوا فيها.
تأخذني الذاكرة لأكثر من ربع قرن حينما حزمت حقائبي متجها إلى النمسا، التي اتخذتها وجهة لسفر طويل، بمساعدة صديق الطفولة، النبيل نبيل موسى، الذي كان قد سبقني إليها، مفضلا إياها كدولة متحضرة راقية، عن فرص كانت تلوح في الأفق في دول عربية؛ حيث هناك مجالات عمل متوفرة لتخصصات متعددة، أفضل من يملؤها مصريون، كان كثير من الزملاء قد نزح إليها، واستقر به المقام، وحجز واحدة في هذه المجالات.
لا أنكر صدمة ملأت نفسي، حينما اصطحب صديق الطفولة صديقا له لاستقبالي بمطار العاصمة النمساوية فيينا، فبينما انطلقت السيارة مخترقة الشوارع المؤدية للطريق السريع الذي يشق سلسلة جبال الألب متجهة إلى المدينة التي كانت هدفا لإقامتي، أقمت فيها لهذه اللحظة التي أسطر فيها هذه المقالة، فبعد حرارة استقبال صديقي، ترك المجال ليلتقط صاحبه طرف الحديث، ليتكلم دونما توقف لمدة ساعتين هما زمن استغراق المسافة ما بين فيينا ومدينة ليوبن التي سأقيم بها، هذه الثرثرة التي صدمتني ، حيث أبدى سائق السيارة رأيا في كافة مجالات الحياة، بدءاً من القضايا الكونية الكبرى، مرورا بالسياسة: الدولية والمحلية، وصولا للرياضة ومكانة نادي الزمالك، الذي ينتمي إليه، في تاريخ كرة القدم المصرية والعربية والأفريقية بل والعالمية!، عكوفا على الفن وتحريمه الذي لا ينكره، في رأي المتحدث، إلا هؤلاء الفاسقون، إضافة لحديث مستفيض عن الجن والعفاريت!.
حاولت في بداية الأمر، مستعينا بلغة دبلوماسية، أن أصحح بعضا مما يرغي فيه ويزيد، ولكني وجدت المسافة شاسعة، وأنها محاولة كتلك التي يحاولها من قُذِفَ به من الطابق المائة راجيا النجاة، فشغلت نفسي بمنظر الثلوج، حيث كان فصل الشتاء، التي تكسي الجبال ملبسة إياها فستانا زفاف أبيض لتظهرَ للأعين كعروس غاية في الجمال، ولفت انتباهي أنني لم أستمع طوال سفري لصوت آلة تنبيه واحدة.
لم تنجح الأيام التالية ولا الشهور التي تنقضي من تخفيف هول تلك الصدمة من أول حديث لأول مصري قابلني في النمسا، ولعل، بل اليقين، أن صدمتي كانت نتيجة طبيعية للخيال الذي سيطر عليّ، وجعل أوروبا هي وجهتي، حيث كانت تجربة عميد الأدب العربي طه حسين، وكتبه التي قرأت منها الكثير، ومنهجه الذي أثر في عقولنا، وأسلوبه الذي ترك اثرا كبيرا فيما نسعى من محاولات في الكتابة، وكذلك تلك التجربة التي خاضها توفيق الحكيم في فرنسا، وتلك الصورة التي نقشها في نفوس قرائه، متوجة بتلك التجربة المشتركة بين عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين وعميد المسرح العربي توفيق الحكيم في القصر المسحور التي جمعت العملاقين مع شهرزاد، قد تركت علامات في مخيلتي التي نسجت مثل هكذا صورة، ونشدت مثل هاتيك حياة، فإذا بي في حديث عن جن! وعفاريت! وفن محرم! ونادي الزمالك!.
لم يقتصر الأمر على ذلك، بل، بعد أن اتسعت تلك الدائرة التي أتحرك فيها، وازدادت، مع الوقت، النشاطات التي أسهم فيها، وبالتالي عدد الذين أتعامل معهم من المصريين، أدركت أن الأزمة عميقة الهوة، سحيقة، تلك التي تاه فيها العقل المصري، ذلك الذي كانت ارهاصاته قد تكشّفت في مصر قبل هجرتي، فأذكر ذلك النقاش الحاد الذي كان يجمعني ويُعْيِيني بزملاء في الجامعة، لانتشار العلاج الروحي في المساجد من خلال مشايخ!! قادرة على إخراج "الجن والعفاريت" الذين يتلبّسون البسطاء فقط!، وكانت، آنذاك، قد انتشرت شرائط كاسيت إخراج " العفريت كانجور!" في مسجد العباسي بالمنصورة، من جسد أحد هؤلاء الذين تلبَّسَه ذلك " العفريت" في مسرحية هزلية!، لم يقبلها العقل السوي، الذي كان عليه أن يجيب عن تلك الأسئلة التي تطرحها عملية النصب المركبة والمعقدة والمحبوكة بدقة.
انتشر ما هو أخطر من ذلك، وهو التدين الشكلي، الذي يهتم اهتماما هائلا بالإتيان بالعبادات من صلاة، تؤدى في هيئتها المثلى، وصوم، ليس لرمضان فحسب، بل للعديد من الأيام التي صامها الرسول الكريم نافلةً، فإذا بكثير من المسلمين في مصر يحرصون عليها حرصهم على صيام رمضان، وحج للبيت، من يستطيع ومن يتوهم الاستطاعة، وأصبح أداء العمرة يقترب من كونه فرضا، يقدم عليها غالبية كبيرة، حريصين على أدائها في شهر رمضان لتعدل حجة!!
وفي المقابل لم يمنع هذا الأداء لتلك العبادات من الكسب بطرق غير مشروعة، ولم تحث على العمل في صورته التي طلبها الإسلام من الإتقان، ولم يَحُلْ هذا الأداء من التهرب من الضرائب، ولم ينه عن فحشاء ولا منكر، ولم يدفع إلى الاجتهاد في البحث العلمي، ولم ينجح من يأتون بهذا المظهر الديني "شبه الكامل" في وضع أنفسهم ولا بلدهم في مصاف هؤلاء المتقدمين من جماعات ودول، التي يمثل أهل النمسا كجماعة والنمسا كدولة إحداها، لنجد أن التصحر في الفكر ليس مرتبطا ببيئة، بقدر ما هو مرتبط بفهم يملأ العقول، وتصورات خاطئة تغرق الخيال، ومفاهيم بالية تسيطر على الأدمغة، وعقائد شائهة تغلق القلوب، فلم تستطع الإقامة في بيئة تجعل من العقل نبراسا، ومن المنطق أداة، ومن الوسائل العلمية أسلوب حياة أن تغير من ثقافة من عاش فيها بجسده فقط، ليظل مؤمنا بالجن والعفاريت والسحر وعاشقا، دون رفض منا، لنادي الزمالك الذي يضرب هو الآخر في سنواته الأخيرة بالسحر والأعمال السفلية!، تلك التي يخصص لها في البرامج التليفزيونية مساحات، ويتم تكريسها من خلال بعض مقدمي البرامج، الذي أكد أحدهم أنه يؤمن بها، كما يؤمن بها رئيس الزمالك، الذي أكد، مؤخرا، أن أهداف الأسطورة محمود الخطيب وبطولات المعلم حسن شحاتة لم تكن لتسجل أو تتحقق إلا بالسحر، ليستمر في المساهمة استلاب العقل الجمعي المصري والعربي، لتستمر عقيدة الخرافة هي المتأصلة في العقلية المصرية والعربية، والتي تحتاج إلى العشرات، إن لم يكن المئات من السنوات، لتغيير تلك العقائد التي، كما قلنا في بداية هذا المقال أنها تحتاج جهداً جهيدا ووقتا طويلا، حيث أن العقل قد تم تغييبه والوعي قد تم استلابه وعشنا في التصحر الفكري.
أخبار متعلقة :