لم يجد طالب كلية الاقتصاد والعلوم السياسية أمامه إلا المغامرة بمحاولة الاتصال بجمال عبدالناصر، كان «كمال المنوفى» الطالب المتفوق والأول على الجمهورية قد انقطع مصدر دخله الوحيد عندما لم يحقق الدرجات المطلوبة فى الامتحان، وبالتالى أوقفت الجامعة مكافأة التفوق التى يحصل عليها، فكر المنوفى، أن الفرصة المتاحة هى وجود ابنة «الزعيم» بين طلبة كليته، لكنه لم يتجه إلى هدى عبدالناصر، وإنما كتب خطابا مطولا يشرح فيه الظروف للرئيس وغامر بتسليم هذا الخطاب إلى الحرس المرافق لابنة ناصر. وجاء الخطاب كالتالى:
«من جاء بالحسنة فله عشرة أمثالها».
سيدى الرئيس جمال عبدالناصر، سلام الله عليك فى كل وقت وحين، ورحمته وبركاته على شخصك الكريم، أسأل الله أن يجعلك لنا ذخرا ونبراسا نهتدى به فى دجى الليل إذا عن لنا ظلام.
مقدمه لسيادتكم الطالب كمال محمود عبدالله المنوفى، بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية (السنة الثانية- شعبة علوم سياسية) والذى تشرف بلقاء سيادتكم فى عيد العلم الماضى، حيث تسلمت من فخامتكم جائزة تفوقى فى الثانوية العامة، ها أنا ذا أشرح لسيادتكم ما ألم بى من ظروف:
حالتى التعليمية: كنت الأول طوال حياتى التعليمية، فكنت الأول فى القبول الإعدادى، الأول فى النقل من السنة الأولى الإعدادية إلى السنة الثانية الإعدادية، والأول من السنة الثانية إلى السنة الثالثة، وفى الشهادة الإعدادية العامة كان ترتيبى الثانى على محافظة المنوفية بمجموع 94.5% ونتيجة لتفوقى هذا كانت وزارة التربية والتعليم تصرف لى مبلغا قدره 3 جنيهات شهريا، كنت أعتمد عليه اعتمادا كليا وجزئيا طوال التعليم الثانوى، فكنت أصرف جنيها ونصف الجنيه وأرسل الباقى إلى أسرتى فى الريف كى تعيش عليه لأنها لا تملك من حطام الدنيا أى شىء على الإطلاق، وطوال المرحلة الثانوية كنت الأول من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية، وكنت الأول من السنة الثانية إلى السنة الثالثة، وفى الشهادة الثانوية كنت الأول على الجمهورية (قسم أدبى) بمجموع قدره 92.5%، والتحقت بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وكنت أتقاضى فى العام الماضى 1965-1966 مبلغ 13 جنيها شهريا نظير هذا التفوق فى الثانوية العامة، كنت أصرف من هذا المبلغ حوالى سبعة جنيهات شهريا (كنت أدفع 5 جنيهات للمدينة الجامعية وأصرف الباقى فى الكتب والمصاريف الجامعية)، وأرسل حوالى 6 جنيهات إلى أسرتى فى الريف كى تعيش عليه، ولأننى علمت أن الطالب الذى يحصل على هذه المكافأة لابد أن ينجح بتقدير جيد جدا، فكنت أذاكر باهتمام بالغ وأسهر الليالى الطوال حتى أحصل على هذا التقدير لأستمر فى الحصول على المنحة لأنها هى معوانى الوحيد.
وخرجت من الامتحان العام الماضى وأنا على ثقة أننى سأكون الأول كعادتى، وسأحصل على تقدير «جيد جدا» إن لم يكن «امتياز»، وعندما ظهرت النتيجة فوجئت بأننى قد نجحت بتقدير «جيد» فقط، (مادتين امتياز- مادتين جيد جدا- أربع مواد جيد)، ولهذا فقد ألغيت المكافأة كلية، وتعقدت أمامى الحياة، لأن التعليم الجامعى يحتاج إلى مصاريف على الأقل ستة جنيهات شهريا، بالإضافة إلى المصروفات والكتب الجامعية، ومن أين لى هذا المبلغ وقد ألغيت المكافأة؟.
سيدى الرئيس: هكذا كانت حالتى التعليمية إلى هذه اللحظة.
حالتى المادية: أسرتى تعيش فى الريف وتتكون من ثمانية أفراد، أما والدى فهو رجل مسن مريض، لا يقدر على مزاولة أى عمل، ووالدتى مسنة أيضا، ولى أخ فى التعليم الثانوى، وأخت فى التعليم الإعدادى، وأخان فى التعليم الابتدائى، وكان إخوتى هؤلاء يعتمدون على المنحة التى كنت أتقاضاها.
وقد تمكنت من دفع مصاريف الكلية ومصاريف المدينة الجامعية بواسطة مبلغ أعطاه لى أحد الأفراد فى قريتى إلى أن يرزقنى الله فأقوم بتسديده.
سيدى الرئيس: هذه هى ظروفى ومشكلتى، فأرجو من فخامتكم أن تنظروا بعين العطف والحنان إلى من قست عليهم الأيام حتى لا يكون الفقر سببا فى حرمانى من مواصلة الدراسة الجامعية، خاصة أننى أرغب فى المزيد من الدراسة والحصول على درجة الدكتوراة بإذن الله، حتى أستطيع أن أخدم وطنى بكل جهودى، ونحن جميعا فى خدمة الوطن الحبيب، جعلكم الله ذخرا لنا على مدى الأيام، ومعوانا للفقراء والمساكين، ومصباحا يضىء لنا طريق الحياة.
ووقع المنوفى الخطاب بتاريخ 13/11/1966.
الخطاب الذى كتبه الطالب اليائس، وأوصله لحرس جمال عبدالناصر، وصل بالفعل ليد الزعيم، وقرأه عبدالناصر بنفسه، ووقع تأشيرة أولى بخطه موجهة إلى «محمود فهيم» سكرتيره الشخصى جاء فيها: «محمود فهيم.. يصرف له إعانة شهرية خمسة عشر جنيها حتى يتخرج» ومذيلة بتوقيعه الشهير، ويبدو أن عبدالناصر تذكر شيئا آخر فى الرسالة التى قرأها، حيث كتب تأشيرة أخرى على جانب الخطاب جاء فيها: «يصرف المبلغ ابتداء من أول ديسمبر، ويصرف له مبلغ 15 جنيها لتسديد ديونه».
ويبدو من تلك التأشيرات أن الخطاب وصل عبدالناصر بسرعة، وأنه تمكن من قراءته بنفسه رغم كل المشاغل التى يعيشها فى هذا الوقت، وأنه أصدر أوامر بالتنفيذ الفورى لإنقاذ الشاب الذى استغاث به، وأنه تذكر بعد ذلك الديون التى اقترضها الشاب ليستمر فى الدراسة فعاد وأضافها فى تأشيرة ثانية حتى يتفرغ كمال المنوفى لدراسته فقط. ويأتى الفصل الأخير فى تلك القصة الإنسانية بتأشيرة إتمام أمر الرئيس عبدالناصر، التى كان يجب على السكرتارية أن تخطره بتمام التنفيذ، حيث يحمل الخطاب تأشيرة أخرى بخط اليد تقول: «حضر وقابل السيد محمود فهيم بمكتبه فى الساعة 19:30 يوم 19/12/1966، وتم صرف مبلغ 15 جنيها له لتسديد ديونه، وكذلك 15 جنيها أخرى عن شهر ديسمبر 1966».
ولم تعلم زميلته فى الكلية هدى عبدالناصر بهذه القصة، إلى أن وجدت الخطاب بين أوراق والدها بعد رحيله.
لم يخلف المنوفى وعده للرئيس، فأكمل تفوقه فى باقى سنوات الدراسة، وحصل على الدكتوراة، وكان الموضوع الذى اختاره للدراسة هو «الثقافة السياسية للفلاحين المصريين» والذى قام فيه بدراسة ميدانية على عينة من الفلاحين، لتكون إحدى الدراسات النادرة، التى تناولت هذا الموضوع، وتدرج «المنوفى» فى المناصب حتى تولى منصب عميد كلية الاقتصاد
هذه قصة استاذ عظيم خرج من رحم المعاناة كما نقلها أحد المقربين اليه وإلى أن توفي دكتور كمال المنوفي في عام 2014 كان استاذا متميزا للعلوم السياسية مشغولا بهموم أهله من الفقراء والفلاحين حتى أطلق عليه البعض لقب أستاذ مدرسة الصبر وهو الذي تنبأ بأن هناك ثورة قادمة على نظام مبارك في ميدان التحرير منذ عام 2009. اتمنى ان يتخذه الجيل الجديد قدوة في زمن اصبح فيه العلماء الحقيقيون نادرين كندرة الماء في الصحراء
أخبار متعلقة :