بوابة صوت بلادى بأمريكا

أ.د/صبري فوزي أبوحسين يكتب: ثنائية الشعر والسلطة في تجربة (أُحَاولُ ألاَّ أسقُطَ) للشاعر محمد الشحات الراجحي

ولادة هي مصر، منجبة أرضُها، أرض الإبداع، أرض الفن، أرض الجاذبية، أرض التأثير، أهلها عشاق كل بيان وكل أدب وكل شعر، حملت لواء الشعر العربي في العصر الحديث نهضة كلاسيكية، وثورة رومانسية، وصدقًا واقعيًّا، ثم هيامًا رمزيًّا، ثم حداثة موغلة، وما تزال إلى الآن مع كل صيحة وكل نزعة وكل مدهش في عالم الشعر والشعراء الساحر الآسر المعالج كل متألم ومنكسر ومأزوم! فكل يوم نطلع على نتاج كبير منوع لأبنائها وبناتها، بكل أطيافهم وأيدلوجياتهم، يقرؤه القارئون وينقده الناقدون، وها أنا أعيش الآن مع صديق "واتس آبِّيٍّ" يكاد يعرض عليَّ كل يوم –عبر هذا الواتس آب-جديد شعره المنشور في الجرائد المجلات، وجديد دواوينه (المُبَدَّفة)، بكل أصالة ونبل ولباقة، وكنت أَعِده كل مرة أطالع فيها قصيدة له أن أدبِّجَ في شعره مقالة أو دارسة فكان يهش ويبش، ولكن ظروفي الحياتية والعملية تمنعني من الإيفاء بوعدي، وتحول دون إنجاز ولو مقالة، فكنت أعتذر ثم أعتذر ثم أعتذر ...إلى كانت هذه الأيام الطيبة أيام العشر والخير والبر، فكانت جلستي هذه مع سيرته الحياتية، ومجمل شعره!

إنه شاعر من جيل السبعينيات، انطلق، وكان جيل الستينيات والخمسينيات يملأون الدنيا، شعراء كبار قيمة وقامة، سواء شعراء القصيدة البيتية، أو شعراء قصيدة التفعيلة، حيث عبدالمعطي حجازى وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل ونجيب سرور ومهران السيد وكمال عمار وبدر توفيق!.. وغيرهم من القامات الشعرية، إضافة للأصوات الشعرية في البلاد العربية خاصة العراق وسوريا. نتفق مع بعضهم، ونختلف مع بعضهم الآخر، لكننا لا ننكر قيمتهم وأثرهم وتأثيرهم! في هذا المناخ الصحي تفتحت شاعرية شاعرنا وتفتقت موهبته!

 إنه محمد محمد الشحات الراجحي، المولود عام 1954م، بقرية الضهرية، بمركز شربين، بمحافظة الدقهلية، الذي تعلم التعلم المصري المدني زمن الأصالة في الستينات وما بعدها إلى أن تخرج في كلية الآداب، من قسم اللغة العربية، بجامعه القاهرة.

ثنائية الشعر والسلطة:

الشاعر الحق العالي هو الثائر الحر، الذي يقول المتخطي والمتجاوز، والذي يخرج من مبدع يشعر بما لا يشعر به غيره، مبدع حر في فكره وتعبيره وتصويره وإيقاعه. مبدع يتخذ من الحرية عمادًا؛ ليمتلك القدرة على التأثير والتغيير، ويرفض كل المعوقات والموانع التي من شأنها قمعه وتذليله وتعبيده، إن غايته كلمة نور في وجه سلطة جائرٍ جاثمة غاشمة، في صور خيالية حالمة، عبر نقلات نوعية بين مشكلات عامة وأخرى شخصية، في مدارات متنوعة مجتمعيًّا، ودينيًّا، وسياسيًّا، حيث الإحباطاتٌ والانكسارات والانتكاسات الخاصة والعامة التي يعاني منها الشاعر كل وقت وحين فيخرج انفعاله في صراخ علَّ صوته يصل إلى أحدهم، ويظل يعدو ويصرخ مُجابهًا أوهامه، ومن ثم فإن العلاقة بين الشعر والحرية علاقة وثيقة، فلا شعر بلا حرية، وكل حرية تحتاج إلى الشعر، وما أصدق قول الشاعر العباسي الشريف المرتضي:

                     كلُّ الرجالِ إذا لم يخشعوا طمعًا        ولم تكدرْهمُ الآمالُ أحرارُ

فالشاعر الرجل الحر هو من لم يخشع طمعًا في سلطة، أو رغبة من سلطة!

وها هو ذا أمير الشعراء شوقي، وشاعر السلطة، يصور هذه الثنائية (الحرية والسلطة)، بقوله:

وإذا سبى الفردُ المُسلَّطُ مجلسًا     ألفيتَ أحرارَ الرجالِ عبيدا

ورأيتَ في صدرِ النَّدِيِّ مُنوَّمًا       في عصبةٍ يتحركون رُقودا

ليعلن عن أن حرية الشاعر في العالم  العربي منقوصة، في ظل أنظمة فردية متسلطة، تسكن المتحركين، وتسكت الناطقين، وتقهر الثائرين، وتقمع المتمردين، وتفرض الصوت الواحد، والرأي الواحد! 

وإن سياحة أولى في تجارب من هذا النتاج الشعري الضخم لشاعرنا محمد الشحات الراجحي  لتعطينا دليلاً نصيًّا على حالة الشاعر في عالمنا العربي. ولنعش مع تجربته (أُحَاولُ ألاَّ أسقُطَ) تلك التجربة الحية الدالة المعلنة عن مأساة الشاعر وكل مبدع في عالمنا العربي، التجربة الحرة في قالبها حيث القالب التفعيلي السطري، البالغ (33سطرًا) على نسق تفعيلة البحر الخببي حيث صورها (فاعلن/فَعِلن/فعْلن/فاعلُ)، والذي تنسقه قواف متراسلة شبه متناسقة، خاصة بالصوت والحرف، وضمير التكلم.

وإن تفكيك العنوان الرئيس (أُحَاولُ ألاَّ أسقُطَ) المكون من جملة فعلية مضارعية، مبنية على ضمير التكلم، فعلان: مثبت وهو (أحاول)، ومنفي(أسقط)ـ ونلحظ حضور هذه الثنائية عبر هذا العنوان؛ حيث نجد أنفسنا أمام إرادة ذاتية في الفعل (أحاول)، وفعل قد يكون ذاتيًّا وقد يكون مدبرًا، وهو (أسقط)، إنه عنوان يدل على سردية ذاتية خاصة، تعبر عن تلك المعاناة بين المبدع الثائر والخارج المتسلط!   كأني بشاعرنا يصرخ قائلاً:

أرى الحر يجري شعره ويصول           وذو اللؤم يُردي نفثه ويَخُورُ

   وإن البناء الفني للتجربة يعطينا هذه الثنائية ويعلن عنها بتدرج، إذ يبدأ بالفعل الماضي المهيمن في مطلع النص حيث الأفعال: (كان/كنت/ظل/ أنهكني/حاصرني/احتبس/انهارت/ذهب/زهقت/تعرت/ارتجفت)، الدالة على دلالة السلطة الفاعلة للسقوط والقهر والكبت، ثم تختم بالمضارع الحي الحيوي، المهيمن على ختام النص، حيث الأفعال:(تنهضَ/تُرفِرفُ/أنفضُ/تنهضَ/يساومني/تماطل/تهرُبَ/تهب/أرفض/يغازلُ/يُدغدِغُهَا/أشد /تنفض/تخرج/ تملكني /أعاود /أستسلم)، حيث الخروج من هذه السلطة، والرافضة للاستسلام.

وفي المطلع ذي الأسطر الستة، ترى ذلك الكائن المُدَجَّن المسيطر عليه، حيث:

 "كانَ ينامُ،

 علىَ أحبالِ الصوتِ

ولا يتركُهَا

 كيمَا يُطلقُ

مَا كانَ احتبسَ بأروقةِ الصَّدرِ

 ولاَ يَعبَأُ"

تخيل نوم المثقف على أحبال صوته، يكتمها، ويحجمها، ويكبتها، خوفًا من البوح الثائر الناقد الجالد، كان كذلك مدة عمر غير محدد، لكنه ما تحمل هذا القهر وهذا الكبت، فلم يستمر على هذه الحال، يقول في الأسطر الستة التالية:

" كمْ أنْهَكنِي الخَوفُ

وحَاصَرنِي

وانْهَارتْ أوردةُ حروفِي

فلمْ تقدرْ أنْ تصْمُدَ

أوْ أنْ تنهَضَ

كنتُ أحاولُ ألاَّ أسْقُطَ"

فمهما حدث للمبدع من إغراء ودغدغة ببريق الذهب، ومن حضور جينات الخوف، فإنه يشد مئزره مجاهدًا مقاومًا، ويعاود هز الصوت مناضلاً؛ لينتقل من أن (ينام علىَ أحبالِ الصوتِ)  إلى أن يعاودُ هزّ حبالَ الصوتِ، فتنتفضَ وتخرجُ مثلَ الطلقاتِ، ومن ثم (فينهارُ بريقُ الذهبِ ويسقطُ حولِي) وتكون النتيجة أن (تنهضُ كلُّ حروفِ) الشاعر الذي مل من السلطة، مل من الخوف، مل من القهر، مل من الكبت، مل من المساومة، مل من المغازلة، ورجع إلى أصله حيث النهضة، وتحول الكلمات إلى طلقات! وما أصدق قول أبي تمام:

رأيت الحر يجتنب المخازي        ويحميه عن الغدر الوفاء

إن شاعرنا (محمد الشحات الراجحي) بهذه التجربة ليعلن عن شاعر مثقف، وصحفي مفكر، يصور نسقًا ثقافيًّا مضمرًا، في شكل شعر رومانسي، تتخلله نفحة واقعية، فيه جينات إيليا وأبي شادي والشابي والرصافي وعبدالصبور، وغيرهم من الشعراء الذين عُنوا بهذه الثنائية: ثنائية المثقف والسلطة: جذبًا وثورة، حبًّا وتمردًا، اتصالاً ونفورًا، حرية وتحررًا، التزامًا وإلزامًا، احتشامًا وانحرافًا، سقوطا ونهوضًا ... 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أخبار متعلقة :