هذا يومي الأول في المدرسةِ ، تراءى أمامي للوهلةِ الأولى ، داخلتني منه رهبة وإكبار وشكوك لا حدّ لها، صوته الجهوري المُزعج ، لا يملّ من اعطاءِ التعليمات بصرامةٍ وغطرسةٍ : قف في الصّفِ .. من يُشاكس اطرده فورا ولا كتب له.
تُقرّر هيئته في نفسي المخاوفَ بل وتنميها طوال الوقت ، حتى ابتسامته التي يرسمها خِلسةً على فمهِ الواسع ، تنبعث كئيبة من خَلفِ شعرات شاربه الكستنائي، عيناه تنفثان حِمما ملتهبة ، تجعله يمسح المكان من حولهِ كالصقر ،عندها تخمد في نفسك مكامن الثورة والتمرّد.
أنفه المدبب يؤرقني ، وحركته السريعة بلاجدوى ترهق بصري ، نبرات صوته المرتفع يُزمجر ، يسب ويلعن ، يعد ويتوعد فعلت فيّ ما فعلت .
جاء الدّور عليّ ، ألقى إليّ الكتب بلا اكتراثٍ وهو يزمجر كالقطِ الغاضب ، مرّت لحظات صمت كصمتِ البائسِ، لا املك إلا أن انظر إليهِ في جزعٍ ، وعشرات الأسئلة تعتصر لساني المقيّد ، تنحيّتُ جانبا اطالع كتبي في نشوةٍ ، لكنّه لم يمهلني ، آثرت الابتعاد تحت وطأة صراخه المتواصل ، حدجتهُ بعيني دون كلامٍ وانصرفت ، وفي أعماقي يغلي قلق عميق .
لم تنقطع مشاكسة الصبية له في الخارجِ، وصياحه الهستيري لجرأتهم موصول ، لكنّه يقف في النهايةِ مسلوب الإرادة ، طالعته وهو يختلس النظرات من تحتِ أهدابهِ لطويلة ، بوجهٍ تائهٍ مشحون ، ادركت حينها ضعفه.
مرّت الأيام سريعة بين الصّفِ ، لتذوب معها مخاوفي شيئا فشيئا، فما وجدته مع صوتهِ الحاني ، وهو يرتل علينا داخل الفصلِ، أصناف بضائعه من الكاكاو والملبن ، والأقلام والمحايات والمساطر، وتودده المًبالغ مع أولياءِ الأمور ، عرّته أمامي تماما ، ضحكت منتشيا وأنا ألحظ جبروته ينصهر مع نداءاتهِ المُلحة وكلامه المعسول ، ويتبخر كما تتبخر قطرات الندى مع شمسِ الضحى .
أخبار متعلقة :