هناك خلط شديد ناتج عن استخدام أبناء العالم الثالث لمنجزات العلم الحديثة، فهذا الاستخدام لما توصلت إليه العقول الحديثة من تكنولوجيا يضع هؤلاء المستخدمين في تيه عظيم يظنون فيه أنهم بهذا الاستخدام قد أصبحوا جزءا من عالم اليوم، ومشاركين فيه، هذا العالم الذي أخص ما يميزه هو العقل الحديث، وهو نفس الخلط الذي يربك إنسان العالم الثالث في وهمه بأن الديمقراطية هي في عبارة واحدة "ساذجة": الاحتكام لصندوق الاقتراع، وهو لا يعلم أن الالتجاء لهذه الصناديق ما هو إلى وسيلة ليس إلا، ولا يمكن بحال اختزال الديمقراطية كنظام لكافة مناحي الحياة في تلك الوسيلة.
نعم هناك وجه شبه كبير في الفهم العقيم لكل من استخدام منجزات العصر الحديث العلمية والتكنولوجية، واختزال الديمقراطية في ما تفرزه الصناديق، فكلا الأمرين هو الخطوة الأخيرة، أو بالأصح هو النتيجة النهائية لمشوار طويل، سنخصص مقالا لاحقا عن الأخير، أما اليوم فإننا سنسعى لتلمس كيف تم بناء العقل الحديث ليحقق تلك الطفرة العلمية الهائلة والتي بدون تحرره لم يكن الإنسان ليصل لهذه المنجزات العلمية والتكنولوجية التي ينعم بها الآن والتي من بينها هذا المنجز "الجهاز" الذي يطالع عليه قارئنا الكريم هذا المقال.
نعود ونؤكد إنه ما من أمة يمكنها أن تلتحق بالعصر الحديث، مهما امتلكت من أدوات ومنجزات ذلك العصر، إلا إذا تحصلت على عقل حديث، هذا العقل الذي تم بناؤه في ما يزيد عن خمسة قرون، كان العقل قبلها يفكر بطريقة أسطورية، وكانت تلك الطريقة الأسطورية تكبله تكبيلا فلا يستطيع فكاكا، فكان يحيل الظواهر لأسباب غيبية، هذا الذي كان يعوق التقدم الإنساني إعاقة بالغة، فكان لابد أن يتخلص أول ما يتخلص العقل من تلك الأسباب الغيبية والبحث في الأسباب الفيزيقية لتلك الظواهر الطبيعية، فعمل على ذلك وكان له ما أراد، فأصبح العقل - في طريق تكوينه ليصل إلى العقل الحديث - يحول إيمانه من الأسباب الغيبية للظواهر إلى أسباب موضوعية، فكل ظاهرة طبيعية هي نتيجة لظاهرة طبيعية سابقة وسبب لظاهرة طبيعية لاحقة وهكذا أبعد العقل طريقة التفكير الأسطورية من طريقه، كما كبل تلك الشياطين وهذه الجن التي كانت تسرح وتمرح في العقل وبالتالي في الكون أثناء مرحلة تفكيره الطفولية.
ولم يكن الحصول على هذا العقل الحديث من السهولة بمكان، فلقد ضحت القارة الأوروبية، المؤسسة والبانية للعقل الحديث، في سبيل الخروج من العصور الوسطى الأسطورية تضحية هائلة حيث أن المعركة كانت على أشدها ما بين فريقين: فريق يسعى لتحرير العقل من الخرافات وفريق يعيش على تكبيل العقل بهذه الخرافات، الأول تسلح بالعقل والعلم والآخر كان يملك كل أسباب القوة وأهمها سيطرته على عقول العامة والبسطاء من الشعوب، بالإضافة للحكام الذين يهدد عروشهم تحرير العقول، فخاضت السلطة الدينية مدعومة من السلطة السياسية ومتمترسة خلف الشعوب الجاهلة حربا ضروسا ضد العقل والعلم وكاد أن ينتصر الفريق الأخير حينما قتل وحرق وسجن وشرد كل مفكر وعالم يخلخل تلك المنظومة العقلية البالية، ولنا في كل من جوردانو برونو المعروف أيضاً بـ نولانو أو برونو دي نولا (1548 في نولا ـ 17 فبراير 1600 في روما) كـان دارس ديني وفيلسوف إيطالي حكم علية بالهرطقة من الكنيسة الكاثوليكية والذي تم حرقه وجاليليو جاليلي أو غاليليو غاليلي (15 فبراير 1564 - 8 يناير 1642)، هو عالِم فلكي وفيلسوف وفيزيائي والذي تم سجنه ووضعه تحت الإقامة الجبرية بقية حياته مثالا واضحا
لم تكن أوروبا في العصور الوسطى كالآن، بل كانت تنتشر بها الخرافات، التي لن يصدق أحد اليوم أن هذه القارة التي تجعل الآن العقل إماما، وكان قد سبقها إلى ذلك شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء أديبنا العربي الكبير أبو العلاء المعري (363 هـ - 449 هـ) (973 -1057م) هو أحمد بن عبد الله بن سليمان القضاعي التنوخي المعري، شاعر ومفكر ونحوي وأديب من عصر الدولة العباسية، ولد وتوفي في معرة النعمان في محافظة إدلب وإليها يُنسب. لُقب بـرهين المحبسين أي محبس العمى ومحبس البيت وذلك لأنه قد اعتزل الناس بعد عودته من بغداد حتى وفاته. حينما طالب بألا يكون هناك سلطان على العقل فجعله المركز قبل الأوربيين في عصر التنوير حيث قال:
"كذب الظن لا إمام سوى العقل مشيراً في صبحه والمساء". هذا الذي أهمله ولم يلتفت إليه العالم العربي ليظل في غيبوبة التفكير الأسطوري.
إنه لا يوجد، كما قلنا سابقا، مقارنة من أي نوع بين أوروبا الآن وأوروبا في العصور الوسطى. ولم يكن يمكن لأوروبا ان تصل إلى ما وصلت إليه إلا بفضل ما تحصلت عليه من فلاسفة وأدباء ومثقفين أحيوا العقل وجعلوه في تلك المكانة التي أرادها له الله سبحانه و تعالى مركزا وقائدا للحياة.
ولم تكن البيئة الاجتماعية ولا السياسية ولا الدينية لتسمح هكذا بسهولة لهؤلاء الفلاسفة والعلماء والكتاب بأن ينشروا أفكارهم ونظرياتهم ومبادئهم العقلية لتصبح منهج تفكير وأسلوب حياة، بل كانت كل فئة من فئات المجتمع تعمل على الإبقاء على مصالحها!. وخاصة فئة رجال الدين التي دائما ترتبط بفئة رجال الحكم والسياسة برباط عضوي! ففي وجود الأولى وجود للأخرى والعكس بالعكس.
فوجدنا رجال الدين يؤلبون رجال الحكم على الفلاسفة والمفكرين الذين حملوا معولا مصرِّين على هدم ما رأوا أنه لا يتفق مع العقل وأن الخرافة المقدسة نتيجة كونها مستندة على قداسة دينية هي أخطر ما يواجه المجتمع وأكثر ما يصد العقل عن الاستمرار في حالة وعي! فوجدنا رجال الدين - على سبيل المثال - في فرنسا ينجحون في الزج بالفيلسوف دنيس ديدرو (بالفرنسية: Denis Diderot) ولد في 5 أكتوبر 1713 بلانجر، وتوفى في 31 يوليو 1784 بباريس. وهو فيلسوف، وكاتب فرنسي، وموسوعي فرنسي نقول نجح رجال الدين بالزج به في السجن بعدما أصدر قصته رسالة العميان، ولقد لقى في السجن كل أنواع التنكيل والتعذيب! ولم يخرج منه إلا بعد أن قام بالتوقيع على تعهد بألا يعود إلى كتابة موضوعات من مثل تلك الرسالة!.
ودنيس ديدرو هو صاحب أول موسوعة في التاريخ الحديث وهي موسوعة الإنسيكلوبيدي التي كانت في ذلك العصر – نهاية القرن الثامن عشر- بمثابة محرك البحث جوجل في عصرنا الراهن حيث كانت تشتمل على كل ضروب المعرفة! والتي ما أن علم رجال الدين بأنه يعمل على الانتهاء من هذا العمل الثقافي الهائل، إلا وتواصلوا مع القصر الملكي لمنع ديدرو من استكمال هذا العمل! بزعم أنه يسيء للدين، فما كانت من الحكومة إلا أن أصدرت أمرا بعدم طباعة الموسوعة في فرنسا! وهنا كانت ضربة قاصمة لفريق عمل الموسوعة والذي كان من بين كتابه الفيلسوف الفرنسي الشهير فولتير (21 نوفمبر 1694 – 30 مايو 1778) هو كاتب وفيلسوف فرنسي عـاش خلال عصر التنوير. عُرف بنقده الساخر، وذاع صيته بسبب سخريته الفلسفية الطريفة ودفاعه عن الحريات المدنية خاصة حرية العقيدة والمساواة وكرامة الإنسان. والذي طلب من ديدرو عدم استكمال الموسوعة ورفض الاستمرار في المشاركة في العمل الكبير! وكان هذا بداية لانفراط عقد فريق الفلاسفة! وعلى كل حال لم تنجح كل تلك المحاولات التي قام بها رجال الدين ورجال الحكم، فاستمر ديدرو في عمله سرا، ولجأ إلى حيلةٍ طبع من خلالها الموسوعة في بلجيكا! حيث أن القرار الذي أصدرته الحكومة الفرنسية كان عدم الطبع في الأراضي الفرنسية.
كان ديدرو متأثرا بفيلسوف كبير عاش قبله بحوالي قرن من الزمان وهو الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (بالهولندية: Baruch Spinoza) والذي يعد من أهم فلاسفة القرن 17 حيث ولد في 24 نوفمبر 1632 في أمستردام، وتوفي في 21 فبراير 1677 في لاهاي.
هذا لقطة واحدة فقط من المعركة التي دارت رحاها بين حماة وسدنة البنية الفكرية الأسطورية القديمة وبين الفلاسفة والأدباء والمثقفين الذي عملوا على تحرير العقل ومن ثم بناء عقل جديد ليس هناك سيطرة عليه ولا سلطان إلا العقل ذاته، وذلك من عصر النهضة بداية من القرن الرابع عشر حتى القرن السابع عشر والذي تبعه عصر التنوير، فالثورة الصناعية، فالثورة التكنولوجية انتقالا إلى الثورة المعلوماتية وصولا إلى الثورة البيوتكنولوجية، تلك الثورات التي قادها عقل واع خلص نفسه من الخرافات والأوهام وعبّد الطريق لنجاحات وإنجازات مرشحة لزيادة مطردة لن يقف في طريقها شيء.
فإن كان حجم العلم في الماضي القريب يتضاعف كل 50 سنة فإنه الآن مع عصر التكنولوجيا، باتت المعرفة تتضاعف أيضا.
أخبار متعلقة :