بوابة صوت بلادى بأمريكا

إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الجزء (24))

 

(24)

 

       كارثة بهذه الفداحة كافية لتمزيق كل أوردة الحياة بجسدها الرقيق ، هبت الأعاصير من كل جهة تتقاذفها ، اهتزت الأرض تحت قدميها ومادت فلم تعد قادرة على الوقوف ، الجدران لم تسلم من دقات رأسها ، ولولا الممسكين بها لحطمتها وتحطمت معها . ما الذي يبقيها في الحياة وقد هوت كل مصابيحها وتهشمت تحت قدميها ، ارتدت الحياة عباءتها السوداء والأمل معدوم تماما في استبدالها . احترقت كل الزهور ولن تستنشق سوى رائحة الموت . رحلت " نيرمين " وانهارت أمها ناديه وألقت بنفسها في جب الأحزان ، مفاجأة اهتز لها الجميع ، زهرة في الثانيريعان شبابها ، ذبلت في عدة أيام وذابت وكأنها شمعة من الشمعات التي كانت تزين كعكة عيد ميلادها . حامد النجار تحول في زمن قياسي لشبح رجل ، هدته المصيبة تماما ، لا عزاء ولا مواساة . تساءل وتساءل ولا مجيب ، هل لم تقبل السماء توبته فعاقبته بجهنم الحمراء يتلظى بها وهو لا يزال على قيد الحياة . كلما فاهت شفتاه بتخاريف أمام الشيخ نديم  يهُزه ويصيح به ، استغفر ربك يا رجل . رزحت ناديه تحت أكومة من الأحزان ، حياتها تحولت إلى ليل دائم ، لا تخرج من غرفتها إلا للضرورة القصوى .

 ظل حديث طبيب المستشفى التي كانت تعالج بها نيرمين عالقا  كجمرة داخل رأس حامد النجار ، كاد أن يذهب بعقله للجنون . على أثر تحليل دم ابنته لمعرفة ما بها ، قال له الطبيب كلام ظنه الهذيان في بادئ الأمر . ابنته مصابة بمرض فقدان المناعة أو ما أسماه العلماء بالإيدز . مرض جديد كيف يصل لإبنته وقد أخبره الطبيب أن معظم الإصابة به تأتي نتيجة للاتصال الجنسي ، أو عمليات نقل الدم ، ابنته لم تذهب للطبيب أبدا ، ولم تجرى لها أي عمليات نقل دم ، أو حتى مجرد قلع ضرس . هوت الحقيقة على رأسه كصخور الجبل ، صارحه الطبيب وهو ينتقى كلماته بعناية ، بأنه في هذه الحالة لا بد وأنه يكون انتقل إليها عن طريقه هو او زوجته ونصحه بإجراء تحليل ولزوجته أيضاً .

لم يشك ولو للحظة واحدة في زوجته ، متأكد من براءتها وطهارتها ، أشارت كل أصابع الشك نحو نفسه ، ماضيه مع النساء طويل وعريض ، لا يستطيع حتى حصرهم . العاهرات التي كان يلتقي بهن في رحلاته ، هذا المرض لم يُسمع عنه إلا حديثا وإلا كان احتاط له ، من هي التي نقلت إليه ما قتل به ابنته ؟ . من المؤكد أن ناديه نفسها انتقلت إليها العدوى . المسكينة لا تعلم سبب النكبة ، كيف يصارحها وهي في هذه الحالة ، استشار الشيخ نديم ، أشار عليه بأن الأمانة تقتضي منه أن يصارحها ، حتى تتمكن من عمل فحوصات الدم ، من المؤكد أن العدوى  انتقلت إليها وخاصة أن الأبحاث أثبتت أنه مرض مُعدي . حاول أن يتذكر من هي التي أعطته هذه الجرعة من الموت ، كأنه يبحث عن إبرة في كومة قش ، فجأة ومضت في ذهنه المرأة التي كانت تشبه قطعة الشيكولاته الداكنة التي قدمها إليه الجوكر وهو يضحك قائلا..  أنها من جزر التاهيتي . نعم هي القاتلة ، شعر بعدها بتوعك لمدة طويلة ، عرض نفسه على الطبيب أشار عليه بعمل تحليل لدمه ، لم يعر نصيحة الطبيب أي اهتمام ، لم يعاوده مرة ثانية . هل من الممكن أن يظل بهذا المرض طوال هذه المدة ، من الجائز فالطبيب أخبره أنه يمكن لإنسان أن يسير بهذا المرض لفترة طويلة ، وأيضا يمكن أن يحمل فيروساته دون أن يصاب به ويمكن أن ينقله لغيره من خلال علاقة جنسية ، او نقل دم . يا لهول ما فعلت يا حامد يا نجار ، قتلت ابنتك بيدك وليس من المستبعد أن تلحق بها حبيبتك وزوجتك ، من المؤكد أن المرض انتقل إليها هي أيضا ، كيف يقنعها بالذهاب  لتجري تحليلا لدمها، هل يصارحها كما أخبره الشيخ نديم ،  بأي وجه وبأي عينين ينظر إليها؟! . غفرت له نزواته السابقة ، لكن كيف سيتحمل نظراتها وهي ترى فيه الأب والزوج الفاسق القاتل؟!

 

 

********

       محاولات مستميتة لا تنقطع من ميرفت وزوجها عادل لإخراج ناديه من عزلتها ، الأحزان كانت شديدة الوطأة عليها ، صورة ابنتها لا تفارق خيالها ، انطفأت ومضة الحياة في عينيها . نيرمين كانت بالنسبة لها الحياة نفسها ، ضاع من داخلها كل شيء ، حتى الحياة نفسها لم تعد تهمها ، كم من المرات تحلم بأنها لحقت بابنتها وتقابلت معها ، كانت في حلمها تشعر بسعادة طاغية . هذا الشعور كان ينقلب لحزن كالجبال عندما تستيقظ وتعلم أنه مجرد حلم ، وأن عليها أن تعيش والفراق ينهش روحها.حاول حامد النجار كثيراً أن يسري عنها ، لكن فشله مرة تلو الأخرى أوقفه عن المحاولة ، هو نفسه إجتمع داخله حزن يكوي أضلعه وألم يقبض على قلبه بيد من حديد .  تنهشه أفكاره ، النكبة كلها هو صانعها . كثيرا ما كان يقف أمام المرآة وينظر إلى وجهه ويصرخ .. ليت ناديه تستطيع أن تغير من ملامحك ، كما غيرت من داخلك وحولته من السواد إلى البياض ، حتى لا أتذكر أي شيء عن حامد النجار ، أنساه بكل حماقاته وشروره وموبقاته . عندما أفاض بخاطره في أحد المرات للشيخ نديم ضحك وقال له .. ناديه غسلت قلبك وما دام قلبك أصبح نظيفا ، تأكد أن كل ملامحك تغيرت مع قلبك أيضا . تاه في افكاره وأحس بعقله يخرج في يده ، وأن جمجته أصبحت كعلبة فارغة ، يقبض عليها ويصرخ صرخات مكتومة في غرفة مكتبه .. لماذا أيها القدر العنيد لم تصب لعناتك فوق رأسي لوحدي ، ما ذنب هاتين البريئتين ، لماذا لم تتفنن في عذابك لي شخصيا وتبتعد عنهما ، صدقني كنت سأتقبل العذاب بابتسامة راضية مهما بلغت قسوته لأني أستحقه بجدارة ، نادية إن لم يقض عليها المرض سيميتها الحزن على ابنتها ، تذوى يوما بعد آخر ، لا أحد يقدر على مد يد المساعدة ، حتى ميرفت تقف مكبلة أمام هذا الحزن الهائل.

 

 

********

       استيقظت ناديه في الصباح ، صباح ككل صباح ، لم تعد تفرق بين الصباح أو المساء ، تنهض من الفراش وتذهب للاغتسال بالحمام ، تعود لغرفتها وسجنها . منذ رحيل ابنتها تصر على أن تنام وحيدة في الغرفة ، حتى تطلق لعينيها العنان لتروي الوسادة . في ذلك الصباح كان هناك شيء ما لا تدري كنهه ، شعرت به كانقباضة تضيق الخناق على أنفاسها ، لمحت مظروفاً يبدو أن هناك يد قذفت به من أسفل باب الغرفة ، فضت غلافه لتقرأ ما هو مسطور بداخله ، الكلمات سحلت نظراتها .

حبيبتي .. ولو أنني لا أجرؤ على النطق بها أو حتى تدوينها ، بعد أن علمت أي جرم أجرمته في حقك وحق ابنتنا نرمين . لا تندهشي يا ملاكي الطاهر ، نعم أنا المجرم الذي قتلت بيدي أعز ما أملك في الحياة ، قتلت ابنتنا وانتظر نهايتك أنتِ أيضا ، أنا الناكب والمنكوب في آن واحد . آن لي أن أعلم أن لعنة ما ارتكبته ستلاحقني وتنصب عليكما ، تنصب على حبيبة لم أكن أحلم حتى بأن أقبل قلامة ظفرها ، وابنتي التي كنت أتنفس الحياة من خلال أنفاسها . آن أن تعلمي بأنني حملت في جسدي الحقير الموت لأعز حبيبتين لي في الحياة . من حقك أن تلعنينني ، أن تبصقي على كل أيامك معي ، أن تلقي بدنس العالم كله فوق رأسي . ماذا سيفيد هذا ، لن يفيد بشيء ، لن يعيد ابنتنا للحياة ، أو يعفيك أنتِ من الموت ، لو كان بيدي لطلبت من الله أن يميتني كل يوم ميتة أشر مما قبلها ولا تُمس شعرة منكما، أسمعتك كثيرا بأنني أفديك بروحي ، وها أنا اقف مشلولا وعاجزا حتى أن أقدم لك العون ، كسيح ، ولا حتى ككسيح ، الكسيح يمكن أن يزحف ، لكن حتى الزحف استعصى علىَّ ، هل تعلمين لماذا يا حبيبتي ؟ ، لأنني أنا القاتل والمقتول . نعم أعترف لك الآن بهذا ، لكنني أقسم لك بكل ما هو مقدس ، بأنني كنت أجهل تماما أنني أحمل في جسدي اللعنة لك ولإبنتنا ، لم أكن أعلم أني سأدخل إلى دمائكما هذا الفيروس القاتل . لو كنت أعلم كنت شنقت نفسي آلاف المرات لأبتعد عن طريقك ، نزواتي ألحقت بي الدمار ، حملت هذا الفيروس في إحدى نزواتي مع امرأة غريبة ، هذا الفيروس الذي لم يكتشف كنهه الطب إلا منذ وقت قريب وأطلقوا عليه الإيدز ، عشت به ونقلته إليك ونقلتيه أنت لابنتنا ، هل هي سخرية القدر؟! ، أم عقاب السماء على ما اقترفته يداي ؟. هل أطلب منك السماح والمغفرة !! ، أعلم أنني لا أستحقهما ، لا أملك الآن إلا أن أقول لك وداعا يامن أحببتك أكثر من نفسي .

ألقت ناديه بسطور الهلاك من يدها ، تلونت الدنيا بصبغة حمراء أمام عينيها ، لون الدماء ، عقلها يأبى أن يصدق أن زوجها حامد النجار ، هو من ابتلاها بكارثة ابنتها وكارثة نفسها التي كانت تجهلها . قفزت والطعنات تنهال عليها ، طارت نحو غرفة مكتب زوجها ، لا ترى أمامها شيئا ، فقط تسمع صوت تبعثر أي شيء يعترض طريقها وهي تعدو كالمجنونة ، ضغطت على مقبض الباب ، حامد النجار يجلس أمام مكتبه وأنهار من الألم تتدفق من عينيه ، يده تقبض على مسدسه الموجه إلى رأسه ، تحشرجت الكلمات وهي تتهاوى من بين شفتيه الزرقاويتين .. كنت أعلم أنك ستأتين ، سامحيني . ضغطت إصبعه على الزناد ، دوى صوت الطلق الناري ، تبعثرت أجزاء من جمجمته ، تناثرت الدماء على الحائط خلفه لترسم خيوط المأساة ، هوت ناديه على الأرض دون أن تنبس بكلمة واحدة ، أتت الخادمة على صوت الطلق الناري ، تعالت صرخاتها لتنعي لكل الجيران انتحار حامد النجار.

 

*******

       فتحت ناديه عينيها ، كغمامة رأت وجوهاً كثيرة ، أبيها وأمها وأخوتها جميعا ، عادل وميرفت ، رمزي صديق رشاد مصطحباً عروسه ، كان لا يزال في شهر العسل ، سارع إلى المستشفى بمجرد أن سمع الخبر من صديقه رشاد ليكون بجانبه كما كان دائما . الجميع  حولها ، في أعينهم الحب والحنان لهذه المسكينة ، لم تفق بعد من صدمة فراق ابنتها حتى ابتلت بنكبة انتحار زوجها ، اِستعادت ناديه شريط الأمس الذي انتهى بالرصاصة التي ألهبت رأس زوجها ، فقدت الوعي بعدها ، لم تفق سوى في هذه اللحظة لتجد الجميع تختلط لهفتهم مع خوفهم . لم تعلم سر القوة التي غزتها فجأة ، تيقظ عقلها وقررت أن تكتم سر مصيبتها عن الجميع ، لا يجب أن يعلم أحد السبب في انتحار زوجها ، لا يجب أيضا أن يعلم أحد بأن داخلها علة لا علاج له ، من يصاب بها تنظر إليه العيون نظرة الريبة والشك والخوف والذعر من العدوى ، ستدعهم يظنون أن حامد النجار انتحر حزنا على مصيبته في فلذة كبده ، لا بد أن تكون قوية وتواجه العالم وهي تعلم أن نهايتها قريبة ، لا بد أن تعيش الأيام الباقية لها في الحياة ، في النهاية سترحل عن الدنيا وتلحق بابنتها ، يجب أن تترك الحزن وتتمتع بباقي أيامها . أفكار كخضم السيول تتلاحق داخل رأسها ، لا تعلم كيف انقلبت رأسها والأفكار معا. منذ يوم واحد فقط كان حزنها ينادي الموت بأعلى صوته ، بعد أن علمت الحقيقة وانتحار زوجها حامد النجار شعرت بأظافرها تتشبث بالحياة . عجيب هو الإنسان عجيبة هي الدنيا ، الشعور بأن عقد حياتها على وشك الانفراط ، أصابها بالخشية على حباته . الأفكار تمرح داخل رأسها والجميع يقفون صامتين وهم يظنون أنها تجتر الأحزان ،. كسرت ناديه الصمت وبصوت يموج بالقوة أصرت على أن تغادر المستشفي ، حاول الأطباء أن يثنوها عن قرارها ، رضخوا أمام إصرارها . انتحى كبير الأطباء بعادل لعلمه بأنه طبيب ، حذره بأن الصدمة كانت قوية ويمكن أن تترك تأثيرا سيئا عليها ، يمكن أن تصاب بانهيار عصبي في أي وقت وقد تُصبح غير مسئولة عن تصرفاتها . أشار عليه بأنه من الأفضل عرضها على طبيب نفسي . بالرغم من إلحاح أبيها وأمها أن تقيم معهما لفترة حتى تستعيد عافيتها ، إلا أنها رفضت رفضا باتا ، أدهشتهم بقولها أنها ستعود لعملها السينمائي فورا ، وهذا ما دعا عادل أن يقطب جبهته وهو ينظر إلى زوجته ميرفت ، تيقن أن توقعات كبير الأطباء بدأت طريقها ، وأن ناديه غير مضبوطة من الناحية النفسية .

وإلى اللقاء مع الحلقة القادمة

 

إدوارد فيلبس جرجس

edwardgirges@yahoo.com

*********************

 

أخبار متعلقة :