على مدار القرنين التاسعَ عشَرَ والعشرين أخذ أزهرنا الشريف يؤدي رسالته في القيام على حفظ الشريعة الغراء: أصولها وفروعها، واللغة العربيةوعلومها وآدابها، وعلى نشرهما، وتخريج علماء يُوكَل إليهم تعليم علوم الدين واللغة في مختلف المعاهد والمدارس؛ فهو"هيئة علمية إسلامية كبرى تقوم على حفظ التراث الإسلامي ودراسته وتجليته ونشره، وتحمل أمانة الرسالة الإسلامية إلى كل الشعوب، وتعمل على إظهار حقيقة الإسلام وأثره في تقدم البشر ورقى الحضارة، وكفالة الأمن والطمأنينة وراحة النفس لكل الناس في الدنيا والآخرة، كما تهتم ببعث الحضارة العربية والتراث العلمي والفكري للأمة العربية، وإظهار أثر العرب في تطور الإنسانية وتقدمها؛ وتعمل على رقى الآداب وتقدم العلوم والفنون وخدمة المجتمع والأهداف القومية والإنسانية والقيم الروحية، وتزويد العالم الإسلامي والوطن العربي بالمختصين وأصحاب الرأي فيما يتصل بالشريعة الإسلامية والثقافة الدينية والعربية ولغة القرآن، وتخريج علماء عاملين متفقهين في الدين يجمعون -إلى الإيمان بالله والثقة بالنفس وقوة الروح- كفاية علمية وعملية ومهنية، لتأكيد الصلة بين الدين والحياة، والربط بين العقيدة والسلوك، وتأهيل عالم الدين للمشاركة في كل أسباب النشاط والإنتاج والريادة والقدوة الطيبة، وعالم الدنيا للمشاركة فيالدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة؛ كما تهتم بتوثيق الروابط الثقافية والعلمية مع الجامعات والهيئات العلمية الإسلامية والعربية والأجنبية.
وقد شهد بهذا الدور الحيوي للأزهر جامعًا وجامعة القاصي والداني، والعربي والأعجمي، وكبار مثقفي الأمة الأفذاذ الراحلين، أمثال أمير الشعراء أحمد شوقي( 1868-1932م) والأديب الفحل مصطفى صادق الرافعي(1880-1937م)، والمفكر العملاق محمود عباس العقاد(1889-1964م) والكاتب الفنان أحمد حسن الزيات(1885-1969م)، والشيخ الجزائري البشير الإبراهيمي(1889-1965م)، والعلامة المحقق محمودشاكر(1909-1997م)... وغيرهم من الراحلين العظام..
وفي العقدين الأولين من قرننا الحادي والعشرين ما زال الأزهر بمشيخته وهيئة كبار علمائه،الأزهر الجامع والأزهر الجامعة، والأزهر البشير، والأزهر النذير،والأزهر الداعية، والأزهر المثقف، والأزهر المتطور، ما زال يؤدي هذه الرسالة الحية والحيوية على مستوى وطننا (مصرنا المحروسة)وقوميتنا العربية وأمتنا الإسلامية، والأدلة على ذلك كثيرة متنوعة.
لعل من أهمها شهادات عدد من الأساتذة الأكاديميين المعاصرين غير الأزهريين، شهادات مثنية مادحة، منصفة للأزهر وشيوخه وطلابه ومعاهده وكلياته.أقف في هذا المقال مع شهادات من جامعات ثلاثة:عين شمس والمنوفية، والسويس، شهادات لثلاثة مفكرين كبار نبلاء، متنوعى التوجه: أصالة، وحداثة، ومعاصرة. هم([2]):
شهادة المفكر الإسلامي الدكتور إبراهيم عوض:
شهد الدكتور إبراهيم عوض أستاذ الدراسات الإسلامية والعربية بكلية الآداب في جامعة عين شمس للأزهر وأساتذته وطلابه بالعلم والحيوية، خلال إجابته عن سؤال قدمته إليه عن ذلك، فقال لي:" "أعرف عددًا من أساتذة الجامعة الأزهريين معرفة صداقة وجيرة، ومعرفة زمالة في جامعة أم القرى، ومعرفة اشتراك في مناقشة الرسائل الجامعية بكليات اللغة العربية في جامعة الأزهر بالقاهرة والمنوفية والإسكندرية ودسوق وغيرها. وعلاقتي بهم علاقة جميلة طيبة، فيها تعاون، وفيها مودة، وفيها تبادل للكتب والمعارف. ودائمًا ما كنت أثني على موضوعات الرسائل الجامعية التي كنت أُدعَى لمناقشتها في جامعة الأزهر الغراء؛ لما تتسم به من طرافة وجدة. وكان الزملاء الكرام يحيطوننا دائمًا بالحفاوة والكرم والدِفْء، والحوار العلمي البناء، فكان الوقت الذى أقضيه معهم وقتًا جميلاً لا ينسى بسهولة. وكثير من الباحثين الذين ناقشتهم بكليات الأزهر لا يزالون حتى الآن على اتصال بي، وهو دليل على الوفاء والأصالة الكريمة. بارك الله في الأزهر وأبقاه حصنًا للإسلام: عرضًا ودفاعًا وتمثيلاً. و لا حرمنا الله من خيرات الأزهر وجهوده وحركته العلمية والثقافية والتعليمية الهادفة البناءة.
شهادة الناقد الأدبي الأصيل الدكتور أيمن تعيلب:
قرر الأستاذ الدكتور أيمـــــــن تعيلـــــــب، الناقد الأدبي الحداثي المعروف، والعميد السابق لكلية الآداب بجامعة السويس، ورئيس تحرير سلسلة كتابات نقدية بهيئة قصور الثقافة السابق، في مقالةله بعنوان:(الأزهر الشريف نبض الضمير الجمعي المصري)، أن الأزهر حقًّا هو الآن المعلن عن الهوية المصرية والعربية والإسلامية، وهو الكاشف للعوار المنهحي الجذري الكامن في عقل المثقف المستلب المستقيل من العقلانية والحيوية بعيدًا عن مقولات الفكر الرصينة.إن فكرة الأصل التاريخي والجمعي العربي لدى معظم المفكرين العرب تبددت تحت دعاوى وهمية شكلانية، مثل محاولة التحديث العقل الإسلامي العربي بتبديد ماضيه لا الوقوف العلمي المنهجي الحي عليه، أو تجديده بالاستلحاق الفكري بالغرب، وهنا نسأل سؤالاً: كيف يصح تحديث الأصول بجذور الغير؟ فلن نستطيع أن نستعيد قوة اتصالنا الروحي والعقلي والقيمي بأسباب أصولنا العربية الإسلامية الأولى ،إلا إذا اتصلنا بها اتصالاً علميًّا حيًّا خالقًا متجددًا. وهذا الاتصال الإيجابي لا يكون إلا من خلال مؤسسة علمية واعية كالأزهر الشريف بمعاهده ومجامعه وكلياته وشيوخه...
ويقرر الدكتور أيمن تعيلب أن الأزهر حصن صلب صامد أمام من فضلوا اجترار التاريخ على إنتاج التاريخ، واتهام الماضي والتخلص منه على الحوار المسؤول معه؛ لأنهم وجدوا أن مؤونة اتهامه أخف ثقلاً عليهم من مئونة الحوار الحي معه. كان ماضينا العربي العظيم أعظم بكثير من ضيق مناهجهم، وقصور تصوراتهم مما جعلهم يضفون على الواقع العربي أوهامًا لفظية واستعارية وإنشائية حتى أوهمونا بأننا نملك واقعنا وتاريخنا بالفعل، لكننا كنا نخادع أنفسنا وأفكارنا وواقعنا على طول قرن مضى بخداع طنطنات عقليات التبرير الحضاري، والإسقاط اللفظي المرضي، حتى صرنا ظاهرة صوتية في الفضاء الثقافي العالمي كما يقال، ويُردَّد عنا زورًا وبهتانًا، وكان الأحق بهذه الصفة التسفيهية أن يوصف بها معظم المفكرين العرب لا الشعوب العربية و لا ماضيهم الحى الخلاق، ولا مؤسساتهم الأصيلة كالأزهر الشريف تاريخًا وحاضرًا ومستقبلا إن شاء الله تعالى.
كما يقرر الدكتور أيمن تعيلب أن الأزهر هو القادر على تطوير نسق قيمي معرفي إسلامي مدني متسق، قادر على تشكيل إطار إسلامي معرفي كلي متجانس للحضارة العربية الإسلامية المعاصرة. وكأن شيوخه يذكروننا بعظمة الدلالة القرآنية في الآية الكريمة في سورة الفرقان:(وقالَ الرسولُ ياربِّ إنَّ قومي اتخذوا هذا القرآنَ مَهجورًا([3]))؛ففي هذه الآية الكريمة بالتحديد تتوضح بدقة دلالة الهجران: هجران بيت الروح والخُلُق والتراث والماضي بوصفه بيتًا عامرًا دافئًا خلاقًا قادرًا على الحياة الطيبة المتجددة والإقامة الحية المستقبلية،نجدد البيت العتيق بصورة عصرية، فنحقق من خلال الأزهر وشيوخه هذه التركيبة الماتعة: أصالة مصرية عربية إسلامية معاصرة. وهكذا يرى ناقدنا المثقف الأصيل أن الأزهر الشريف هوالدرب المستقيم الصلب الذي يسمو لأفق أمتنا الإسلامية العربية الأصيلة القادرة على ضخ دماء جديدة فيالجسدالكونيالمتهالك أيدلوجيًّا وفكريًّا وإنسانيًّا!
شهادة الناقد الأدبي الحداثي الدكتور محمد فكري الجزار:
وهذا الأستاذ الدكتور محمد فكري الجزار، أستاذ ورئيس قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة المنوفية، ورئيس تحرير مجلة فصول السابق، في مقاله الطيب: (الإمام الأكبر: عباءة الأمة وعمامة الإسلام) يقول عن ضرورة الحفاظ على الأزهر: "الأزهر الشريف، بعلومه وعلمائه ومشيخته، هو النواة الصلبة لهذا الدين الحنيف، وأن أقدار الله في الأزهر الشريف هي هي أقداره في الدين الذي ارتضاه لخلقه، متلازمين تلازمًا لا انفكاك له حتى يقضي الله في هذه الحياة الدنيا أمرًا كان مفعولاً. وما ظنك بمجرد مسجد جامع أنشأه الشيعة الفاطمية فلم تجاوز شهرته بلده الذي أقيم فيه، ثم قيض الله له الظاهر بيبرس فأظهره بمذهب أهل السنة والجماعة، فصار مصنع العلماء ومحل نظر الأولياء ومقصد العارفين حتى طبق ذكره الآفاق وامتدت مظلته إلى غالبية الأقطار الإسلامية التي أتى أبناؤها إليه فأكرم وفادتهم وأحسن تعليمهم حتى عادوا إلى بلادهم مبشرين ومنذرين، لا يذكرون مصر إلا بأزهرها، ولا يذكرون الأزهر إلا بمصره، فمن ذا الذي ينكر هذه القوة الناعمة العالمية التي يمثلها الأزهر وتمتلكها مصر!! فهل من مصلحة مصر أن يتسامع هؤلاء بأن العلوم الشرعية التي تعلموها يقال فيها الذي يقول العلمانيون المصريون. وماذا تكون الصورة الذهنية لمصر عند هؤلاء!! ولمصلحة من نحرم أنفسنا من القوة الناعمة العالمية التي نملكها!!والسؤال: هل يستطيع العلمانيون أن يواجهوا بفكرهم وفلسفاتهم هذه الجماعات المتطرفة؟ وإن أجبتم نعم، فأين نتائج هذه المواجهة وقد كنتم دائما الأعلى صوتا والأكثر نفيرا!! الحقيقة أن أولئك العلمانيين لو تمكنوا من الأزهر الشريف، لاستفرد الفكر المتطرف بعوام الناس في رد فعل منهم على علمانية لا يقبلونها، وهم الذين يحكمهم الدين في مختلف مناشط حياتهم... فهل هذا ما تريدون!!
فهذه الشهادة تبين الدور الجهادي الوطني والإقليمي الذي يقوم به الأزهر شيخًا ومشيخة، جامعًا وجامعة، والذي هو ضرورة من ضرورات البقاء والاستقرار، وأن البديل للأزهر والأزهريين هو الفكر المتطرف المتجمد الانغلاقي الظلامي الخطير على الجميع: أزهريين وغير أزهريين...
وما زالت شهادات الأكاديميين المصريين والعرب تتوالى لدي عن الأزهر المعاصر وشيوخه وآثاره، أقدمها في قادم المقالات إن شاء الله تعالى...
إن هذه الشهادات الأكاديمية لأساتذة مثقفين غير أزهريين وغيرها كثير تدل على أن الأزهر الشريف ما زال المجاهد الأولفيميدان حماية الوطن والأمة من الأعداء الداخليين والخارجيين، بتقديم الفهم الوسطي المستنير المعاصر لإسلامنا … وما زال أزهرنا الشريف، وسيظل بإذن الله تعالى، منبع العلم الأصيل الوسطى النافع، وقوة ناعمة لمصرنا، يفد إليه العلماء والطلاب والأدباء من كل صوب وحدب ليشهدوا فيرحابه منافع لهم، وليرتووا من مناهله الطاهرة، يجتمعون على خير، وينفضون في خير، لا تشوبهم شائبة، ولا يعتريهم جمود أو تطرف، من خلال علماء وكتب ومناهج تعليمية صافية طاهرة، تعلم ثقافة الأمن والسلم والتعاون والمواطنة وتكريم الإنسان والنظر إليه نظرة سواء، بلا تمييز أو استعلاء أو إقصاء أو تكفير أو تفسيق أو تبديع، وغير ذلك من الأساليب العنيفة الموجودة عند الظاهريين الظلاميين أصحاب النظرة الأحادية أو المتجزئة! …
حفظ الله مصرنا وجيشنا وأزهرنا وشيوخنا...
إعدادأ.د/صبري فوزي أبوحسين
أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات
[1]))من المادة الثانية من القانون 103 لسنة 1961م، بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التي يشملها.
[2])) راجع مدونتي في موقع (الكنانة أو لاين)، على الرابط الإلكتروني http://kenanaonline.com/users/Sabryyamnaa/posts/1077919.
[3]))سورة الفرقان، الآية 30..
أخبار متعلقة :