الموسيقى حالمة ، ونسمة تحمل أنفاس المحبين ، أنفاس ميرفت وعادل ، سليم وناديه ، في رقصة تشبه رقصة الفراشات حول الزهور ، تناسيا كل شيء حولهما . ألقت ميرفت برأسها فوق كتف عادل ، تعلقت عينا ناديه بعيني سليم . الحاضرون ينظرون بإعجاب إلى ثنائيات الحب النادر . انسحب الجميع ولم يبق سواهم ، عندما أشار والد عادل للعازفين لكي يتوقفوا ، لم ينتبه ثنائيات الحب لتوقف العزف ، استمروا في أحلامهم ، لم ينتبهوا إلا على دوي صفيق الحضور . ضحك والد عادل قائلاً :
_ هيا إلى إطفاء الشموع وتقطيع التورته ثم عودوا لأحلامكم ثانية .
عيد ميلاد ميرفت ، ناديه وسليم على رأس المدعوين ، أمسك عادل بيد ميرفت متجها إلى تورتة عيد الميلاد ، وهو يهمس قائلا :
_ هل تتذكرين أُمسية جنية بحور الشعر .
_ وهل تتذكرها أنت .. قالت ميرفت وهي تتشبث بقبضة يده .
_ ستظل محفورة في قلبي طوال العمر .
لمحت ميرفت ناديه وسليم يرنوان نحوهما وعيونهم تنطق الإعجاب الشديد ، ابتسمت وجذبتهما وهي تقول .
_ ألا يدفعكما هذا للغيرة وتعجلا بالزواج ؟
قال سليم وبريق الحب يضيء عينيه :
_ لقد قرأت ما في عقلي بالضبط ، هذا ما كنت أتحدث به لناديه .
وقالت نادية :
_ ما شاهدته الآن في وجهك أنت وعادل ، دفع بأطنان من الغيرة داخلي ، وقلت لسليم لا بد أن نعلن خطوبتنا رسميا في الأسبوع القادم ، وبعدها يكون الزواج .
صفقت ميرفت كالأطفال مبتهجة وهي تصيح :
_ لن أقبل سوى أن يكون حفل الخطوبة هنا وأرجو ألا ترفضا رجائي .
قالت ناديه وهي تقبلها:
_ ولو أن هذا سيثير حفيظة أبي وأمي وأخوتي ، إلا أنني لا أستطيع أن أرفض طلبا لأعز صديقة لي .
*********
دهشة عصفت برأس الجوكر وهو يرى رشاد ورمزي يتقدمان نحو غرفة مكتب حامد النجار ، تعجب كيف استطاعا أن ينفذا إلى مكتبه مخترقين كل الحراسات الخارجية ، طار نحوهما ككلب على وشك العقر .
_ إلى أين أيها الشجعان ؟
نظر إليه رشاد بلا مبالاة وقال :
_ كما ترى إلى مكتب حامد بك النجار .
قال الجوكر وهو يرميهما بنظرة مستهينة :
_ وهل تظنان أن حامد بك النجار لديه من الوقت لاستقبال الأولاد ؟ .
تجاهلا وقاحته وقال رمزي :
_ على موعد معه .
ضحك الجوكر ضحكة مستهزئة قائلاً :
_ لم أكن أعلم أن لحامد بك النجار من يرتب له مواعيده غيري .
قال رشاد بحزم :
_ من فضلك دعنا ندخل أو أخبره أنت بقدومنا .. فقد يسيء حامد بك أن ننتظر أمام بابه .
تاهت النظرات داخل عيني الجوكر وتمتم في داخله .. ما الذي يحدث ، انسل إلى مكتب سيده ، ضلت النظرات في عينيه تماما وهو يستمع لحامد النجار وهو يأمره بإدخالهما فورا .
استقبلهما حامد النجار بالترحاب ، هو الذي شجعهما على زيارته في أي وقت يشاءون ، النجار بعد أن عادت الحياة لقلبه ، ينظر إليهما كنموذج جميل للشباب والصداقة والحب .
قال رشاد برجاء :
_ نحن نعلم أن وقت سيادتك ضيق ، فاسمح لي أن أعرض ما جئنا من أجله ، وهو في الحقيقة شيء يهم رمزي كما يهمني أنا بالضبط .
نظر النجار إلى رمزي وقال :
_ أعرض ما جئت من أجله ، وتأكد بأنني سألبي لكما أي طلب ، أنتما لكما منزلة واحدة في نفسي .
_ أشكرك يا حامد بك ، هذا ما أعلمه جيدا ، وهو ما شجعني أن آتي وأعرض أمرا هو في الحقيقة تكليفا من الأب يعقوب لأقوم بتوصيل رسالته إليك .
قال حامد ضاحكا :
_ وأيضا الأب يعقوب طلباته مجابه .
قال رمزي:
_ هو في الحقيقة موضوع يتعلق بسور الكنيسة المتهدم ، أنت تعلم سيادتك القوانين المعقدة لاستخراج تصاريح البناء أو ترميم الكنائس .
_ هل هذا كل ما في الأمر .. أنقل للأب يعقوب تحياتي واخبره أنني في أقرب فرصة سأقوم بزيارته للتعرف عليه ، وأقدم له بيدي تصريحا لإجراء أي إصلاحات أو ترميمات بالكنيسة ، بيوت الله يجب أن تكون لها مكانة خاصة في قلوب الجميع .
قال رمزي وهو ينظر بإكبار إلى حامد النجار :
_ أشكر سيادتك ، هذا الخبر سيبتهج له كثيرا الأب يعقوب .. ضحك رمزي ورشاد عندما غادرا مكتب حامد النجار مرورا بمكتب الجوكر وهما يريان عينيه خارج غرفتيهما .
********
دق جرس الهاتف في شقة ناديه كلحن جنائزي ، لم تدر ناديه لماذا تضاربت نبضات قلبها وهي ترفع السماعة :
_ منزل الفنانة ناديه ؟
_ نعم أنا ناديه ما الخبر ؟
_ أنا احسان ، ممرضة أعمل بالقصر العيني ، كلفني خطيبك سليم أن أتصل بك لأخبرك بأنه أصيب في حادثة سيارة .
ألقت ناديه السماعة من يدها ، هرول رشاد ورمزي صديقه نحوها ، أمسكا بها وهما يشاهدانها تترنح مع دموعها ، علما بما حدث . أصرت على الذهاب معهما لترى سليم .
وصل ثلاثتهم لكن الموت كان قد طار قبلهم ، زار سليم واصطحب روحه وهرب ، كان بخيلا لحد الجبن ، لم يعطه فرصة لبعض كلمات ليودعها وتودعه . بعينيها التائهتين رأت وجوها يعتصرها الحزن والألم ، الأب والأم في ذهولهما ، يرفضان فكرة رحيل ابنهما البكر. المرة الأولى التي ترى فيها ناديه والد سليم ، لم تتمالك نفسها ، ألقت برأسها فوق كتفه تغرقه بدموع تصهر الحديد والأب يهمس دون وعي .. كلمني عن حبكما كثيرا ، كنا سنحضر لنخطبك له هذا الأسبوع ، تحزنين كل هذا الحزن وأنت لم تقابليه إلا منذ فترة قصيرة ، ماذا أفعل أنا أول من تلقفه على يديه ، كل يوم يضيف إلى عمره يوم جديد ، إلى أن صار شاباً يملأ الدنيا ، ماذا ستصير حياتي أنا وأمه من بعده . لم تتحمل ناديه كلمات الأب ، أطلقت ساقيها مبتعدة ، لحقها رشاد ورمزي ، عادت إلى شقتها ، بالكاد وصلت لفراشها ، ثم الانهيار الذي يعقب الزلزال ، لم يجدا أمامهما سوى استدعاء الطبيب ، أخلدت لنوم تتخلله كآبة الموت على أثر الحقنة المخدرة .
مكث رشاد ورمزي في الحجرة المجاورة لها يخيم عليهما حزن صامت ، عرفا سليم الفتى الطيب الذي أحب نادية ، شاهدا قلبه في عينيها ، قلب جميل صاف كاللبن الحليب. من الذي جرؤ واغتال هذا القلب الطفل ، في المستشفى علما من أسرته أن سيارة مسرعة صدمته أمام منزله ، نقل للمستشفى وهو فاقد الوعي ، فتح عينيه لثوان معدودة في المستشفى ، بصوت هامس طلب من الممرضة التي كانت تقف بجواره أن تتصل بناديه ثم أغلق عينيه للأبد .
انسابت من عيني رمزي دمعات حزينة وقال وهو يجففها بكمه .
_ سليم كان شاباً طيباً رحمه الله .
قال رشاد وهو يجفف بكمه قطرات عينيه مقتديا بصديقه رمزي :
_ سليم انتقل لدار الخلود ، لكن المشكلة في أختي ناديه ، ستشعر بطعم الموت وهي لا تزال على قيد الحياة .
********
لو قالوا لحامد النجار أن الجبال تنتقل وتسقط في البحار لصدق ، لكن أن يُفتح الباب فجأة ويرى امرأة متشحة بالسواد تقتحم عليه مكتبه وخلفها الجوكر مهرولاً فهذا لا يصدق ، خاصة لو كانت هذه المرأة هي ناديه . وقفت تجلده بنظراتها ، نظر إلى الجوكر الذي تحول لكتلة من الفضول وأشار بيده ليغادر المكتب ، انسحب الجوكر لكن الفضول لم يغادر كيانه فوقف متصنتا خلف الباب . حدق حامد النجار في عينيها وكأنه يدفع عن نفسه مزيداً من السياط ، أشار لها بيده لكي تجلس وهو لا يدري ماذا يفعل . لصقت أذن الجوكر بالباب وأصبحت جزءاًً من خشبه لكنه لم يستمع لشيء . غفلته صورت له أن ناديه قادمة لتعرض نفسها على حامد النجار فأخذ يتمتم .. يتمنعن وهن الراغبات . لم يكن يعلم أن بحقيبة نادية سلاح ناري كان لسليم يحمله معه دائما ، ألحت عليه حتى أخذته وخبأته خوفا عليه . استيقظت في الصباح بعد عدة ليال تقلبت فيها بين النوم واليقظة بالرغم من الحقن المهدئة ، تتراءى لها صورة حامد النجار وكأنه يطبق بيديه على عنق حبيبها سليم . نهضت من فراشها محاولة التماسك ، أثار هذا التماسك دهشة رشاد وصديقه رمزي الذي أصر أن يكون معه . لم يحاولا أن يسألاها عن سر القوة التي تقمصتها وفضلا الصمت ، لم يعلما أن قرارا اتخذته هو سر هذه القوة ، قرار جنوني لكن لن يبرد نيران قلبها سواه . لا بد من موت حامد النجار بمسدس سليم ، إذا تمكنت منه سيكون الأمر بالنسبة لها وكأنها أعادت الروح لسليم . تذكرت سليم وهو يقول لها ضاحكاً .. كلما فكرت في قرب زواجنا يباغتني إحساس أن القدر الغادر سيحرمني أن أقطف ثمار الحب التي نضجت. كانت تضربه على يده معاتبة وهي تقول ..ولماذا التشاؤم ؟ ، انظر في عيني ، لتعرف كم ستكون ثمار هذا الحب شهية ولذيذة . رحل سليم وهو جائع لقضمة واحدة من ثمارها التي حافظت عليها من أجله ، أقل شيء تفعله أن تحرم من حرمه من هذه الثمار من الحياة نفسها .
لم تأبه لإشارة حامد النجار التي يدعوها فيها للجلوس مرة ثانية ، بأعصاب باردة كالثلج ، فتحت حقيبتها وأخرجت المسدس ووجهته نحو رأسه ، قالت بصوت آت من الموت.
_ هذا مسدس سليم الذي قتلته ومن الواجب أن تموت به .
لم يطرف رمشه ، سنوات طويلة أمضاها في عمل يحتاج لموت القلب ، أجاد عمله تماما ، وهذا يعني أن الموت سبق إلى قلبه وترك له الجسد فقط يعيش به . الأيام علمته وزادت في خبرته ، بأن من كان مثل ناديه قد تكون له القدرة لرفع المسدس في وجه الغير ، لكن أبداً لن يجرؤ الإصبع على الضغط على الزناد ، حتى لو كانت النظرات الملتاعة تملأ عينيها.
تمتم الجوكر وهو منحني ليستكشف ما يحدث من خلال ثقب الباب ، أخرجي رصاصتك وأذهبي أنت وهو إلى الجحيم ، لم يعد يهمني بعد أن تحول من أسد إلى نعجة . انطفأ بريق فجوره ، فقدت مكانتي التي استمدها من هذا الفجور .
نظر حامد النجار إلى فوهة المسدس المصوبة إلى رأسه وإلى عينيها الحزينتين ، تمنى لو تمكن من أن يحتويها بين ذراعيه ويهمس في أذنها ، خففي من حزنك ، في قلبي حب لك لو اطلعت عليه ، لعلمت أنه يرجع الفضل إليه في اخراج شيطان هذا القلب دون رجعة ، ليحل بداخله ملاك الحب والإيمان معا ، بدت فوق شفتيه ابتسامة باكية وقال :
_ لقد قتلت سليم ومن حقك أن تقتليني ، لكن لا بد أن تستمعي لدوافعي إلى قتله فهذا من حقي .
تطايرت جمرات من عينيها شعر بها تحرق وجهه وقالت :
_ إذا فأنت الذي لفقت له تهمة ترويج الأفلام المخلة بالآداب أيضا .
قال النجار وفي عينيه نظرة لم تفهمها :
_ وأنا الذي لفقت له هذه التهمة أيضا ، ومن حقي أيضا قبل أن تقتليني أن تستمعي للدافع .
سألت ناديه وفي عينيها خشية الإجابة :
_ هل اشترك أخي خالد في هاتين الجريمتين ؟
أجاب حامد والشك في عينيه
_ اطمئني ، أخوك خالد ليس له أي دور.
قالت ناديه والمسدس يهتز بيده :
_ إذا فأنت تعترف بجريمتك !!
أجاب النجار وفي عينيه لمحة صدق أثارت انتباهها :
_ لا بد من الاعتراف ، أنت أصدرت حكمك مقدما وأتيت للانتقام ، فحتى لو أقسمت بأنني لا أعلم عن أي شيء تتحدثين لما صدقت ، وستصرين على ازهاق روحي .
قالت ناديه والشك يلاعب نبراتها واليد المرتعشة تزداد ارتعاشا:
_ خوفك يدفعك للمراوغة ، أليس كذلك ؟ لكنك لن تنجو من يدي .
قال النجار وفي عينيه نظرة صادقة وجادة زادت من دهشتها :
_ لو كنت متأكدة من اتهامك سلميني هذا المسدس ، وأقسم بأني سأدع يدي هي التي تفرغه في رأسي ولا تعرضي نفسك للعقاب .. نهض النجار واقفا ، دار حول المكتب ، اقترب منها ، أمسك بالمسدس ببساطة وفتح حقيبتها ووضعه بها ثم أغلقها . دفعها برقة لتجلس على المقعد وقد تغيرت قسمات وجهه تماما ، لأول مرة ترسم لوجهه صورة غير التي اعتادت أن ترسمها .
تململ الجوكر في وقفته وهو يردد اقتليه أيتها الجبانة وخلصينا من هذا الأسد الذي استأنس فجأة .
قالت ناديه وبعض الهدوء بدأ يشوب صوتها :
_ هل لك أن تخبرني من الذي له مصلحة في قتل سليم والتخلص منه غيرك ؟
_ كان من الممكن أن يكون كلامك صادقا لو عدنا بالزمن قليلا للوراء ، لكن الآن لا أعتقد أن لي مصلحة في التخلص من سليم أو غيره .
لاحقت عيناها المندهشة حركاته وقسماته وهي تتأمله ونداء يلح في داخلها بأنه صادق وقالت:
_ وما الذي حدث في هذه الفترة القصيرة ليغير منك .
_ من فضلك دعيني احتفظ بالإجابة لنفسي ، لأنها ستدينني أكثر أمام عينيك ، وقد تعتبرينه نوعا من استغلال موقف في وقت لا يسمح بهذا الاستغلال . لكن أؤكد لك بأنني لأول مرة أعرف بموضوع هاتين الجريمتين ، وعندما أقدم الفاعل للعدالة في وقت أقرب مما ستتصورين ، ستعلمين بأنني كنت صادقا في كل كلمة قلتها.
نهضت ناديه وبعض من صدقه انتقل إليها ، نهض النجار وصافحها وهو يقول ونبرة من الحزن لها رنة الحقيقة .
_ اقبلي عزائي ، وكما وعدتك ستعلمين قريبا بتقديم الفاعل للعدالة .
غادرت ناديه مكتب النجار وهي تتساءل عن سر غضبها الذي تبخر أمام كلماته القليلة.
إلى اللقاء مع الحلقة القادمة؛
إدوارد فيلبس جرجس
*********************
أخبار متعلقة :