مظاهرة أمام دكان بيع شرائط الفيديو الذي يمتلكه سليم . كان يجلس أمام الدكان مع فاضل الحلاق ، بعد أن أستأنس به ، أصبحا في حكم الأصدقاء بالرغم من تفاوت المسافة بينهما من حيث الثقافة والوضع الاجتماعي . الإخلاص الذي أبداه فاضل نحوه ، ونصائحه التي كانت سببا في اندفاعه بجرأة نحو ناديه ، أذابت كل شيء وقربتهما من بعضهما . كان يحلو لسليم أن يسترجع مع فاضل قصته منذ اللحظة الأولى مع ناديه ، ليس لديه مانع أن يكررها كل يوم . أحب سليم فيه الإنصات وتشجيعه الدائم لكي يفضفض عما بداخله ، كثيرا ما كان يقطع حديثه وينظر بامتنان نحو فاضل قائلا :
_ كم يهون حديثك معي يا فاضل احتمال البعد عن ناديه ، لن أنسى تشجيعك لي في بداية الطريق ، عندما كان التردد والخوف يجمحان بي حتى لا أقترب منها .
.. قال فاضل مازحا :
_ غدا يضمكما العش ولا تحتاج لفاضل ولا وجهه ، فأنهم يقولون من لقى أحبابه نسى أصحابه
قال سليم وهو يرد لفاضل مزاحه :
_ وأيضا يقولون لا تهون العشرة إلا على الخسيس ، فهل تعلم في طبعي الخسة يا فاضل .
_ استغفر الله يا أستاذ سليم .. لم تخرج جعبتك سوى الأصالة ولو أنني عاتب عليك أشد العتاب .
_ ولماذا العتاب يا صديقي .
أجاب فاضل ضاحكاً :
_ عتاب مر يا أستاذ سليم فأنت ترفض أن تسلمني رأسك ، لأبرز مهارتي في قص شعرك ، كما أبرزت مهارتي في دفعك نحو ناديه .
قال سليم مقهقها :
_ دعك من رأسي وقص شعري ، فقد أذهب يوما للشرطة أشكوك على إفساده ، وأخسر صداقتي لك .
قبل أن تنتهي ضحكاتهم ، كانت عربة للشرطة تقف أمام الدكان وكأن الأرض انشقت وأخرجتها ، وقبل أن أن يفيقا اندفع منها ثلة من المخبرين نحو محل سليم ، تقدم الضابط الذي يرافقهم وهو يهتز كالطاووس وكأن الشرطة لم تنتج سواه ، نظر نحوهما قائلا وهو يمضغ كلماته .
_ من منكما المدعو سليم ؟
أجاب سليم وهو ينظر إليه بعدم اهتمام خفف من انتفاشه :
_ أنا المدعو سليم .
قال الضابط وكأنه يسمع قطعة من المحفوظات :
_ معي أمر من النيابة بتفتيش دكانك ، بناء على شكوى من الشارع بأنك تتاجر في الأفلام الممنوعة .
قال سليم ممتعضا :
_ أعتقد أن رجالك يقومون بمهمتهم في التفتيش ، حتى قبل أن أعرف سبب هجومكم الذي يشبه ما يحدث في أفلام السينما .
.. قال الضابط وكأنه كان متأكداً من أن التفتيش سيسفر عن ممنوعات :
_ يؤدون واجبهم ، واستعد لمرافقتنا إذا ثبتت صحة الشكوى
_ أعتقد أنكم ستعودون بخفي حنين يا حضرة الضابط .
هز الضابط رأسه بثقة وقد خرج المخبرون يتقدمهم زعيمهم ، يرفع رأسه عاليا وفي يده بضع من شرائط الفيديو وقال وفي عينيه نظرة شيطانية .
_ وجدنا هذه الشرائط مخبأة في دولاب بالداخل يا باشا .
أمسك الضابط بالشرائط ، ونظر إلى سليم بنظرة شامتة وقال :
_ صور لنساء عاريات على غلاف الشرائط ، فماذا تظن بداخلهم ، صورا لأناس يؤدون فريضة الصلاة ؟
نظرات ذهول تناقلت بين أعين سليم وفاضل ، صرخ سليم صائحا .. من الذي وكل إليك القيام بهذا الملعوب يا حضرة الضابط ؟ قبل أن يصيح سليم بكلمة أخرى وبإشارة من الضابط ، دفع المخبرون سليم داخل سيارة الشرطة ، شقت طريقها مسرعة ، بين صيحات الغضب من المظاهرة التي تجمعت أمام الدكان من سكان الشارع ، يعلمون جيدا أن سليم بريء من هذه التهمة .
**********
لم يصدق رشاد ما رواه له رمزي ، لم يصدق أن رمزي دخل إلى عرين الأسد كما يقولون وخرج حرا يسير على قدميه ، حامد النجار بكل سطوته واسمه الذي ترتعب له الصخور . ترك لهما حرية زيارته في مكتبه ، لم يستوعب شيئاً من القصة ، ماذا يريد منهما !! لو كان الأمر شرا فلماذا أطلق رمزي ، كان من السهل أن يفك رباط فمه في دقائق معدودة . رجال أصلب من الصلب انفكت عقدة لسانهم بعد دخول المعتقل بدقائق معدودة ، لمجرد استعراض بسيط لزبانية حامد النجار ، ما قصده منهما ؟ . دلف رشاد من باب مكتب حامد النجار يسبقه رمزي ، صدر رمزي أمامه ، سبق له دخول العرين ، حاول ألا يزيد من رجفة قلبه بالنظر في اتجاه حامد ، شغل نفسه بتأمل فخامة الحجرة وأثاثها والسجادة التي شعر بطراوتها تحت قدميه . في لمحة بسيطة اكتسح حامد كل ملامح رشاد ، لو أزال لحيته لوضح التشابه الشديد بينه وبين ناديه ، خاصة العينين ونظرتهما التي تعلن الاستهانة بالرغم من دقات القلب المرتجفة . ابتسم حامد النجار ، أشار لهما بالجلوس ، جلس رمزي ببساطة ، اعتاد المكان وهذه الزيارة هي الثانية . نظر حامد نحو رشاد محاولا أن يضع ابتسامة عفوية فوق شفتيه لتقلل من هيبة رشاد وقال :
_ هل أنت رشاد ؟
هز رشاد رأسه عدة مرات دون أن يسمع له صوت :
سأل حامد مع ابتسامة :
_ ألم تخش الحضور ؟
أجاب رشاد ببساطة غطت على خوفه :
_ فكرت في الأمر ووجدت أنه من الأفضل أن أحضر ، لأني أعلم أني لن أستطيع الذهاب بعيدا عن يدكم .
_ كان يمكنك عدم الحضور ، وهذا ما قلته لصديقك .
قال رشاد وابتسامة انفرجت لها شفتاه .
_ أحيانا الفضول يكون له دور كبير ، وبصراحة فضولي هو الذي أحضرني .
.. قال حامد متبسطاً :
_ ومن أجل فضولك ، أحب أن أطمئنك بأن ما دفعني لاستدعائك هو الفضول أيضا :
بدت الدهشة في وجه رشاد وقبل أن يسأل سؤاله أردف حامد :
_ نعم .. الفضول .. سمعت عن تدينك ودهشت له ، كيف شذذت عن سكان قصر الكومي؟
أربد وجه رشاد لما في تلميحة حامد وقال مسرعاً :
_ أختي ناديه أيضا شذت عن سكانه .
_ أنا أعلم هذا ، ولم أكن أقصد مضايقتك بقولي ، لكن فقط أريد أن أستمع إلى الدوافع التي جعلتك تسلك الطريق الصحيح.
تكاثرت الدهشة فوق وجه رشاد متمتما في داخله .. كيف تتكلم عن الطريق الصحيح وأنا أعلم أنك لم تقترب منه أبدا؟! لكنه أجاب بحكمة :
_ الإنسان يولد مسيراً ، لكن عندما يعي للدنيا يصبح مخيراً ، وهذا ما حدث معي بالضبط .
سأل حامد مازحاً :
_كيف تطلق لحيتك ويكون رمزي المسيحي أقرب صديق إلى قلبك ؟..
قال رشاد والصدق في نبراته .
_ رمزي ليس بصديق ، لكنه أخ عزيز نشأنا وتربينا معا ، نقتسم الحلوة والمرة معا ، وليس في إطلاق اللحية ما يعيب ، ليس كل من يطلق لحيته متطرفاً .
_ هل تنتمي لجماعة معينة يا رشاد ؟ سأل حامد ثم أردف مسرعا .. من حقك ألا تجيب ، هذا ليس استجواباً ، وما تخبرني به الآن سأنساه فور مغادرتك المكتب .
هز رشاد رأسه نفيا ثم قال :
_ لا أنتمي لأي جماعة ، ولم أفكر في هذا مطلقاً ، وما يستعصي علىّ فهمه في الدين ، أسأل فيه شيخنا الفاضل نديم ، ثم نظر إلى رمزي وأكمل ضاحكا .. وأحيانا شيخ النصارى الأب يعقوب ، وهذا ما يفعله رمزي تماما ، فكثيرا ما يأتي معي للشيخ نديم ، وبينهما صداقة .
ضحك حامد النجار وقال :
_ تقتسمان فيما بينكما الشيخ نديم وشيخ النصارى الأب يعقوب .. ماذا يدور في رأسيكما بالضبط !
تبادل رشاد ورمزي ابتسامة من الود وقال رشاد :
_ نحلم أن ننشىء مبنى كبير يعلوه من جهة مئذنة مسجد ، ومن الجهة الأخرى منارة كنيسة ، وبينهما مكان يجتمع فيه المصلون من الجهتين ، في جلسة حب بعيدة كل البعد عما كان يفعله كل واحد في جهته .
قال النجار بإعجاب حقيقي :
_ عظيم أن تكون سنواتكما القليلة في الحياة تحمل هذه الأفكار .
قال رمزي ببساطة :
_ أعتقد أنه التفكير العادي لما يجب أن نكون عليه .
نظر حامد النجار إلى رشاد ووجهه ينطق بالجد وقال:
_ هل يمكن أن تأخذني للشيخ نديم ؟
أجاب رشاد وقد فارقته الهيبة :
_ ولشيخ النصارى أيضا لو أردت .
_ ولما لا .. قال حامد النجار وهو ينظر مبتسماً نحو رمزي ، ثم أردف ، تأكدا أن لكما إعجابا خاصا في نفسي ، لكن لي رجاء خاص ، ألا تخبرا أي مخلوق بما يحدث بيني وبينكما ، مهما كانت درجة قرابته لكما ، فهل تعداني بذلك ؟
قال رشاد ورمزي معا :
_ لقد اعتدنا ألا تنطق ألسنتنا بما لا يجب النطق به .
_ تفضلا واخبراني بالهاتف عن الميعاد الذي ستحددانه مع الشيخ نديم .
قال رمزي :
_ الشيخ نديم لا يحتاج لميعاد مسبق ، بابه مفتوح دائما ، لكن لو أردت أن تكون المقابلة بموعد فليس هناك مشكلة .
_ حسنا حددا الموعد واخبراني به .
انصرف رشاد ورمزي ، لا يصدقان بأن من كان يحادثهما بهذه البساطة والمودة هو حامد النجار بشحمه ولحمه .
********
لهجة نادية شديدة وعصبية ، في محادثة مع أخيها خالد عبر الهاتف ، متهمة إياه بأن له ضلع في القبض على سليم بتهمة ترويج أفلام مخلة بالآداب ، أقسم خالد بأنه لا يدري عن ماذا تتحدث ، سارع بالذهاب إليها ، تلقته بوجه عابس قائلة :
_ ألن تكف عن هذه الأعمال التي تحط من شأنك ؟
قال خالد مدافعاً عن نفسه :
_ لقد أقسمت لك في الهاتف بأنني لا أعلم عن ماذا تتحدثين .
قالت ناديه مصرة على اتهامها :
_ أتحدث عن تلفيق تهمة باطلة لسليم خطيبي من أجل إظهار ولائك لرئيسك حامد النجار .
دهشة صادقة بدت فوق وجه خالد وقال :
_ سليم خطيبك ؟ أنني لا أعرف من تسمينه ب "سليم" ، هذه هي المرة الأولى التي أعلم بأنك مخطوبة .. كيف تتم خطوبتك ونحن عائلتك لا نعلم؟
ألهاها خبر القبض على سليم ، نسيت بأن أمر خطوبتها لم يخرج عن دائرة رشاد ورمزي صديقه ، تداركت سريعا قائلة:
_ أنها ليست خطوبة رسمية ، مجرد ارتباط ، كنت أنوي إخباركم في أقرب فرصة ، لا تدع هذا يخرجنا عن لب الموضوع ، لماذا لفقتم هذه التهمة الباطلة والحقيرة لهذا الإنسان المحترم ؟
قال خالد محتجاً :
_ هل لا تصدقين بأنني لا أعلم عن هذا الموضوع أي شيء ؟! هل أذهب إلى الشرفة وأصيح بأعلى صوتي بأنني بريء مما ترميني به؟ .
قالت ناديه وهي لا تزال في شكها :
_ لا داعي لأن تفعل هذا .. لكن أفعل شيئا من أجل أختك ، سواء كان لك ضلعا أم لا ، اسمعني خبر عودة سليم إلى منزله دون أي اتهام لأنني واثقة من براءته ، أعرفه تمام المعرفة ، وإلا ما فكرت في الارتباط به لحظة واحدة .
_ ثقي بأنني سأذهب من فوري لأُفرج عن سليم ، مهما كلفني هذا ، حتى لو كان حامد النجار نفسه هو المدبر لهذه المسألة ولا تنسي بأنك أختي أولا وأخيرا .
_ أود أن أصدقك .. قالت ناديه وهي تنظر إلى وجهه في عدم ثقة .
_ صدقيني ، ولكي أنزع من رأسك فكرة أنني أتاجر بك في سوق حامد النجار، سأخبرك بما كنت سأصارحك به ، لو لم تخبريني عن ارتباطك بسليم .
سألت نادية :
_ وما الذي كنت تنوي إخباري به؟.
قال خالد وهو يجول بوجهها ليرى وقع كلماته :
_ كنت أنوي أن أصارحك بأن وائل صديقي ، متيما بك ويلح علىَّ دائما أن أفاتحك إن كنت تقبلي الزواج منه .
نغمة السخرية صاحبت ضحكتها وقالت :
_ ومن أجل هذا بادر لانتظاري بالمطار ، وأشنف أذني بتعليقاته المستظرفة داخل السيارة .. أردفت وهي تنظر نحو خالد بحزم .. المتاجرة بي في سوق حامد النجار أهون عندي من ارتباطي بهذا الوائل ، الذي لا يعرف عن الشرف حتى حروفه .
ابتلع خالد الإهانة الموجهة لصديقه والتي يعلم أنها موجهة له أيضاً ، أظهر ابتسامة مغتصبة وقال :
_ تأكدي أن أمره لا يهمني وخاصة فيما يتعلق بك ، أنت حرة في اختيار شريك حياتك ، ولكي أثبت لك ذلك ، هاتفي سليم بعد ساعتين على الأكثر ، ستجدينه هو الذي يجيبك .
_ أرجو هذا يا خالد ، فأنت أخي الأكبر ، ولا أريد لصورتك أن تسوء أكثر من ذلك .
إدوارد فيلبس جرجس
**********************
أخبار متعلقة :