"لقد سمحت لنفسي أن أنصح الآخرين بالرحلة"
*Andre gide
الرحلة هي الانتقال من مكان ألي مكان .وهي بحث مستمر عن المعرفة ومحاوله مستمره لاستكشاف الابعاد المعرفية لعالم الرحالة والرحلة مجازا وهي الزمن الذي يستغرقه ذلك الانتقال. وفي ألأدب نجد رحلات تعبر بنا حاجز الزمن فنرحل مع خيال الكاتب الي الماضي .أو الي المستقبل وعبر الزمن كان الانسان – ولا يزال شغوفا بالرحلات وبالانتقال من مكان الي اخر باحثا عن مصادر رزقه . وفي ابسط صور الرحلات عبر التاريخ . كان التجوال بحثا عن معاني الحياة والوجود خاصة عندما يستقر الحال بالانسان في مجتمعات ارقي.
الرحلة والاسطورة
يربط الفكر الاسطوري حركة الحياة بحركة الآلهة . لكل ما يجري علي مسرح الكون . ومنذ عصر الاساطير في الشرق والغرب . نجد البطل يرحل من مكان إلي مكان ليصل الي هدف محدد . او يصل الي الاستنارة بشكل ما .... ومن الشائع عبر تلك الاساطير ان يجد البطل الاسطوري عوائق ماديه ينبغي عليه ان يذللها . وينتصر عليها في النهايه . مثل اسطورة (جلجامش Gilgamesh) في بلاد النهرين ورحلته الي غابة الارز بحثا عن نبتة الخلود والتصدي للوحش وقتله . ورحلة (آوليس Ulysses) في الياذة الشاعر ( هوميروس homer) وما واجهه من تحديات تغلب عليها في النهايه .
أهمية الرحلة
من السحر رؤية الذات مقروءة في الاخر . والسفر يصنع المسافة في اللغه والجغرافيا . وهي تتيح للرحاله التصدي للعالم الخارجي والعيش في حالة المواجهه بين حاله نمطيه معينه وحياة مغايرة تتصف بالغرابه كما تتيح لها في الوقت عينه محاولة استكشاف الذات في مقابلة الاخر ويقول (ابن خلدون) : "لابد من الرحلة في طلب العلم واكتساب الفوئد والكمال " اما الكاتب (احمد حسن الزيات) فيقول : "الرحله سبيل من سبل المعرفه وفي الامثال : من يعيش يرى كثيرا ومن يمشي يرى اكثر وفي الزمن القديم كانت الرحله وحدها متصل الفكر بالفكر وملتقي المتعلم بالعلم وفي تارخ الادب كانت الرحله موردا ثرا جنينا من ثمارة طائفه من عيون الكتب في وصف البلاد وطبائع الشعوب تراجم الرجال وغرائب العادات وعجائب الكائنات"!.. وتمثل الرحلة كانت بريه اوبحريه او جويه في المفهوم العام إنجازاً او فعلاً فرديا او جماعيا لما يعنيه اختراق حاجز المسافة واسقاط الفاصل بين المكان والمكان الاخر ويأتي هذا الإنجاز من أجل هدف معين يجاوب ارادة الانسان وحركة الحياه علي الارض بشكل مباشر وغير مباشر .
والرحله مشروع انساني يحمل في طياته قضايا الانسان ومشكلاته وقيمة وضروب نشاطة وهي فضلاً عن ذلك صلة بين الثقافات وآداة تفاعل حضاري. وقد تكون الرحله هوايه تشبع حاجة في نفس الانسان وترضيه وقد تكون احترافا يخدم حاجة عند الانسان ومن المسلم به ان المعرفة الجغرافية كانت حافزا وراء الرحله وتحريكها منذ القدم وتعبر الرحله عامة عن رغبه عميقه في التغيير متوازيه مع الحاجة الي تجارب جديدة اكثر من تعبيرها في الواقع عن تغير مكاني . ولاشك في ان الرحله الواقعية التي يقوم بها صاحبها فعلان هي الاصل في ادب الرحلات وقد كتب أندريه جيد كتابا كاملا يتسم بالجراة المدبره تمجيدا لجمال الرحلة!...
الرحلة في الزمن القديم
الانسان جزء من الطبيعة وما يصدق علي الطبيعة يصدق علي الفرد وبخروج الرحالة القديم من ديار قبيلته او جماعته وابتعادة عن حدودها تبدأ الرحلة الحقيقية .
ومع مرور الزمن صارت الرحلة جزءاً من حياة الناس سواء في ذلك الرحلة عبر المكان او الرحله عبر الزمان التي تتمثل في مراحل العمر ودورة الحياة .
وقد كان للكنعانيين ( الفينيقيين) سكان الساحل السورى رحلا بحريه كبيرة خاضوا فيها عباب البحر المتوسط والمحيط الاطلنطي ووصلت مراكبهم الي الجزر البريطانيه واقامو مستوطنات ومراكز تجاريه لهم علي شواطئ البحر المتوسط حتي ليظن ان فيهم من وصل الي القارة الامريكيه قبل ان يكتشفها ( كولومبس Columbus ) وخلفهم الاغريق الذين عنوا عنايه واسعة بوصف البلدان التي زاروها وقدموا لها الكثير من المعارف الجغرافية وهم اول من قال بكروية الارض بأن وراء البحار والمحيطات عوالم مسكونه .
الرحله في العصور الوسطي
تحدد العسور الوسطي في اطارها الزمني بين عامي (476م) بسقوط مدينه روما بيد البرابرة . وعام (1492م) باكشاف القارة الامريكيه او العالم الجديد.
وقد كان تجار المدن الايطاليه والتجار العرب يجوبون البحار ويقومون بالرحلات البريه والبحريه فمن أروبا آتجه ( ماركو بولو Marco polo) (1254-1325م) شرقا إلى بلاد الصين وهو الاوروبي الاول الذي وصف الصين والطرق اليها علي نحو شيق شكل بدايه في ادب الرحلات الاوروبي وطبع بالسحر خيال أوروبا والمغامرين عن الشرق عموما وبعد غياب (35)عاما عاد ماركو بولو الي مسقط رأسه ( مدينة البندقيه) في ايطاليا .وقد صدرت مشاهداته في الشرق في كتاب باسم (كتاب كوبلاي خان العظيم) أما عند العرب فقط كانت الرحله عنصرا قويا في حياة المجتمع فقد رحل كثيرون لزيارة الاماكن المقدسه ورحل كثيرون في طلب العلم او في سيبل الاتجار والساعين في طلب الرزق وقد دون كثيرون من السياح العرب اخبار اسفارهم فذكروا المدن التي هبطوها والصعوبات التي تغلبوا عليها ووصفو البلدان والسكان والاثار والعادات والتقليد وغيرها .
واتخذت الرحلات السياحيه طابعا جم الحيويه وابتدعت شخصية ( السندباد البحري ) وسافر العرب في بلاد بعيدة كبلاد البلغار وشرقي أوروبا والهند والصين وقام ( أبن فضلان)برحله ألي بلاد البلغار عام (921م) كما تنقل الطبيب ( أبو الحسن بن بطلان )بين بغداد وحلب وأنطاكيه واللاذقيه والقسطنطينيه ومصر وتوفي في أحد ألاديره في أنطاكيه عام (1066م) .
وبقي (ابن بطوطه ) علامه مميزة في تاريخ الرحلات والسياحة فقد طاف في العالم الواسع في مشارق الارض ومغاربها خلال زهاء ربع قرن ( 1325-1353م) وقد دون اخبار رحلاته في الكتاب المعروف باسم (تحفة النظار ... )!...
الرحلة في العصور الحديثه.
بدأت العصور الحديثه باكتشاف العالم الجديد عام(1492م) ولم يكن ذلك العالم لحظة طارئة في التاريخ العالمي بقدر ما كان نتاج مقدمات طويله وتعتبر الكشوف الجغرافية الاووبيه نتيجة حتميه للنهضة العلمية و حيوية (عصر النهضة الاوروبيه Renaissance )وأزمة التجارة التي حال الاتراك العثمانيون دون توسعها وازدهارها بعد احتلالهم لمدينه القسطنطينية عام (1453م) واسقاط الامبراطوريه البيزنطيه وعلي الرغم من الصعوبات والمخاطر فقد قدم الي البلدان العريبه عدد كبير من الرحاله و العلماء والادباء والمستشرقين امثال (بوكوك وموندريل وفولني وبورتون ورينان) وغيرهم وقد كتبها هؤلاء عن المناطق التي زاروها وعن طبيعتها واثارها وعادات سكانها وتقاليدهم.
وقد ازدادت الصلات بين الشرق والغرب خاصة بعد افتتاح قناه السويس عام( 1869م) وكان رفاعه الطهطاوي من اهم المصريين الذين عاشوا في اوروبا وكتبوا عنها فقد كان طالبا مبعوثاً للدراسه في فرنسا وقد دون مشاهداته وانطباعاته عنها في كتابه (تخليص الابريز في تلخيص باريس) ، واما الرحاله الكبير (امين الريحاني) المولود في لبنان عام( 1876م) فقد طاف في البلدان العربيه في اصعب اسباب التنقل و اتصل بالملوك والرؤساء العرب والشعوب ،يعرف بعضها على البعض الاخر، ويمهد سبل التفاهم بينها وهو الذي روي باسلوب روائي سلس ومرح حكايه اسفاره الطويله في بلاد العرب يوم كانت لا تربط بينها اي وسيله من وسائل النقل الحديثه، ولعل أمين الريحاني كان اول من اشار الى موارد النفط في البلدان العربيه وكتابه هو (ملوك العرب)
اما عند الاوروبيين فان (اندريه مالرو Andre Malraux) الفرنسي هو اشهر الرحاله الادباء في القرن العشرين ،ونحن نستطيع ان حياته ومؤلفاته مغامرة هذا القرن فقد زار الصين و شبه جزيره العرب والمانيا والاتحاد السوفيتي وعايش الحركات الثوريه في الهند الصينيه والشرق الاقصى واسبانيا ومن اشهر مؤلفاته (قدر الانسان) و(الامل).
وهناك الكاتب الفرنسي الشهير (اندريه جيد Andre Gide) الذي قام برحلات عديده داخل فرنسا وذهب الى ايطاليا خلال عام 1912 وبعد انقضاء عامين على زياره ايطاليا يتوجه الكاتب الى تركيا حيث يقضي شهورا في زيارة مدنها الرئيسة مثل القسطنطينية وبورصة وقونية ويسجل انطباعات في دفاتره اللتي صدرت في كتاب اسمه: (العتبة التركية La Marche Turque ) وقد كتب في أول شهر ايار مايو في عام (1914) وذكر صراحة انه لم يعجب بأي شيء تركيا "ياقرن الذهب...ايها البوسفور . ياشاطيء سكوتاري...إني لا استطيع ان اهب قلبي الي اجمل منظر في العالم اذا لم احب الشعب اللذي يقطنه"!... وقد تذكرت هذا القول وانا اقف علي شاطيء البسفور في 30 ايار/ مايو في عام 2019 ومع تنوع الرحالين تنوعت الرحلات والرحالين في العصر الحديث وهم علي الغالب من الادباء والفنانين والمؤرخين والجغرافيين والمكتشفين والمغامرين والتجار والمبشرين وغيرهم وقد جاءت معظم كتاباتهم سجلا وافيا ودقيقا وعميقا لانطباعاتهم عن المناطق والشعوب اللتي زاروها ومظاهر سلوك الناس وعوائدهم وتقاليدهم الاجتماعيه والسياسيه وتقويما لانجازاتهم في مختلف ميادين الفكر والثقافة ولم تكن مجرد وصف لتفاصيل الرحلة والاحداث العابرة اللتي مروا بها او مرت بهم
وقد مر بالساحل السوري وغيره من المناطق في سوريا وبلدان اخري في الشرق الاوسط خلال القرنين الماضين عدد كبير من الرحالين والمستشرقين الذين أوردوا في كتاباتهم وصفاً للأماكن الاثريه والاماكن الجغرافيه مما أدى لاحقا الي اكتشفات تارخيه كبرئ لمدن وحضارات ظلت في عالم النسيان لآلاف السنين كما ساعدت كتابهم فيما بعد العلماء في ابحاثهم الاثريه والتاريخيه والجغرافيه وهذا مالقي التقدير والاعجاب وجعلنا نستخلص من رحلتهم كل ما يمكن ان يغني معارفنا عن اوطاننا وشعوبنا فكريا وحضاريا !..
أخبار متعلقة :