حول مايدور من حوارات بين أجيال أهل الإبداع والفكر والرأي والصحافة ، توقفت عند حوار أراه ذات دلالة ومعبرًا عن فترة رائعة في تاريخنا في مجالات الإبداع الأدبي بكل أشكاله ورموز منتجيه ، أجري الحوار الكاتب الصحفي عبد العزيز صادق مع المفكر الراحل سلامة موسى لمجلة " الرسالة الجديدة " في عددها الثاني الصادر في شهر مايو 1954 ، وكان يرأس تحريرها الكاتب " يوسف السباعي " وهو في منتصف الثلاثينات من عمره .. قال سلامة معرباً عن رأيه في أدباء العصر بشكل قاطع وحاد " لست أرى فيهم من يستحق لأنهم انفصلوا عن المجتمع الذي نعيشه وأضاف إن الأدب الحي يجب أن يرتبط بالواقع حاملاً همومه" ..
وعندما سأل موسى " هل قرأ لأدباء هذا العصر " قال " قرأت لهم جميعاً ولم أجد فيهم من يستحق أن يقرأ لهم ويتابعهم أولادنا أو حتى أحفادنا بعد عشرة أعوام " .. و عن رأيه في " الأرض " لعبد الرحمن الشرقاوي و" زقاق المدق " لنجيب محفوظ و" أرض النفاق " ليوسف السباعي .. قال عن نجيب محفوظ أن ما يكتب يدل على نبوغ ولكن لا أدري هل سيبقى هذا النبوغ على مقاييس العصر القادم .. ويضيف موسى حين أذكر الأدباء الحاضرين لا يخطر ببالي هؤلاء الذين كانوا صبياناً ( يقصد الشرقاوي ومحفوظ والسباعي ) عندما كنا في سن الأربعين والخمسين ، أما السباعي فأنا أوثر أباه عليه ..
وتحت عنوان " كلام العيال " يرد السباعي في نفس الصفحة التي نُشر فيها الحوار مع سلامة موسى مخاطباً إياه " لقد عايرتني أولاً بصغر السن .. ولست أرى في ذلك عيباً اللهم إذا كان يرى السبق إلى الوجود مدعاة للتفاخر وهو شيء لا فضل له فيه ولا يمكن أن يكون سبباً في المفاضلة فهناك حمير كثيرون أكبر منك .. وهناك حمير أكثر أكبر مني .. ثم توالت ردود الفعل من كتاب مصر في ذلك الحين فيقول العقاد " سلامة موسى .. لا هو أديب .. ولا هو عالم .. إنه لا يعبر إلا عن حقد .. وشعور بالفشل " أما توفيق الحكيم فكان رده " لا تقيموا وزناً لحكم سلامة موسى ، فقد انقطع عن القراءة منذ ربع قرن " .. ويصف كامل الشناوي سلامة موسى قائلاً " إنه حاقد موهوب .. يعبر بسهولة عن آراء غيره .. ولا يعرف من الأدب إلا عناوين الكتب وأسماء الأدباء " ..
إنني لا أذكر هذه المعركة الأدبية لأتناول قضية صراع الأجيال ، ولا لأدلل على أن التنابز بالألفاظ ليست صناعة حديثة بل لها جذور في تاريخ حافل بالملاسنات ، ولا لكي أشير إلى أنه في أحيان كثيرة لا يتنبه المجتمع للبدايات العبقرية لبعض المبدعين مهما بلغ حجم إنجازاتهم فيسلمهم إلى غياهب النسيان .. وإن كان كل ما ذكرت تشكل ظواهر يجب أن تلفت الانتباه .. إنني في حقيقة الأمر أود الإشارة إلى بعض الدلالات التالية :
أولاً : يتلاحظ بداية أن سلامة موسى وهو المفكر الكبير لا يجد غضاضة ولا يرفض أن يُدلي بحديث لمجلة يرأس تحريرها ويحررها مجموعة من شباب لا يعتد بهم ــ على الأقل من وجهة نظر جيله ــ ويقول أنهم شباب لا يستحق إنتاجهم أن يُقرأ وأنهم في حالة انفصال عن المجتمع .. ورغم أن مجلتهم كانت في أعدادها الأولى وبالتالي فإن تقييم مكانتها أو قبولها لدى النخبة والناس لم يكن معروفاً ومع ذلك فإن سلامة موسى لم يعتبر ذلك انتقاص من قدره أو نيل من اسمه ، إيماناً بمنظور منطقي يعتمد مبدأ أن قيمة الحوار بما يدلي به وما يطرح من آراء ووجهات نظر ولا ينتظر أن تأتي القيمة لما يطرح من الصحيفة التي تنشر فيه .. أذكر قول المرشد العام للإخوان في تعقيبه على حوار معه نشرته إحدى المجلات ، ورد فعله الغاضب ودفاعه الذي لم يتناول تبريراً لما صرح به وأغضب الشارع المصري بقدر ما تركز على أن حديثه لم يكن للنشر في تلك المجلة .. ألا يبدو ذلك عجيباً !!!
ثانياً : رغم ما كان لسلامة موسى من مكانة في مجتمع المثقفين فكانوا ينتظرون دائماً إسهاماته الفكرية والإصلاحية ، إلا أنه عندما أبدى وجهة نظر ظالمة لجيل جديد من المبدعين وبلا منهجية نقدية لم يتردد مجتمع النخبة المثقفة في الإعلان عن الرفض .. ولم يكن هذا الرفض من وجهة نظري لما قاله فقط ولكن أيضاً رفض لوجود " تابوهات " أو بقرات مقدسة يتم عبادتها ولا يمكن الاقتراب منها .. وذلك على عكس ما نشهده الآن عندما تدار حملات صحفية على كاتب كبير للتوقف عند أمور رأى محرروها أنه من الهام أن يراجع الكاتب الكبير نفسه فيها ، فتبادر بعض الأقلام رافضة الاقتراب بأي شكل من ذلك " التابوه " العتيد ، فما يقول يجب ألا يُناقش باعتبار ذلك من المحرمات التي لا يجب الاقتراب منها !!
ثالثاً : إن من وصفهم سلامة موسى بأنهم صبيان رغم إنتاجهم الهام والمبشر الذي ذكرنا جانباً منه لم يفقدهم ثقتهم بموهبتهم ، وأيضاً لم يدفعهم لتسفيه واحتقار كل إبداعات الأجيال السابقة لإظهار مدى ما أبدعوه .. بينما في عصرنا الحالي ينبري المطرب الهضبة ليشن هجوماً عنيفاً على الطرب القديم ويسأل في غطرسة وتعالي: من هو عبد الحليم حافظ ، أليس هو من غنى للسد العالي وكأن الغناء لإنجاز وطني وصمة عار على جبين المطرب ، ويواصل هجومه في غرابة هل هناك مطرب في الدنيا يغني للسد العالي ؟ .. وأنا بدوري أسأل المطرب العبقري .. إذا كنا لن نتغنى ونهتف ونفرح بإنجازات شعبنا فبماذا نتغنى إذاً يا مطرب العذارى المتيمات بقفزاتك الجهنمية على المسرح مرتدياً زي رياضي أقرب إلى زي الملاكمين أو المصارعين وقد استحالت خشبة المسرح إلى حلبة ملاكمة يعتليها لاعب وحيد قرر الابتعاد عن أفراح الوطن أو حتى همومه وأحزانه !!
رابعاً : من دلالات ذلك الحدث ما كانت تشهده الساحة من مناقشات لقضايا فكرية وثقافية ، كان ينشغل بها الشارع ولا يتخلف عن المشاركة كل صاحب رأي .. كما يتبين لنا كيف كانت تُمنح الفرصة لشباب المبدعين لتقلد المناصب الصحفية الكبيرة لتحفيزهم على الإبداع والإنتاج وتقديم الجديد .. وصدق "جراهام جرين " حين قال " حتماً ، ستأتي لحظة من الزمان ينفتح فيها الباب ليسمح للمستقبل بالدخول " ..
أخيراً فإنني أرى ضرورة السعي لإحداث تواصل دائم وانتقال تدريجي لشباب المبدعين للظهور اللائق على الساحة ، فبلادنا عامرة بالكفاءات ولابد أن يتواصل الحوار بين الأجيال حتى لو كان أعمار بعضهم من أعمار الحمير ! ..
أخبار متعلقة :