بعد ثلاث سنوات من دخولي كلية الآداب في الجامعة الأردنية، لفت انتباهي شاب يترقب وصولي كل يوم للجامعة، ويُشيعني بنظراته عندما أغادر. كان شابًا وسيمًا لكنه يعرج قليلًا، فأثارفضولي باستقصاء أحواله فعرفت أنه طالب دكتوراة في الأدب الإنجليزي، ويسكن في سكن الطلاب في شارع الجامعة. أعجبني وضعه. وحدّثت نفسي بعد طول تفكير، خلع ولادة أو حادث ما قصّر ساقه اليمنى عناليسرى لا يهم (هو أنا بدي إياه يسابق بالأولمبياد).سمحت له بالاقتراب مني. وقلت له اسمي سلمى سنة ثالثة أدب عربي. أسكن مع أهلي في ضاحية الرشيد. قريب من هنا. قال: اسمي أحمد علي، أعدُّ رسالة الدكتوراه عن الفردوس المفقود للشاعر الإنجليزي جون ملتون.شربنا الشاي معًا في مقصف الجامعة، وجلستُ معه على رصيف شارع اللغات. وعرفتُ أن أهله يعيشون في السعودية، وأنه وحيد هنا. وأن الدكتور محمد شاهين يُشرف على رسالته.قلت لنفسي. هذا أفضل سيجد في صدري مُتسعًا لحنان يُعوضه غربته.لكنه لم يشعر بما أفكر به. ولم يُبادر للإفصاح عن مشاعره.تجاهلته "طنّشته" بضعة أيام، فعاد لعادته القديمة بملاحقتي. هل يستمتع بمراقبتي، ولا يستمتع بمرافقتي؟
لم يكن عندي مشكلة أن أبادر بالتواصل معه من جديد، وقررتُ أن أكون صريحة معه.قلت له: ما قصتك يا أحمد عندما أقترب منك تبتعد. وعندما أبتعد تعود لملاحقتي؟ تلجلج لسانه قليلًا ثم قال: المشكلة أني مرتبط بعشق أريد الفكاك منه. وقد وجدت فيك شيئًا من تلك الفتاة التي قطعت علاقتها معي... ضحكت: يعني أنا "مُعلمة بديلة" إذا رجعت الأصيلة، ما عاد لي لزوم.سارع بالقول: معاذ الله أن تكوني بديلة لكني أتدربُ على فراق سوسن.قلتُ له: يبدو أنني سأقرأ الفردوس المفقود. تشرّفتُ بمعرفتك. وداعًا.
بعد سنوات طوال رأيته، صدفة، ينتظر دوره في صالة البنك الإسلامي، وكان قد زاد عرجه بعد أن زاد وزنه، واندلق بطنه "كرشه"، صرفتُ الشيك الذي كان بحوزتي، وتوجهتُ إليه بجرأة، وسألته: هل عدت إلى فردوسك المفقود يا دكتور أحمد، غامت عيناه. وصار يُلملم أطراف ذاكرته ليقول شيئًا، لكني تركته حائرًا، ومضيت.
أخبار متعلقة :