نعم ، قدم الإعلام النموذج الناجح في الإلحاح والملاحقة الخبرية للأحداث والصدق في البيانات، ولكن افتقاد الثقافة العلمية المطلوبة لإعداد وتقديم برنامج إعلامي علمي أمر بات يمثل مشكلة .. بداية من الاختيار الخاطئ للضيف بحسن نية في حال الجهل بفرسان تلك العلوم ، أو سوء نية في حال بغية المصلحة التجارية على حساب تفديم مادة تثقف وتنمي و تساعد على إدارة مجتمع يتعرض لمخاطر ..
بكل ثقة واقتدارمزعوم قال الطبيب الشهير وفارس صفحات النجومية الاجتماعية وصاحب وصفات الطب الشعبوي المحبوب من البسطاء لمحدثه ومحاوره النجم الإعلامي على هواء الفضائية الأشهر حول معالجة والتخفيف من آثار أعراض مرض ووباء " كورونا " : " الحكاية بسيطة شوية مياه دافئة .. وبأقول دافئة مش سخنة ولا باردة وعليها ليمون وشوية ملح وتغرغر بربع الكوباية والباقي تشربه بعد ماتكون الغرغرة عالجت احتقان الزور فتكمل العلاج " .. و في تركيبة أخرى افتكسها الطبيب الحاوي تحتوي على نسبة من الكلور أعرب المذيع عن رفضه وقال قصدك " خل " يا دكتور ولكن الدكتور لم يتراجع وقال " أو خل " .. الكلور بنسبة مختلفة بس !!!
إنها الجائحة الملعونة " كورونا " ، فبقدر ما فضحت وكشفت ستر أنظمة دول العالم الأول والعالم الأخير إلى حد تهاوي عروش قواعد العلم الأسطورية أمام فرعنة جناب " الفيروس الكوتوموتو " بالمفردات الشهيرة لللكوميديان الراحل " جورج سيدهم " .. فقد كشفت افتقادنا لمنظومة " إعلام علمي محترم " ووجود المعد المهني المحترف في مجال تقديم المعالجات الإعلامية العلمية لقضايا ترتبط بصحة بدن ونفس المواطن ..
والأمثلة الفاشلة والخطيرة كثيرة فيما تم تقديمه من برامج وفقرات لتغطية وتوعية القارئ والمستمع والمشاهد الذي تفرغ خلف ابواب محبسه الاضطراري ليتابع كل جديد ومفيد في أمور التعامل والمواجهة مع كارثة ذلك الفيروس الشرش السريع الانتشار والقاتل وفق نداءات عاجلة ونظم عادلة دون تمييز طبقي أو جنسي أو عمري أو عرقي أو ايديولوجي أو عقائدي ..
لاشك إن توفر الثقافة العلمية لدى الأفراد يوفر لهم القدرة على التفكير المنطقي في مختلف الأمور التي تواجههم، ويساعدهم على حل بعض المشاكل التي قد تعترضهم، كما تجعلهم يتسمون بالعقلية الرقمية التي تدفعهم إلى استخدام الأرقام في عرض آرائهم، وتجنب الأساليب الخطابية المرسلة، كما توفر لهم الثقافية العلمية استخدام المصطلحات العلمية السليمة. وتفعيل التفكير في تحقيق الأهداف، وتحول الفرد – إذا جاز التشبيه – من لاعب طاولة إلى لاعب شطرنج، أي من ممارسة حياتية بطريقة عشوائية تعتمد على الحظ والصدفة إلى التفاعل مع الأمور الحياتية اعتمادًا على إمعان الفكر.
لا ريب أن الثقافة العلمية ترتقي بفكر الفرد والجماعة بما يؤدي إلى أن المجتمع يصبح مستشعرًا لقدر العلم ومدركًا لمكانة العلماء.
وكل تلك الأمور المتعلقة بتوفير ثقافة علمية نادى بأمرها أهل العلم والمعرفة والتنوير منذ زمن الأوائل ... في كتابه المرشد الأمين للبنات والبنين يؤكد عظيم التويريين " رفاعة رافع الطهطاوي " أن الدراسة هي تمرين العقل على مطالعة عدة علوم ، أو علم واحد منها ، ولما كانت فضيلة التعلم والتعليم والقابلية لذلك مشتركة بين جميع الناس ، لا يستغنى عنها إنسان ، وكان الاحتياج إليها ناشئًا من كراهة النفس للجهل الذي لا يمحوه إلا المواظبة على الاطلاع ، وكثرة الدراسة المستمرة التي يحصل بها التمكن من المعارف البشرية ، وجب على الإنسان أن يتشبث بالعلوم الضرورية له ، كما قال الشاعر :
ما حوى العلم جميعًا أحد لا ولو مارسه ألف سنة
إنما العلم عميق بحره فخذوا من كل شيء أحسنه
والأولى لطالب العلم أن يتشبث بما يلائم الفن الذي يتخذه له فنًا يختص به ، فدراسة العلم في حد ذاتها أفضل ما يشتغل به الإنسان ، وأحلى ما يصرف فيه أوقات حياته ، وأفضل لذات الدنيا ، فلا سرور يوازي سرور العلم ، والاشتغال به يحسن في جميع الأوقات وسني الأعمار وفي جميع الأمكنة والبلدان ، لأن مطالعة الكتب لا يضيق منها صدر الإنسان في مدة عمره ، وفي مبادئ وأواخر أمره ، لأنها تصلح حال الشبان ، وتنفع في حال الكهولة ، وتخفف الآلام ، وتفيد الصبر على نوائب الأيام ، حتى إن الإنسان المنهمك على القراءة لا يذوق طعم الفاقة وإن كان فقيرًا ، وإن كان غنيًا أغلت قيمة غناه وسعادته ، فما كأنها إلا غذاء الأشباح والأرواح في الإمساء والإصباح ، وهي لأهل المدن فكاهة ورفاهة ، ولأهل الريف مشغلة ونباهة ، وفي الأسفار تخفف وعثاء السفر ، كما تلطف أحوال أهل الحضر ، وهي وقاية تحفظ من القلق والوساوس ، وينتصر بها الإنسان على القلق والأرق ، فهي خير واق وحارس ، لأن القلق داء وخيم وصاحبه سقيم ، فهو كالنار يرعى بدن الإنسان ، ولو كان رفيع القدر على الشأن ، فعلاجه النظر في كتاب يزيل الأوجاع عن الألباب ...وإلى هنا انتهى الاقتباس من كلام ورؤى " الطهطاوي " ..
نحن في حاجة لمجلات علمية تبسط العلوم قي طبعات شعبية .. في حاجة لفضائيات علمية جاذبة لعيون و أفئدة الكبار والصغار .. في حاجة لأقسام لدراسة الإعلام العلمي والتنويري في كليات الإعلام ..
نحن في حاجة للغرغرة والاستشفاء بالعلم و "شربة " المعرفة والثقافة العلمية يا متعلمين فكتاب حياتي ياعين سطوره كلها شجن و حروفه صارت أنين ونحيب في زمن " كورونا " وفيروسها المستجد ..
*********************
مدحت بشاي
أخبار متعلقة :