"رياح الوداع" هذا العنوان وحده كفيل بنقل الروح إلى عالم الشاعر، ووضعه في تلك البؤرة التي يعيشها من ألم الوداع وتشتت النفس إثر هذا الوداع ورياحه العاتية؛ فالعنوان أولى العتبات التي تصنع جسورًا للقارئ يعبر من خلالها لأعماق النص ومبدعه، تمتد تلك الجسور لتصل بالمتلقي لأعماق المبدع، وتجعله ينفذ لسماءات النص الرحيب، يقف المتلقي وقفة تأمل مع ذلك العنوان وما يحمله من دلالات الحزن وألم الفراق، وما توحيه كلمة "رياح" من دلالات التغيير والنقل بالقوة، عمّق هذه الدلالات إضافة " الوداع" إليها؛ فينفتح الباب للمتلقي؛ ليلج إلى عالم النص مستكشفًا أسراره العميقة محاولًا سبر أغواره.
يتعانق مطلع النص مع عنوانه في تشكيل معالم الطريق التي يسلكها المتلقي، ويأتي المطلع معمقًا لفكرة النقل والتغيير التي يستنتجها القارئ من العنوان:
وَدَّعْتُ طِيبَ الْعَيْشِ حِينَ أُوَدِّعُكْ جِسْمِي مَعِي وَيَظَلُّ قَلْبِي يَتْبَعُكْ
أفاض البلاغيون في الكلام عن حسن الابتداء أو ما يسمى ببراعة الاستهلال، وقال عنه الخطيب القزويني: إنه ( أي الابتداء ) أول ما يقرع السمع، فإن كان الأديب متأنقًا فيه كان كلامه أعذَبَ لفظًا، وأحسنَ سبكًا، وأصحَّ معنًى. بالمطلع أربعة أفعال تتابعت في ترتيب عجيب مبدع، ولهذا الترتيب دلالاته التي لا يستطيع المتأمل للمطلع إلا الوقوف أمامها مُطيلًا التفكير فيها، وفي نفسه أسئلة لا حصر لها، (ودّعت) (أودّعك) (يظلّ) ( يتبعك)، ولسنا نعني بالترتيب العجيب هنا أن شاعرنا قد جعل في كل شطر فعلين؛ بل نعني تلك الدلالات الإيحائية لهذا الترتيب بين الأفعال، وما تحدثه من أثر في بنية النص كله، وطرق أبواب شتى لفهمه، وتحقيق المتعة الفنية، والمشاركة الوجدانية للشاعر والتفاعل مع كل دفقة شعورية مستوحاة من حسن توظيف الألفاظ.
" ودّعت" المضي وما فيه من معاني الثبوت والرسوخ والقدرة على اتخاذ القرار؛ فالفعل مسنَد للفاعل المتكلم، وهو صاحب القرار (الوداع)، وتلك المعادلة الصعبة في القدرة على اتخاذ القرار، وما يوحيه لفظ الوداع من معاني الحزن والتحسر ومرارة الألم، ولدى شاعرنا إيثار لمحبوبه عجيب؛ فهو يودّعه رغم علمه أن يودع معه طيب العيش؛ لأنه مرهون بوصله، وهذا جليٌّ من دلالة (ودَّع) التي تحمل كل الأمنيات بالدَّعَة والسَّلامة؛ لكن هل ودّع شاعرنا محبوبه حقا؟! لا يتركنا شاعرنا في تلك الحيرة طويلًا، فيجيبنا باستخدامه للفعل نفسه لكن في زمن المضارع (أودّعك) الواقع علىٰ مفعوله كاف الخطاب، وكأنه رغم الفراق مازال يحيا في تلك الحالة التي لا تفارقه؛ فهو يعيش لحظة الوداع، وهي – لدى الشاعر – سرمدية لا تنقضي ولا يستطيع منها فكاكًا، وكان الزمن قد توقف لديه، إذ كيف تستمر الحياة متجاوزة لحظة الوداع تلك و(جِسْمِي مَعِي وَيَظَلُّ قَلْبِي يَتْبَعُكْ)؟!
(يظلّ ) ثالث الأفعال وفي زمن المضارع يحمل دلالات متنوعة من التجدد والاستمرار بعضها مستمد من معنى الفعل (ظلّ) وما فيه من معنى البقاء والمداومة، وبعضها ناتج من صيغة المضارع التي منحته استمرارية إضافية لحالة شاعرنا التي يعيشها منذ لحظة الوداع؛ فالشاعر مازال لا يصدق أنه ودّع محبوبه، بل لا يستطيع أن يفارق تلك اللحظة، يعيش لها وعليها؛ وليس هناك دليل أقوى على ذلك من استخدامه للفعلين المضارعين (يظلّ) و (يتبعك) في قوله (وَيَظَلُّ قَلْبِي يَتْبَعُكْ)بما في الفعل (يتبعك) من معاني المراقبة والتعلق.
ولما كان شاعرنا يعيش تلك الحالة فإن لديه أملًا للقاءِ وعَوْد المحبوب، ومازالت نفسه التي ترفض تجاوز لحظة الوداع تطمح في اللقاء؛ فالحنين سيدفع محبوبه كي يعود إليه:
أَنَّــى اتَّجَهْتِ فَنَاظِــرٌ وَمُوَكَّــــلٌ
بِسَبِيــــلِ لُقْيَــاكِ وَعَوْدٍ يَدْفَعُكْ
ولأن شاعرنا يرفض تلك النهاية، ويعيش حالة الرفض التام لتلك الفكرة فمازال يذكر التفاصيل الدقيقة لتلك اللحظة أو آخر لقائه بالمحبوب عاش بها ولها وعليها كما أسلفنا.
يَا لِي مِنَ النَّظَرَاتِ آخِرَ مُلْتَقَى
يَتَرَاءَى فِيهَا مَصْرَعِي أَوْ مَصْرَعُكْ
وَتَوَارَتِ الْأَلْفَاظُ خَجْلَى فِي فَمِي
وَالنَّارُ مِنْ أَلَمِ التَّنَائِي تَلْسَعُكْ
وَتَلَعْثَمَتْ كَلِمَاتُنَا فَكَأَنَّهَا
شَوْكُ الْقَتَاد يُمِيتُنِي وَيُرَوِّعُكْ
لكن شاعرنا – وهو يعيش تلك الحالة – يحيا على أمل اللقاء ويرى أنه واقع لا محالة:
كَـمْ تَاقَتِ الدُّنْيَا لِشَهْدِ وِصَالِنَا
فالحُبُّ مَهْما قِيلَ عَنْهُ مَنبَعُكْ
فلا تحلو حياة شاعرنا بدون حبيبه؛ وكيف تحلو حياته وهو يفترش الأشواك وتتلعثم الكلمات، ويعرف مأزق الكلمات؟! وتتوق نفسه للوصل، ويظل شاعرنا الذي يرفض الوداع يعلنها صراحة مدوّية: الحبيب هو معنى الحب مهما قيل فيه؛ لأنه لا حب بدون هذا الحبيب.
أخبار متعلقة :