حين أمسك الأمير البريطاني هاري بيد زوجته الممثلة الأمريكية ميجان ميركل بعد إتمام طقوس زواجهما في الحفل التاريخي المذاع لحظياً من قصر وندسور ليشاهده 2 بليون من البشر، وراح يدوس السجادة الحمراء المفروشة بالورود، ربما لم يكن، ومعه الكثيرون، يستوعب تماما أنه لم يكن يدوس الورود فقط، لكنه مع زوجته الجميلة السمراء كانا يدوسان بخفة ورشاقة ونزق علي عددٍ من التقاليد والمحرمات التاريخية ذات الثقل الهائل لميراث عرشٍ ملكي يرجع إلي ألف عام، هو بلا شك العرش الأهم والأقوي في تاريخ الملكية في العالم.
فقد حطم هاري وميجان بزواجهما جدران قلاعٍ من القيود والفروض والمقدسات الملكية والتاريخية والإجتماعية بين البشر وبين الدول بل وبين القارات، فهو زواج يجمع بين الوريث السادس لأهم عرش ملكي في أوروبا، وممثلة أمريكية، من أصول سوداء إفريقية، فهو زواج يتخطي حدود القارات الثلاث، ويتخطي حضارات وثقافات ثلاث تختلف في كل شيء تقريباً، فهو الزواج الأكثر إدهاشاً وإثارة وطموحاً، سواء كان حدث الزواج واعياً لكل هذا، أم كان بريئاً لم يفعل سوي الإنجراف وراء نداء الحب بين قلبين شابين، عملا بوصية نشيد الإنشاد الجميلة التي تخاطب فيها العروس حبيبها قائلة، "إجذبني ورائك فنجري".
حطم هذا الزواج الذي أثار دهشة وانبهار العالم عدة محرمات في نفس الوقت، فقد تزوج أمير بريطاني من خارج العائلة الملكية، وهو أمرٌ نادر الحدوث، ليس هذا فحسب ولكن العروس مطلقة، وكان هذا محرماً من قبل، ففي الثلاثينات من القرن الماضي إضطر الملك ادوارد الثامن إلي أن يتخلي عن العرش لأخيه من أجل الزواج بإمرأة أمريكية مطلقة عاش معها سعيداً بعد ذلك، حسب مذكراتها، طيلة 35 عاماً حتي وفاته، وربما كانت قصته غير غائبة عن وعي الأمير هاري.
ولكن العروس ميجان ليست مطلقة أمريكية فحسب، فهي أيضاً ممثلة، وقد كان التمثيل حتي فترة قريبة ينظر إليه إجتماعياً نظرة دونية، فهي ليست "سليلة الحسب والنسب" لكنها من عائلة عادية وبسيطة، وفوق هذا فالعروس مختلطة عرقياً، فوالدها أبيض ووالدتها سوداء من أصول إفريقية، وبهذا يكون هذا الزواج قد حطم عدداً من أكبر المحرمات الإجتماعية التاريخية التي كانت وما تزال تقف أمام الكثيرين فتمنع تمتعهم بحرية إنسانية كاملة.
هذا الإنتصار علي الحواجز التقليدية الموروثة لمئات السنوات هو ما أعطي هذا الزواج بريقه اللافت، فهو زواج محمل بروح العصر، يحلق بأجنحة الفكر الحر والرؤية الانسانية الواعدة الجميلة، وكأنه قد أقسم علي تحقيق الأساطير البشرية التي كانت تلهب المخيلة الإنسانية دائماً، أسطورة الأمير الذي يقع في حب فتاة من الشعب ويقف ضد الجميع ليتزوجها، أو العكس، فتاة سندريلا بسيطة تقع في حب أمير ولا تكاد تتخيل أن بإمكانها الزواج منه.
ثم هو زواج بين وريث لعرش الإمبراطورية البريطانية الهائلة وأمرأة سوداء من أصول إفريقية لبلاد خضعت طويلاً للمستعمر الأوروبي يمتص مواردها والتاجر الأمريكي يختطف عائلاتها لبيعها كعبيد ماحقاً انسانيتها لقرون طويلة، فهي إذن نهاية رمزية لعصور من الوحشية والعبودية، فبدلاً من العلاقة الاستعمارية الاستغلالية، لدينا الآن نموذج لعلاقة محبة وإعجاب وإحترام وتقدير من أمير بريطاني لإمرأة سمراء من أصول إفريقية، لعله تكفير عن خطايا الماضي، لعله وعد بمستقبل أجمل وأعدل.
وقد جاء حفل الزواج نفسه بكل تفاصيله وطقوسه وخطواته المرسومة بدقة ليعكس كل هذه التغيرات والانفرادات المدهشة والمثيرة، فعلي عكس حفلات الزفاف الملكية البريطانية التقليدية المحافظة التي تتسم عادةً بالمناخ الأرستقراطي الهاديء، جاء هذا الحفل ليكسر هذا التقليد.
فكانت عظة المطران الأمريكي الأسود مايكل كاري تتميز بالحركية والدينامية الدرامية الصاخبة المعتادة لدي كنائس واجتماعات السود الأمريكيين المحبين للحركة والرقص والغناء في صلواتهم، في حيوية إفريقية غير معتادة لدي المزاج البريطاني الهادئي البارد المنضبط، وألقي المطران كاري عظة ملتهبة فعلاً ومعني، فقد تحدث عن أن إكتشاف النار كان نقلة هائلة في مسيرة التقدم البشري، وكذلك يمكن لنار المحبة لو اندلعت بين البشر أن تكون النقلة النوعية الثانية الهائلة في مسيرة التقدم الإنساني.
ودعاالمطران الحضور أن يتخيلوا العالم لو كانت المحبة هي طريقه، يتخيلوا المجتمعات والسياسات والدول لو كانت المحبة هي طريقها، واستحضر رسالة الزعيم الأمريكي الأسود مارتن لوثر كنج عن التلاقي حول مائدة الإخاء الإنساني، فكانت دعوته للمحبة الانسانية بين البشر علي إختلاف مشاربهم بأسلوبه المتحرر من قيود الوقار الديني المصطنع الذي هي تطعيم مثير للجسد الثقافي البريطاني العريق بأمصال الصبا والشباب الأفريقي الأمريكي المشترك، بحركته المتوثبة نحو المستقبل، وربما كانت هذه الطبيعة الصبية العفوية المتأججة هي ما أثار شغف الأمير الشاب هاري بعروسة ميجان التي رأي فيها كل ما هو مختلف عن وسطه وتراثه البريطاني المحافظ الهاديء.
ولم يكن وجود المطران الأمريكي الأسود شيئاً رائداً يحدث لأول مرة في حفل زواج بريطاني ملكي كهذا فحسب، إذ أن هذا المطران هو نفسه يمثل نقلة خارقة للتاريخ والتقاليد في بلده أمريكا، فهو أول رئيس أسود لكنيسة طائفة الإيبسكوبال الأمريكية، أي أنه يمثل نقلة تاريخية للكنيسة، كما أنه جاء بعد أول إمرأة رئيسة لنفس الطائفة، فهي سلسلة من النقلات التاريخية النوعية تلاقت كلها في حفل الزفاف الملكي المختلف المحطم للكثير من التقاليد، في إشارة إلي نهاية عهد محافظ طويل للإمبراطورية التي كانت لا تغرب عنها الشمس، وبداية عهد جديد يافع يعيش أفكار عصره متحرراً من ثوابت الماضي وسلاسل المراسيم الجامدة.
لقد جاء الإهتمام الإنساني الواسع بحفل الزفاف تعبيراً طبيعياً عن رغبة البشر في المشاركة في حدث بهيج، بعد أن غرق العالم لسنوات طويلة، وما يزال، في أحداث دامية كريهة لحروب وخراب وإرهاب وقتل جماعي جنوني في كل مكان، حتي صار الإرهاب هو علامة العصر.
جاء الزفاف الملكي حدثاً مضاداً لهذا كله، فهو فعل فرح وبهجة في عصر عز فيه الفرح، فعل تحطيم للحواجز المصطنعة التي تفصل بين البشر وتحرمهم دفء التواصل الانساني، وهو إفرادٌ لمائدة الإخاء والمحبة والمساواة الانسانية.
كل حفل زفاف هو حدث يفرح له الناس في كل مكان بكل أشكالهم ومعتقداتهم، مهما كانت أحوالهم المادية أو الإجتماعية، هو حدث فرح لأنه أملٌ واعد بالحياة والرفاء والبنين والبنات، وكان هذا الزفاف الملكي بالذات وعداً بأفق إنساني أكثر سعة وتحرراً واحتضاناً للجميع، فخلب مخيلة المتعطشين لعالم مختلف آن له أن يعرف أفراح المحبة وأناشيد الأخوة الإنسانية.
أخبار متعلقة :