فى زيارتى الأخيرة إلى مدينة " الدار البيضاء " سجلت بعض الملاحظات المتعلقة بـظاهرة " المقاهى" التى باتت تجتاج الشوارع المصرية، ولا تفرق بين ريف وحضر، سواء من حيث كثافة عددها أو من حيث كثافة أعداد روادها، أو من حيث طبيعة التركيبة العمرية لهم. والغريب أن تزايد أعدادها تزامن مع تزايد أعداد الصيدليات .. ووالأكثر غُربةٍ أنه رغم وجود قانون يحدد المسافة التى يجب أن تفصل بين الصيدليات والتى تقريبا 100م2 .. إلا أنه لا يوجد قانون يحدد المسافة التى تفصل بين المقاهى .. !
وأسفرت ملاحظاتى عن أن المقاهى فى كازا بلانكا تقع على مسافات جغرافية بعيدة جداً، ربما لا تقل عن كيلومتر مربع .. فتقريبا يوجد مقهى واحد على الأكثر فى كل شارع. ثانياً أن المقاهى لها أبواب ضيقة كالشقق السكنيةعندنا، دائماً"مغلقة" ولا يوجد لها إمتدام للرصيف ولا تطغى على مساحة الشارع، ولا يُسمَح حتى بوضع كرسى أمام الباب .. ثالثاً أنها غير مزدحمة ومعظم روادها ليسوا مغاربة .. رابعاً يُمنعُ فيها نهائياً تقديم " الشيشة " أو الأرجيلة كما يسمونها هناك .. وإن وجدت فلا توجد أنواع المعسل المدرمرة التى تنتشر فى مقاهينا كـ"القص والسلوم" وما شابَه .. فالمقاهى فى المغرب لا تختلف كثيرا عن الأندية الاجتماعية لدينا، ولا تتخذ ا
"لشيشة " عنوانا للمقهى كما فى مصر .. ولا يسمح لها أن تتزين لتغرى عملائها كما هنا .. !
وحين سألت سائق التاكسى لماذا لا تقدم الشيشة فى مقاهيكم ..؟ أجابنى بأنها تقدم .. ولكنها تقدم " خيانة ".. بمعنى أن صاحب المقهى حين يقدمها فإنه يعدُ خائناً للقانون..! فعرفت حينها أن للخيانة معانٍ جديدة .. وتسألت فى نفسى إذا كان التدخين يقتل شخصا كل 13 ثانية، وإذا كانت الخسائر فى الأرواح حول العالم بسبب التخدخين تتجاوز 2.5 مليون نسمة سنوياً، وأنه يتسبب فى وفاة أكثر من 600 ألف شخص سنوياً .. وأنه إذا كان التدخين يتسبب فى مقتل نصف من يتعاطونه ، وإذا كان استهلاك البشرية من الدخان قد تجاوز ماقيمته 100 مليار دولار سنوياً .. وإذا كان من يصنع الدخان - حسب المفهوم المغربى - خائن . ومن يتاجر فيه " خائن " ومن يقدمه للمواطنين " خائن " .. فلماذا لا يموت الخونة ..؟!
وإذا كان بيع "الشيشة " أو السماح ببيعها يعد خيانة " للصحة " فإن فإن بيوت الدعارة وإنتاج الأفلام الإباحية أو تطعيم الأفلام الدرامية بمشاهد إباحية، أو استخدام " لغة الجنس " فى الإعلانات والوسائل الدعائية، تعد كلها " خيانة للعرض " والشرف، ومن ثم إنهيار " القيم " الإنسانية الرصينة .. ولك أن تتخيل مستقبل بلد دون صحة أو قيم ..!
ومن ثم فإن للخيانة هنا مفهوماً مغايراً تماماً عن الذى كنت أحمله فى ذهنى .. ففى حين يختزل البعض خيانة الوطن فى " الجاسوسية" ، أعتقد أن خيانة الوطن أبعد من ذلك بكثير .. فيكفى أن يكون الشخص سبباً في خطوة يخطوها العدو في أرض وطنه حتى يصبح " خائن " .. ليس ذلك فحسب بل يصبح خائناً حين يقدم مصلحته الخاصة على مصلحة الوطن .. ويُوصَم المجتمع بأنه " بئرٌ للخيانة " حين يردد أفراده دون وعى " أنا ومِن بعدى الطوفان " ..!
.فجميعنا لا ينسى الأبواق الإعلامية والأقلام الصحفية التى وقفت موقفاً معادياًلـ"ثورة 30 يونيو " وطالبت الدول الأجنبية بفرض حصار إقتصادي على مصر ؛بغية إرغام الجيش على إستعادة نظام الإخوان البائد .. متخذين من " الديمقراطية " المزيفة شعارات لهم، يستنهضون بها عزائم الغرب المتأججة ضد مصر ..!
ولا يفوتنى هنا الحديث عن " خيانة الدم " والتى تجسدت فى أولئك الذين شكلوا "جماعات عصابية" استحلت لنفسها النيل من دماء الأبرياء من المواطنين العُزَّل ورجال الشرطة والجيش البواسل. لا لشي سوى الدفاع عن نظامٍ إرهابيٍ متشددٍ، اجتمعت إرادةُ الشعبِ على عزله، وإنقاذ المجتمع من مخططاته الفاسدة ..!
وأشد أنواع الخيانة هى "خيانة الوعى" والتى لا تختلف كثيراً خيانة الضمير .. فجميع البرامج والقنوات الفضائية التى تُزَوِّرُ الحقائق ولا تلتزم بالشفافية وتساهم بعَمدٍ -أو بغير - فى تسطيح وعى الجماهير، جميعها تمثل "خيانةللوطن" إذ تتسبب هذه البرامج المُسَطَحَةِ فى خلقِ جيلٍ هشٍ، غير قادرٍ على التعاطى مع معطيات واقعه وأزماته .. !
الخيانة فى تصورى تحدث هى أننتتاجر بقضايا الوطن وأزماته، ونصنع من أنفسنا حراساً وهميين على الوطن أو بالأدق أبطالاً من ورق..!فلم تكن البطولة يوماً تُقاسُ بالشعارت فى الميادين العامة، ولا باستعراض الحناجر والصياح على الفضائيات .. وإنماتصبحُ بطلاً حين تسهمُ فى إحياء نفسٍ وليس فى قتلها .. وحين تسهر على ماكينة الإنتاج عاملاً منتجاً،ويسهر غيرك على المقاهي .. فالخاينة فى تصورى ليست وجهة نظر ..!
ولا يفوتنى فى هذا المقال أن أشير إلى "خيانة العلم" ولا أقصد بذلك فقط "الأستاذ " الذى اعتقل عقول طلابه فى سجن أفكار الفاسدة، وبث فى نفوسهم روح الإحباط والتشاؤم .. وإنما أقصد أيضاً الباحثين الذين يُصَدِّرونَ للدولة أفكاراً هَزلية.. كالباحث الذى إدعى أنه اخترع دواءًيعالج كل أنواع السرطان،ضارباً عرض الحائط بالثوابت العلمية، التى تؤكد أن للسرطان أنواعاً و أسباباً كثيرة.ومن ثم فإنه لا يمكن أن يتقبل العقل أن"دواءً واحداً" يمكنه أن يعالج كل أنواع السرطان..!ولا يختلف هذا العالِم كثيراً عن ذلك الذى إدعى اكتشاف جهازٍ يعالج الفيروسات الكبدية بـ"الكوفتة " ..!
ولا تقف " خيانة الوعى " عند ها الحد؛ فهناك "خيانة المنطق " فبالرغم من أن المصريين لا يستغلون من مساحة مصر سوى 6% فقط .. ورغم كثرة مواردنا المائية،كنهر النيل والأمطار الشتوية والمياه الجوفية فضلاً عن إمكانية تحليّة مياه البحر، وإعادة تدوير مياه الصرف الزراعى، ورغم صحارينا الواسعة،هناك علماء يدعون الدولة إلى الدخول فى وَهم تحويل أسطح المنازل إلى " ضَيعَاتٍ فِلاحِيّةٍ" ، يغرس فيها السكان مايحتاجونه من خُضَرٍ. ويطرحون أفكاراً أقرب إلى الخيال،تستغبي عقول البسطاء والمثقفين على حدٍ سواء،أفكارٌلا تُخفي بداخلهاسوى جهل أصاحبها، وخيانتهم للواقع الذى نعيشه، وللعِلمِ الذى يحمِلُونه..!
لقد اكتفيت فى هذا المقال بتلك الأنماط التى تهدد حاضرنا فتجعله مؤلماً، وتهدد مستقبلنا فتجعله معتماً .. إذ تُخبرنا الخيانة دائماً بأنها الأخطر على الوطن من العدو .. وأنها تبدء من الفكر وتنتهى إليه .. وتستهدف فى معظم حالاتها " الوعى " وتجعلنا نتسأل دائماً فى صمت .. " إذا كانت الخيانة هى السبب فى فساد أفكارنا .. فلماذا لا يموت الخونة ..؟ّ!"
د. صلاح هاشم
Sopicce2@Yahoo.Com
أخبار متعلقة :