بوابة صوت بلادى بأمريكا

د. محمد فتحي عبد العال يكتب: دستور الأخلاق

 

في السادس من مايو  عام 604 م وفي عهد الامبراطورة سوئيكو وضع الأمير الياباني  شوتوكو تايشي ولي العهد أقدم الدساتير التاريخية في بلاده والذي عرف بدستور الفقرات السبعة عشر.

كان الدستور بمثابة وثيقة دينية مستمدة من الديانة البوذية الديانه الرسمية بالبلاد والكونفوشيوسية الفلسفة الأخلاقية الصينية  لذا فلا غرو أن يكون عماد الوثيقة الفضائل وغايتها الأخلاق التي تنظم العلاقة بين المسؤولين الحكوميين والشعب لضمان حسن سير الامبراطورية وتقول المادة السابعة عشر منه :  (يجب القيام بالنقاش دائما وأبدا حتى لا يكون الاستبداد برأي ذاته).ومن هنا خلقت حرية النقاش  مساحات من الاتفاق ووحدة الرأي والوجهة نتج عنه  تناغما شكل القاعدة الأساسية في تكوين المبادئ الأخلاقية في اليابان.

 

 

تجربة من مصر. الوزارة تقر كتابا للأخلاق :

في كتابه الصادر عن الاخلاق في سبتمبر عام (1929)يقول الاستاذ أحمد أمين ان الغرض من كتابه ان يكون مرشداً للطلبة في حياتهم الأخلاقية ، مراعيا فيه الجهة العلمية أكثر من الجهة النظرية، لأن التعمق في النظريات خط الفلاسفة، والعمل وفق ما تتطلبه الأخلاق واجب الناس جميعاً ويشير الكاتب في مقدمته القصيرة إلى أن كتابه في صياغته الجديدة جاء ليلبي برنامج وزارة المعارف الجديد في تدريس الأخلاق بالمدارس الثانوية.

يتألف الكتاب من عشرة فصول  يتحدث الكاتب في الفصل الاول عن ماهية علم الاخلاق ومسائله، ويضع تعريفا لعلم الأخلاق بأنه  العلم الذي يوضح معنى الخير والشر وبين ما ينبغي أن تكون عليه معاملة الناس بعضهم بعضاً أو الغاية التي على الناس أن يقصدوها في أعمالهم .  موضوع علم الاخلاق هو الأعمال التي صدرت عن عمد واختيار  والمسؤولية الاخلاقية نوعان: (1) القانونية إذا خالف إنسان قانون بلاده وعوقب بالقضاء (2) والمسؤولية الاخلاقية هي أوسع دائرة من القانون- والاخلاق سلطانها واسع ومن يتولى لها التوبة والعقوبة هو الله والضمير.  وفي الفصل الثاني يتحدث الكاتب عن الضمير ويعرفه بأنه قوة أو صوت من أعماق الصدور تحذره فعل الشر أو تمنعه فإذا أصر على عمله أحس بانقباض نفسه لعصيانه تلك القوة والندم ويقول: أن خير شيء في الإنسان ضميره، فهو الدليل الذي يهدي سبيل السلام. والضمير يحتاج إلى تربية ويضعف بالأهمال  ولاختلاف الضمير عبر العصور فقد يخطئ أحيانا فهو ليس معصوما ويضرب مثلا على ذلك بالخلاف بين المسلمين والاقباط وتوسيع الخلاف عبر الخطب والمقالات في الماضي واليوم يرى هذه الدعوة من أكبر الجرائم  . ينتقل الكاتب في الفصل الثالث للحديث عن الحكم الأخلاقي وان الرجل الخير قد يأتي بعمل شر ولكن يكون الغالب عليه عمل الخير فالحكم على العمل من ملاحظة الغرض منه أما الحكم على العامل فمن مجموع أعماله في حياته ويعدد الكاتب مقاييس الحكم الأخلاقي وأولها العرف وهو عادة الأمة لكن مع رقي الناس أصبح العرف لا يصح كمقياس لعدم معقولية بعض أوامره مثل وأد البنات في الجاهلية وإماتة الأب لابنائه وإحيائهم عند الرومان والرق الذي ساد العالم القديم  ،والمقياس الثاني هو الرأي الشخصي ومع رقي الناس أصبح الفرد يشعر بشخصيته المستقلة عن قومه وأن له أن يزن الأعمال بعقله ويحكم عليها بالخير أو الشر وإن خالف العرف أما المقياس الثالث فهو الوجدان تلك القوة الغريزية داخل الإنسان التي تصدر حكما بالارتياح أو النفور أما المقياس الاخير فهو العقل والاستدلال فليس للانسان قوة غريزية يدرك بها الخير والشر ولكن معيار الحكم هو التجارب أي البحث والتفكير العلمي  ثم يتطرق الكاتب لموضوع مذاهب علم الاخلاق ونظرياته في الفصل الرابع ويقسمها إلى قسمين:

 الأول مذهب السعادة:

ويعني تحصيل اللذة وتجنب الألم فاللذة هي مقياس العمل فيقال إن هذا العمل خير لأنه ينتج من اللذة أكثر من الألم ويقال أن ذاك شر لأنه ينتج ألما أكثر من اللذة والسعادة إما سعادة شخصية أو سعادة عامة أي المنفعة ومن الخطأ الجري على مذهب السعادة الشخصية لأنه مبالغة في الاثرة فضلا عن أن الإنسان مضطر للتعاون مع أبناء جنسه فالغاية الأخيرة التي ينبغي السعي لها هي تحقيق السعادة للناس

 أما  القسم الثاني فهو مذهب اللقانة أو البصيرة :

وأن الخير والشر يقاسا بصفات ذاتية فيهما  وليس على أساس اللذة والألم أو النظر للنتائج  ويعول في ذلك على القوة الغريزية الباطنة بداخل الإنسان والتي يميز بها بين الخير والشر بمجرد النظر فهناك فضائل مثل الصدق ورذائل مثل الظلم والغاية  تتبع الفضيلة وإلزام النفس بها وفي الفصل السادس يتحدث الكاتب عن علاقة الفرد بالمجتمع فإذا انفصل الإنسان عن مجتمعه أدركه الفناء ولم تكن له قيمة لأن أعمال الإنسان وأغراضه وعاداته مرتبطة بالنظر إلى المجتمع فليس الصدق خيرا ولا الكذب شرا إلا لإنسان يعيش في مجتمع  ثم في الفصل السابع يتحدث عن معنى الحقوق والواجبات أسسها وحق الحياة والحرية والملك الخاص والعام، كما يتطرق في الفصل الثامن إلى معنى الواجب ويعرفه بأنه العمل الأخلاقي الذي يبعث على الإتيان به الضمير ويقسمها إلى واجبات شخصية كالنظافة والعفة وواجبات إجتماعيه كالعدل والإحسان وواجبات إلهية كالطاعة وأداء العبادات ويشير لتقسيم آخر يقسمها إلى قسمين : القسم الأول واجبات محدودة وهي الواجبات الأساسية التي يتوقف عليها بقاء المجتمع وباهمالها لا يصلح شأنه وتوضع في قانون الأمة مثل: لا تقتل ولا تسرق ويوضح بجانبها عقوبات لمنتهكها ويشترك في طلبها القانون والأخلاق والقسم الثاني واجبات غير محدودة وهي التي لا توضع في قانون الأمة وتترك للضمير وتشمل الواجبات التي عليها  رقي المجتمع ورفاهيته كالإحسان فإنه يختلف باختلاف الزمان والمكان والظروف المحيطة بالشخص ويتحدث عن التضحية لأداء الواجب والواجبات على الإنسان لله تعالى، ونحو نفسه، وأسرته ، ووطنه، ونحو الإنسانية عامة وأن معنى الواجب والنظر إليه لا يتنافى مع الوطنية، فكما أن الفرد في الأسرة يعمل لخيره وخير أسرته كذلك الفرد  بالأسرة الكبيرة يعمل لخير وطنه وخير الإنسانية . أما الفصل التاسع فيتعرض فيه الكاتب لمفهوم المثل الأعلى وأنه ينبغي لكل إنسان أن يكون له مثل أعلى يسعى لتحقيقه ويوجه أعماله للوصول إليه وهو ما يميز الإنسان عن الحيوان فالحيوانات تعيش على نمط واحد وليست في رقي مستمر أما الإنسان فدائم الرقي وأهم عوامل في تكوين المثل : المنزل والمدرسة والدين.

وفي الفصل العاشر والأخير يتعرض الكاتب لمعنى الفضيلة وهي الخلق الطيب ويقارن بينها وبين الواجب فالفضيلة صفة نفسية أما الواجب فعمل خارجي ويكون غرس الفضائل في الأطفال منذ نعومة أظافرهم من خلال الأباء في البيوت والمدرسين في المدارس ومن خلال القدوة الصالحة  وتختلف قيمة الفضائل باختلاف الأمم فالأمة المهددة بالحروب ترى الشجاعة أهم فضيلة والأمة الآمنة ترى العدل الأهم أما الأمة الصناعية فترى الأمانة أهم فضيلة كما أن الفضيلة تختلف باختلاف العصور وأقسام الفضيلة تختلف فعند سقراط لا فضيلة سوى المعرفة وعند أفلاطون فثلاث قوى ينشأ عنها الفضيلة : القوة العاقلة وينشأ عنها الحكمة والقوة الغضبية وينشأ عنها الشجاعة والقوة الشهوية وينشأ عنها العفة واعتدال الفضائل الثلاثة ينشأ عنه العدل أما عند ارسطو فأساس الفضائل خضوع الشهوات لحكم العقل

 وفي نهاية كتابه يعتقد الكاتب أن الفضائل وامثالها لا يرقى الإنسان في اكتسابها إلا بأمرين : أولهما محاسبة النفس وسؤالها من حين لآخر حول أرتقاء الفضائل  فإذا رأيت نفسك تغضب كل يوم فاجتهد أن يمر يوم لا تغضب فيه  فإذا نجحت في مرور أيام لم تغضب فيها فتصدق بصدقة شكرا لله على  كسب هذه الفضيلة، وانتقل إلى غيرها وهكذا. ثانيهما :الإرادة القوية المسيطرة على النفس، فالإرادة قابلة للتمرن، ومثلها كمثل من يبتدئ في ركوب دراجة فهو في أول امره يختل توازنه، ولا يستطيع أن يسيطر عليها،  وبالتدريج والمرانة تطيعه الدراجة، وتصبح تحت إرادته ، وهذا هو ما ينبغي أن  تكون عليه الارادة  من القوة حتى توجه النفس إلى ما تعتقد من خير وصواب.

من هو أحمد أمين؟

هو كاتب ومفكر بارز تعلم في الأزهر ثم مدرسة القضاء الشرعي وعمل مدرسا بها وقاضيا وفي عام 1926 عين مدرسا بكلية الآداب بالجامعة المصرية لمادة النقد الأدبي وتدرج فيها حتى أصبح عميدا لها على الرغم من عدم حصوله على الدكتوراه عام 1939.

أشرف احمد أمين على لجنة التأليف والترجمة والنشر طيلة أربعين عاما وحتى وفاته عام 1954 والتي نقلت للقارئ العربي ذخائر الفكر الأوروبي والتراث العربي في جميع فروع المعرفة بشكل منضبط وأمين  كما أسس معهد المخطوطات العربية التابع لجامعة الدول العربية ويمكن ان نعتبره من رواد التعليم المفتوح عبر الجامعة الشعبية التي انشأها بوزارة المعارف والتي كانت تسمح بالمحاضرات للطلبة والطالبات دون التقيد بسن ولا امتحان عند الدخول وتتضمن دراسة مهنية ونظرية.

 

 

لماذا الأخلاق  في هذا التوقيت؟

في عام 1928 تشكلت وزارة محمد محمود باشا  الرجل الصعيدي ورئيس حزب الدستوريين الأحرار و صاحب القبضة الحديدية والتي بها عطل الدستور بالكامل لأول مرة وصادر أغلب الصحف المصرية حيث احتفظ بمنصب وزير الداخلية إضافة لمنصبه كرئيس للوزراء  وعجز الوفد عن مواجهة ديكتاتوريته    .

على الرغم من هذا الوجه القاتم  لهذه الوزارة إلا أنها ضمت أستاذ الجيل الفيلسوف البارز ورائد الليبرالية أحمد لطفي السيد كوزير للمعارف  فاضطلع بمهمة تنويرية رائدة وهي نشر الأخلاق وكان أحمد لطفي السيد قد نقل كتب ارسطو من الفرنسية للعربية ومنها كتاب الأخلاق عام 1925 لذلك لا عجب أن يكون على قمة أولويات الوزارة في عهده تدريس الأخلاق. يقول أحمد لطفي السيد : (لست ممن يتشبثون بوجوب تعليم دين بعينه أو قاعدة أخلاقية معينة. ولكني أقول بأن التعليم العام يجب أن يكون له مبدأ من المبادئ يتمشى عليه المتعلم من صغره إلى كبره. وهذا المبدأ هو مبدأ الخير والشر وما يتفرع عنه من الفروع الأخلاقية. لا شك في أن نظريات الخير والشر كثيرة التباين. ولكن الواجب على كل أمة أن تعلم بنيها نظريتها هي في هذا الشأن. فعندنا (في مصر) إن مبدأ الخير والشر راجع إلى أصل الاعتقاد بأصول الدين، فعليه يجب أن يكون الدين من هذه الوجهة الأخلاقية هو قاعدة التعليم العام).

هذا هو ما نسميه مثلث التناغم  في أي نظام تعليمي والذي يتحقق به التميز والارتقاء والسمو أضلاعه قيادة ذات فكر وخطة مثلها أحمد لطفي السيد و الضلع الثاني هو حسن الإنتقاء ووضع الشخص المناسب في مكانه المناسب وهو ما من شأنه اختيار تنفيذين ذوي فكر عال وتعليم راق مثلهم احمد أمين  والضلع الثالث هو  المحتوى الكفء والمادة المنتقاة بعناية والتي مثلها كتاب الأخلاق فصناعة النشء وتربيتهم بشكل سليم مهمة جليلة لا تتحقق إلا حينما يكون الشخص المناسب في المكان المناسب. إنه التناغم حينما يترادف الفكر ويتحد الهدف فيكون الناتج هو أفرادا أسوياء يخدمون المجتمع إنه الاستثمار في الإنسان والذي خبره بعض  أجدادنا في فترات معينة ونتباكي عليه اليوم حينما نرى الأخلاق وقد غابت في مجتماعتنا في العصر الحديث.

 

 

د. محمد فتحي عبد العال

أخبار متعلقة :