كانت الساعة الثانية عشرة والنصف ظهر يوم 19 ديسمبر، مثل هذا اليوم، عام 196، حين أقيم فى بيت عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، حفلا بسيطا بمناسبة تسليمه قلادة النيل وحملها إليه صلاح الشاهد كبير الأمناء برئاسة الجمهورية، مندوبا عن جمال عبدالناصر، حسبما يذكر الدكتور محمد الدسوقى، سكرتير طه حسين فى كتابه «أيام مع طه حسين»، مؤكدا :«قدم الشاهد القلادة إلى «العميد»، معربا له عن أجمل تحيات الرئيس، ورد العميد شاكرا له تحياته، ومحملا إياه أجمل الشكر، وأخلص التحية لرئيس الجمهورية."
تكشف السيدة سوزان زوجة طه حسين في مذكراتها "معك" ترجمة: بدر الدين عرودكي ،مراجعة : محمود أمين العالم:" في نهاية عام 1965 منحه جمال عبد الناصر قلادة النيل، كان من المفروض أن يقلده رئيس الجمهورية هذا الوسام خلال مهرجان الآداب والعلوم والفنون، غير أن طه لم يكن قادرا علي حضور الاحتفال، فحضر إلي البيت رئيس التشريفات وحملها معه".
يذكر «الدسوقى» أن صحيفة «الأهرام» انفردت يوم 18 ديسمبر 1965 بخبر على صدر صفحتها الأولى يقول: «منح الدكتور طه حسين قلادة النيل»، ووفقا للدكتور محمد حسن الزيات وزير خارجية مصر أثناء حرب أكتوبر 1973، وزوج ابنة طه حسين فى كتابه «ما بعد الأيام»: «قلادة النيل هى أعلى أوسمة مصر شأنا، يهديها رئيس الدولة لزملائه من رؤساء الدول، ولم يسبق أن أهديت لمن هم دونهم فى مراتب المراسم، فلم تهد لرئيس وزراء ولا لوزير، لا فى مصر ولا فى خارج مصر، ولكن رئيس الجمهورية يهديها الآن لواحد من عامة الشعب».
ينقل «الزيات» كلمة الأهرام عن العميد: «أنفق حياته جادا لا لاعبا، وتحمل نصيبه من أثقال الحياة، وأدى نصيبه من واجباتها، وأحب للناس ما أحب لنفسه، وآثر الناس بما يؤثر به نفسه من الخير، ولم يبال بعد ذلك أن تثقل الحياة أو تخف، وأن يرضى الناس أو أن يسخطوا".
يكشف «الدسوقى» الأحوال فى بيت طه حسين «رامتان» بعد الإعلان عن الخبر: «حين دخلت بيت العميد قرأت البهجة فى وجوه الجميع، وطلب منى أن أصعد إلى الطابق الثانى، وكان العميد يجلس فى حجرة جلوس فسيحة بها بضعة مقاعد، ووجدت العميد فور دخولى عليه يتحدث هاتفيا مع أحد المهنئين، وقدمت له ولزوجه أصدق التهنئة بهذا التقدير الذى صادف أهله، ثم أخذنا نقرأ الصحف، وبدأنا كالعادة بالأهرام، وكانت الصحيفة الوحيدة التى انفردت بنشر النبأ، وبعد قراءة ما نشرته، قال العميد: الواقع أننى لا أجد سببا لهذه القلادة، قلت: كيف هذا واليوم تكرم الدولة العلم والأدب والفن، وأنت يا سيدى رمز لهذه النهضة العلمية، كنت الرائد والقائد، فوجب أن تنال حقك ويعترف بقدرك».. يذكر الدسوقي، أن الأهرام كتبت كلمة تحيى بها العميد فى هذه المناسبة نشرتها فى الصفحة الأولى، وبعد قراءتها علق العميد، قائلا :"كتر خيرهم".
يكشف "الدسوقي"، أن الهاتف كان يدق كل بضع دقائق ليتحدث «العميد» مع المهنئين، وكانت محررة فى مجلة الإذاعة والتليفزيون من بين المهنئين، ورغبت فى أن تحضر مساء ومعها الموسيقار محمد عبدالوهاب الذى منح وسام الجمهورية فى اليوم نفسه، فيلقى الأستاذ عبدالوهاب بعض الأسئلة ليجيب عليها «العميد»، وتأخذ المحررة الأسئلة والإجابة لنشرها فى المجلة بهذه المناسبة، ورفض «العميد»، وقال بعد انتهاء المكالمة الهاتفية: لماذا تحضر معها عبدالوهاب، إن هذا الإنسان ناكر للجميل، كتبت عنه وهو صغير وشجعته، فلما كبر أخذ يهاجمنى ويسىء إلىّ".
طلب «العميد» من الدسوقى قبل انصرافه أن يكتب برقية إلى الرئيس جمال عبدالناصر، يقول فيها: السيد رئيس الجمهورية.. أرجو أن يتفضل السيد الرئيس فيقبل أصدق شكرى، وأعمق حبى، وأخلص دعائى لسيادتكم بالنجاح والتوفيق والسعادة"، ويذكر الدسوقى، أن «الشاهد» سلم القلادة فى حضوره وزوجة العميد، وابنته السيدة أمينة زوجة «الزيات» والدكتور محمد عوض محمد، ومكث الشاهد ربع ساعة ثم انصرف، وخرج فى أثره الدكتور عوض وتركت زوجة العميد وابنتها الحجرة.
يتذكر الدسوقى: «طلب منى العميد أن أضع القلادة بين يديه، وأخذ يجسها بأصابعه والبسمة تعلو شفتيه، ثم وضعتها بعد ذلك فوق المكتب، غير أنه رجانى أن أضعها فى مكان آخر بحيث لا يراها من يدخل الحجرة، وكان ذلك بعد أن حضر الدكتور محمد حسن الزيات، وداعب العميد قائلا: أعطنى هذه القلادة، وقال العميد: لا إنها شىء لايهدى»..
يؤكد الدسوقى، أن «العميد» توجه إلى رئاسة الجمهورية لتوجيه الشكر، يوم 19 ديسمبر فى الساعة الرابعة، ويضيف، أن الشاعر عزيز أباظة كان ضمن الذين منحهم «عبدالناصر» جائزة الدولة التقديرية، وألقى فى الاحتفال بعيد العلم مساء يوم 18 ديسمبر كلمة كانت محور مناقشات بين «العميد» والصحفيين الذين زاروه فى منزله يوم 19 ديسمبر، يذكر الدسوقى، أن أباظة نحا فى الكلمة منحى كتاب العصر العباسى من أمثال الجاحظ، فهى جزلة الألفاظ، قوية فى الصياغة ،تخير الشاعر كلماتها وتأنق فى التعبير بها، فجاءت آية من البيان العربى البليغ، وكانت موضع حوار بين العميد وبعض الصحفيين، فهؤلاء يرون أن الشاعر تكلف فى كتابتها، وكان رأى العميد غير ذلك، فالكلمة طيبة وموفقة، ولا يؤخذ عليها جزالة ألفاظها مادامت غير مستكرهة ولا متكلفة.
يضيف «الدسوقى» أن الحديث تطرق إلى ما يكتب باللغة العامية، فحمل العميد على هذه اللغة والذين يكتبون بها، وأنه قال: "لا يمكن أن تكون وسيلة للفكر والأدب، والداعون إليها أعداء العروبة والإسلام".
هذا الخبر منقول من اليوم السابع