موقف دبلوماسي مصري، اتسم بحالة من الحزم والحسم، في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة، وصلت إلى حد الإبادة الجماعية، عبر استهداف المنازل والمستشفيات ودور العبادة، وحتى الدعوات المتطرفة بقصف غزة بالقنابل النووية، والتي أطلقها مؤخرا أحد الوزراء بحكومة بنيامين نتنياهو، بينما لا يحرك المجتمع الدولي ساكنا في مواجهة "جرائم حرب" متكاملة الأركان ترتكبها قوات الاحتلال على مدار الساعة منذ ما يقرب من شهر، في انعكاس صريح لمباركة مثل هذه الممارسات التي تعكس، ليس فقط طبيعة انتقامية، وإنما أيضا حالة من العجز لدى جيش الاحتلال، في تحقيق الأهداف المعلنة.
الموقف المصرى تجلى في أبهى صوره في القرار الذي اتخذته القاهرة، حول ارتباط عبور الأجانب ومزدوجي الجنسية، من القطاع، بضرورة التوقف عن قصف المستشفيات في قطاع غزة، وعدم استهدافها، تحت شعار "حماية المدنيين أولا"، وهو ما يعكس امتلاكها من "الأوراق" ما يسمح لها بالمناورة، وفرض إرادتها في مواجهة عالم، تكشفت ازدواجيته، في ظل قبوله لما يشهده القطاع من انتهاكات تقشعر لها الأبدان، طالما ارتكبتها إسرائيل، بينما يرفع "لواء" الدفاع عن حقوق الإنسان، في مواجهة خصومه، أو المحلقين بعيدا عن أفلاكه، وهو ما يعكس حالة استثنائية من "الصمود" الدبلوماسي، الذي يقدم دعما كبيرا لسكان القطاع في مواجهة الآلة العسكرية المتوحشة، التي قتلت آلاف الأطفال والنساء، وهو ما يمثل تحديا جديدا، واجهته مصر، بعدما استطاعت الوقوف أولا أمام محاولات تصفية القضية الفلسطينية، عبر دعوات التهجير.
وبالنظر إلى أوراق الدبلوماسية المصرية، في التعامل مع أزمة غزة، نجد أنها سارت على العديد من المسارات، ربما أبرزها التنسيق مع دول العالم، سواء جمعيا، عبر قمة "القاهرة للسلام"، والتي عقدت في 21 أكتوبر الماضي، بالعاصمة الإدارية الجديدة، أو فرديا، من خلال اللقاءات المتعددة التي أجراها الرئيس عبد الفتاح السيسي مع العديد من قادة العالم وزعمائه، من أجل خلق توافقات، حول ثوابت لا يجوز الحياد عنها، وفي القلب منها ما يرتبط بمحاولات تصفية القضية، ودعوات التهجير، ناهيك عن وصول المساعدات الإنسانية.
وفي الواقع، حققت مصر نجاحا منقطع النظير فيما يتعلق بملف المساعدات الإنسانية لقطاع غزة، وهو ما بدا في دخول القوافل الإغاثية تزامنا مع انطلاق القمة، وهو ما يمثل قدرة الدولة المصرية على فرض إرادتها، بينما حققت توافقا دوليا حول رفض دعوات إسرائيل المشبوهة حول تهجير الفلسطينيين، لتحقق انتصارين أولهما إنساني، يتجسد في وصول الغذاء والدواء لسكان غزة المحاصرين بالقنابل الإسرائيلية من جانب والأخر سياسي يتجسد في تقويض محاولات الاحتلال لتصفية القضية، عبر تجريد الدولة الفلسطينية المنشودة من أحد أهم أركانها وهو مواطنيها.
والحديث المصري عن ارتباط خروج الأجانب ومزدوجي الجنسية من القطاع، بالتوقف عن قصف المستشفيات بقطاع غزة، يمثل استمرارا للمعركة الإنسانية التي تخوضها الدولة المصرية، في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية، حيث تدفع دول العالم نحو الضغط على حكومة الاحتلال من أجل التهدئة، وعدم ملاحقة سيارات الإسعاف التي تقل الجرحى، وهو ما يعكس "إنسانية" الهدف، في الوقت الذي تخلى فيه الغرب عن دعاياته الإنسانية.
وتكمن القوة الكبيرة التي يحظى بها الموقف المصري، في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية في غزة، في العديد من الأبعاد، ربما أبرزها اعتراف العالم، بما تمتلكه القاهرة من قدرة على احتواء الموقف، في قطاع غزة، وفي القلب منه تقديم غطاء من الحماية لمواطني الدول الأخرى، خاصة بعدما نجحت قبل شهور معدودة من نقل آلاف الرعايا من كل دول العالم، الذين كانوا متواجدين بالسودان، إبان اندلاع الصراع هناك في أبريل الماضي، إلى أراضيها، تمهيدا لعودتهم إلى بلدانهم، مما ساهم في تعزيز الثقة الدولية في قدرتها على تكرار الأمر نفسه في أزمة غزة.
الموقف المصري الحازم تجاه قصف المستشفيات في قطاع غزة، يبقى مدعوما بحالة الغضب الشعبي لدى العديد من شعوب العالم، من مشارق الشمس إلى مغاربها، جراء الجرائم التي يرتكبها الاحتلال، ومن بينهم قطاع كبير في إسرائيل نفسها، وهو ما يبدو في التظاهرات التي أطلقها ذوى الأسرى الإسرائيليين، أمام السفارة المصرية في تل أبيب مطالبين بموقف مصري من شأنه حماية ذويهم وتحريرهم، في انعكاس لثقة كبيرة في قدرة الدولة المصرية، باعتبارها "مركز الحل" للأزمة الراهنة، في الوقت الذي انعدمت فيه الثقة في حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، سواء في تحرير الأسرى أو حتى تحقيق الأهداف التي أعلن عنها وراء الحرب التي يخوضها في غزة.
وهنا يمكن القول بأن الدولة المصرية تخوض معركة إنسانية، منذ بداية الأحداث في غزة، تجلت في مرور القوافل الإنسانية رغم أنف الاحتلال، بينما تواصلها عبر إجباره، ومن وراءه حلفائه، على عدم استهداف المستشفيات والسماح بعبور الجرحى الفلسطينيين إلى أراضيها، لتلقى العلاج دون استهداف أو ملاحقة.
هذا الخبر منقول من اليوم السابع