العالم يحبس أنفاسه يترقب لتطورات الأوضاع على الحدود بين أوكرانيا وروسيا، الكل ينتظر هل هناك حرب أم أن الحلول الدبلوماسية قد تنجح في تخفيف من حدة التطورات الملتهبة؟، بيانات من هنا وهناك، هذا الفريق يشجب ويدين والآخر يطالب بضبط النفس حقنا للدماء وتفادى أي خسائر في فادحة في الأرواح والممتلكات لكن المتابع للمناوشات خلال الأشهر الماضية بين الاتحاد الأوروبى وروسيا سيعلم أن نقطة التصادم كانت قادمة لا محال.
المناوشات بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبى من ناحية، وروسيا والدول الحليفة مثل بيلاروسيا لها من ناحية أخرى، كانت مستمرة على مدار العام الماضى، وتمركزت تلك الصراعات في دول شرق أوروبا وتمحورت خلال تلك الفترة على حول قضايا اللجوء والهجرة.
وفى أواخر مايو الماضى، زادت حدة الخلاف بين الاتحاد الأوروبى وبيلاروسيا بعدما تم تحويل مسار طائرة كانت تمر عبر الأجواء البيلاروسية، تقل على متنها الصحفى البيلاروسى المعارض رومان بروتاسيفيتش أثناء توجهها إلى فيلنيوس، عاصمة ليتوانيا، وتم القبض على الصحفى بعد إجبار الطائرة على الهبوط، وردًا على هذا الموقف خرجت أصوات أوروبية تطالب بتوقيع أقسى العقوبات على الحكومة البيلاروسية وطالبت بإجراء إصلاحات سياسية، وفى المقابل ترد دولة بيلاروسيا بأن الاتحاد الأوروبى يريد مصلحته فقط لا غير والدليل ما يفعله فى قضايا اللجوء والهجرة، وإذا تم وضعه فى اختبار لاستقبال أعداد من المهاجرين سيظهر وجهه الحقيقى!
وبالفعل على مدار أشهر، تدفق الآلاف على الحدود بين بيلاروسيا ودول الاتحاد الأوروبى الثلاثة بولندا وليتوانيا ولاتفيا، أملا فى اجتياز أراضيها متجهين نحو دول غرب أوروبا، وتحديدا ألمانيا لوجود فرص سانحة للحصول على اللجوء.
كواليس تلك الموجة من الهجرة واللجوء على حدود الاتحاد الأوروبى، حاولنا التعرف عليها عن قرب خلال رحلة استمرت لعدة أسابيع ما بين السفر إلى 3 دول أوروبية، بدءًا من العاصمة الألمانية برلين، ثم المرور على عدة مدن فى بولندا، بعدها فى ليتوانيا، مع تتبع كل أطراف الأزمة سواء مع المهاجرين فى بيلاروسيا أو الذين ساعدوهم على السفر داخل بلادهم فى الوطن العربى من شركات سياحة بالإضافة إلى الكشف عن شبكات تمويل عمليات التهريب عبر الحدود.
الطريق نحو مينسك!
مكاتب وشركات السياحة كانت كلمة السر الأولى لموجة الهجرة عملت على تتبع إعلاناتها عبر منصات التواصل الاجتماعى والتواصل مع بعض ممثليها.
على اعتبار أنى شاب سورى يرغب فى السفر إلى مينسك وتواصلت عبر تطبيق تليجرام مع مكتب سياحة مقره فى لبنان بحسب ما أعلن، وقالت ممثلته إن السفر إلى مينسك سهل ومضمون خصوصا أنهم يتعاونون مع السفارة البيلاروسية فى لبنان، وأن فى السفارة يوجد خط تواصل مع أحد الشركات السياحة الكبرى فى بيلاروسيا لكنها لا تذكر اسمها ويتم تدبير مكان الإقامة خلال فترة تواجدك لمدة أسبوع، وكل ذلك مقابل ألفى يورو.
وعبر تليجرام أيضًا، تواصلت مع مكتب مقره العراق بحسب ما أعلن، أخبرت الموظف المسؤول بأنى مقيم فى ألمانيا حاليا، وأن هناك أصدقاء فى بلاد مختلفة يرغبون فى الهجرة عبر بوابة مينسك، وكان الموظف متعاون معى فقدم أكثر من عرض أبرزهم وجود تأشيرة إلى بيلاروسيا تصدر خلال 15 يوما، وأن السعر 3 آلاف يورو مقابل كل فيزا. كما أن هناك عرض أخر لاستخراج فيزا إلى بيلاروسيا من سوريا يتم إصدارها خلال 10 أيام فقط، وذلك مقابل 3100 دولار.
الوصول إلى مينسك يعتبر المحطة الأولى في رحلة العبور نحو المجهول، كما أنه يعد المرحلة الأسهل، ويبقى الجزء الأصعب هو التوجه نحو الحدود، ومحاولة العبور إلى الاتجاه الأوروبى سواء عبر بولندا أو ليتوانيا أو لاتفيا، وقد كان البعض محظوظا في اجتياز تلك العقبة بسهولة خلال الفترة الأولى من موجة الهجرة، لكن بعد ذلك أصبحت هناك تشديدات أمنية من الجانب الأوروبى، لذا بدأت ظاهرة ما يعرف بالمهربين أو تجار البشر في التنامى، وباتت الأغلبية تبحث عن مهرب يساعدها.
العثور على مهرب لم يكن أمرا صعبا خصوصا أنه منذ بداية الأزمة كنت متابعا جيدًا لجروبات الخاصة بالهجرة إلى أوروبا على فيسبوك وتطبيقى واتس آب وتليجرام، والتى يعتبرها البعض فى أوروبا أحد سبل زيادة حجم موجة الهجرة، ومن خلالها كان من اليسير علىّ العثور أرقام أشخاص يعلنوا عن أنفسهم باعتبارهم مهربين عبر الحدود.
أول مهرب تواصلت معه كان يزعم أن عملية التهريب تتم بالاتفاق مع الجيش البيلاروسى. وتفاصيلها تتمثل فى الآتى:" الطريق من بلاروسيا إلى ألمانيا.. سيارات من الفندق في منسك الى الحدود ثم العبور إلى بولندا بالاتفاق مع الجيش البلاروسي بعدها المشي داخل بولندا 25 كيلو متر، والتكلفة 3000 يورو ويحظر اصطحاب الأطفال أو كبار السن".
عندما تحدثت مع هذا المهرب وجدت أن رقمه مسجل فى بيلاروسيا باسم "مهرب" باللغة العربية، وذلك عبر خاصية "true caller"، وحاولت الحديث معه عن كيفية التحقق من أنه لن يقوم بالاحتيال علىّ مثلما يفعل آخرين، ورغم غضبه لكنه أكد أن أموالى سيكون مؤمن عليها فى أحد مكاتب التأمين، ولن يحصل عليها إلا بعد إعطاءه كلمة السر!
وللتوضيح فإن مكاتب التأمين هي عبارة عن مكاتب أغلبها ظاهريا يعلن عن نفسه باعتبارها أماكن للتحويلات المالية والتجارة لكنها من الباطن هي عبارة عن أماكن تحتفظ بالأموال للأطراف المتعددة في عمليات التهريب غير شرعية، وذلك مقابل الحصول على نسبة محددة من المبالغ المالية، كما أنها تتواجد في صور أخرى في بلاد الاتحاد الأوروبى مثل المطاعم أو محلات تجارية يعمل أصحابها بنظام التسليم والتسلم المتوارى عن الأنظار
انتقلت للحديث مع مهرب آخر، رقمه مسجل فى صربيا، وهذه المرة أخبرته أنى أريد طريق يصلح لشباب وآخر لعائلات بها أطفال وكبار ونساء، فى البداية قالى لىّ أنه يجب على الانتظار حتى تستقر الأوضاع على الحدود وعندما يحين الوقت المناسب سيتم إبلاغى.
وحول تفاصيل الرحلة قال إن السعر سيكون 2800 يورو للفرد، هناك سيارة ستأخذك من مينسك إلى الحدود وبعدها يكون هناك سير على الأقدام لمسافة تتراوح من 8 إلى 15 كيلو متر، وتكون عبارة عن مجموعة واحدة تسير بواسطة GPS يمتلكه شخص واحد.
واشترط المهرب ألا يتجاوز عدد المجموعة 6 أشخاص، وبعد الوصول إلى آخر نقطة فى بولندا يتم التحميل بسيارة إلى ألمانيا، وهناك يتم إيداع الأشخاص بمكان أمان فى فرانكفورت أو برلين.
وأشار المهرب أنه ينبغى على كل شخص ضرورة حمل مصروف يتراوح ما بين 150 إلى 300 دولار وإغلاق كل الهواتف أثناء عبور الحدود، كما أنه سوف يتم اختيار قائد للفريق يمكن الاعتماد عليه وعلى دراية ممتازة باستخدام تطبيقات الـ gps.
فى نفس اليوم تحدثت مع مهرب آخر، وأكد لىّ أنه يعلم طريق متاح رغم أن المهرب الآخر أخبرنى بصعوبة التنقل على الحدود فى الوقت الراهن، وأشار إلى أن الطريق عبارة عن سير لمدة 20 كيلو بعد العبور من الحدود البولندية ثم السفر إلى ألمانيا بعد ذلك.
وجاء تفاصيل الرحلة المعروضة من المهرب كالتالى :"بدون شخص يرافقك فى رحلة السيرة تدفع 3250 يورو، ومع شخص يرشدك الطريق تدفع 4 آلاف يورو، ومع شخص يوصلك حتى نقطة السيارة التى ستنقلك إلى ألمانيا تدفع 5 آلاف يورو، والدفع يكون عن طريق مكتب تأمين".
كما تحدثت مع مهرب آخر يشير رقمه إلى وجوده فى فيتنام وقدم لىّ العروض التالية :"الأول طريق عبارة عن سير على الأقدام 15 كيلو فى الغابات والعبور من الحدود البولندية، وبعدها استقلال سيارة إلى ألمانيا والثمن 2800 يورو، تكون المجموعة مكونة من 4 أشخاص، بينما يوجد طريق آخر بدون سير على الأقدام وبحسب وصف المهرب لن تسير فيه متر واحد، وتستقل فيه سيارة لكن الثمن سيكون 7 آلاف يورو".
طريقة أخرى استخدمها المهربين لاستنزاف المهاجرين خصوصا ممن تعرضوا لعمليات نصب أو أنهم لا يثقون في إعلانات المهربين عبر مواقع التواصل الاجتماعى، لذا بدأ البعض في الإعلان عن وجود سيارات يمكنها اصطحاب المهاجرين من نقط الوصول بمعنى أنه عندما تعبر إلى نقطة محددة داخل بولندا أو ليتوانيا يمكن الاتصال بأرقام تقوم باصطحابك إلى ألمانيا، وتحصل على مقابل مادى يتراوح ما بين 400 إلى 800 يورو.
الحديث مع بعض المهربين يوحى بأن العبور إلى غرب أوروبا واختراق حدود الدول يشبه رحلات التخييم فى الغابات لكن ما كشفته شهادات للمتواجدين فى مينسك وعلى الشريط الحدودى كانت أمرًا مرعبًا، وذلك بعدما تواصلت معهم عبر تطبيقات التواصل المختلفة!
سالم _اسم مستعار_ شاب عراقى عمره "25 عاما" ويعمل في مجال الإدارة الصحية يحكى عن تجربته قائلا: "12 يوما قضيتها فى غابات بيلاروسيا أحاول العبور إلى بولندا دون نجاح، فقد كان على يوميا مقاومة برودة الجو والسير فى المستنقعات ومكافحة الجوع والعطش".
ويضيف الشاب العراقى :"كنت أشعر أنى لعبة فى يد الجنود البيلاروس هناك لا يريدون منا العودة إلى مينسك فقط يقولون لنا اذهبوا إلى بولندا، من يتوقف عن السير فى الاتجاه الآخر يتعرض للضرب المبرح ويرفضون إعطاءنا المياه أو أى طعام حتى لا نكف عن محاولة العبور إلى الجانب الآخر رغم أنه يعلمون جيدًا أن العبور مستحيل فى ظل الحشد الأمنى الرهيب من الجانب البولندى".
"كنت محظوظا بالعودة برفقة عدد من زملائى إلى العاصمة مينسك مرة أخرى والانتظار حتى تتضح الصورة أكثر عبر الحدود فقد شاهدنا البعض ينهار من البرد والجوع والبيلاروس لا يبالون، فقد سمعنا أنهم كانوا يساعدون مجموعات سبقت على العبور إلى الجانب البولندى، لكن هذا الأمر أصبح أكثر صعوبة منذ التشديد من قبل الجانب البولندى والليتوانى".. هكذا اختتم سالم حديثه معى.
وتعليقا على انتشار لقطات فيديو عبر السوشيال ميديا تظهر وجود اشتباكات بين مهاجرين وعساكر بولنديين، قال شاب لبنانى رفض ذكره اسمها:"هل تعتقد أن هناك مهاجر يريد الاشتباك مع عساكر مسلحين وعلى أعلى قدر من الجاهزية للهجوم.. الجنود البيلاروسى أحيانًا يعطون شباب مهاجرين أدوات ليزر وقنابل غاز مسيلة للدموع للهجوم على الجانب البولندى، وإذا لم تفعل ذلك ستتعرض للضرب المبرح خصوصا إذا كان قائد الدورية عنصرى".
وأضاف الشاب اللبناني: "أيضًا فى أوقات كان الجنود البيلاروسى يأخذون مجموعات ويعلمونهم كيف يمكنهم قطع السياج الحدودى من أجل العبور وإبلاغهم ببعض النقاط الذى لا يمكن أن يجدوا فيه جنود بولنديين، وأحيانًا لتحصل على تلك الخدمة منهم يجب أن تدفع أموال لرئيس الدورية".
وتابع :"المؤسف الأكثر أنه بعد العبور يمكنك أن تقع فريسة لأشخاص يرتدون زى مدنى يسرقون كل شيء منك ويتركونك مما يجعلك مضطرا للعودة إلى الجانب البيلاروسى وإلا ستموت تائهًا فى الغابات بدون أن يعرف أحد حتى أنك فقدت حياتك، وبالفعل فقدنا الاتصال بعدد من رفاقنا ولا نعرف عنهم أي شيء هل تمكنوا من العبور أم ماتوا أم تم القبض عليهم من أى جانب؟ ".
شاب لبنانى ممن ذهبوا إلى الحدود وعادوا إلى مينسك أشار إلى نقطة خاصة تتعلق بعمليات الاحتيال التى يقوم بها المهربين، قائلاً :"كل ما يهم تجار البشر أموالنا فقط لا غير وبعد تعرضنا إلى عمليات نصب متعددة، نصحنا أصدقاء بالاتفاق مع مهرب بيلاروسى سيكون أكثر دراية بالمكان، لكننا فشلنا في العبور وسرقنا المهرب ورحل".
وضع ملتهب فى بولندا!
"العبور إلى بولندا أو ليتوانيا أولاً ومنها الانطلاق إلى ألمانيا فى المقام الأول أو أى دول أخرى من دول الاتحاد الأوروبى".. يعتبر هذا حلم لجميع المهاجرين العالقين على الحدود لكن ماذا ينتظرهم فى الجانب البولندى أو الليتوانى؟
فى مطلع سبتمبر الماضى، قررت السلطات البولندية فرض حالة الطوارئ على حدودها مع بيلاروسيا، وبالتالي حظر وصول وسائل الإعلام إلى المنطقة المعنية، وتقييد وصول الأشخاص الآخرين من غير سكان المنطقة الحدودية.
منذ بداية أزمة المهاجرين فى بولندا وقد برز دور المنظمات غير الحكومية مثل مجموعة الحدود والخبز والملح وغيرها فى تقديم الدعم من تقديم أطعمة وشراب وملابس والرعاية الطبية وأحيانا الاستشارات القانونية لمن عبروا إلى بولندا وطلبوا اللجوء، لذا أجريت اتصالات مع عدد من ممثلى تلك المنظمات للاستماع لحكاياتهم وكانت الناشطة ماريشا زولنكوفيتش، من الذين التقيتهم أثناء رحلتى فى بولندا داخل قصر الثقافة فى العاصمة وارسو.
تحكى ماريشا عن بداية عملها :"أول مجموعة عثرنا عليها كانت مكونة من جنسيات مختلفة ما بين عراقى وسورى ومنهم من طلب اللجوء فى بولندا لأنه كان لديه ظروف سياسة فى بلدهم، وكان أحدهم مسيحى ولديه أصدقاء هنا فى الكنسية لذا كان قراره باللجوء فى بولندا"، مضيفة :"ليس كل المهاجرين يريدون العبور إلى ألمانيا بعضهم أراد البقاء فى بولندا". وتابعت :"مع بداية الأزمة كنا نتلقى أسئلة من السكان المحليين فى القرى الحدودية عن التصرف الأمثل عند مقابلتهم للمهاجرين، وهل يقعون تحت طائلة القانون إذا ما ساعدوا المهاجرين أم لا؟، لكن بعد صدور قانون الطوارئ أصبحت القصة مختلفة تمامًا، ويجب على الجميع الإذعان للتعليمات الرسمية المتمثلة في عدم التواجد بالمناطق المحظورة والإبلاغ في حالة رؤية أي مهاجرين عبور الحدود، ورغم ذلك هناك من يريد المساعدة".
وعن تعامل حرس الحدود البولندى مع المهاجرين، علقت الناشطة :"رصدنا كعاملين فى المنظمات غير الحكومية العديد من الانتهاكات مثل تعدى الحراس بالضرب على مهاجرين والركل بالأقدام حال سقوطهم على الأرض، ورشهم بالمياه".
بالتأكيد أى صحفى يرغب فى زيارة الحدود البولندية البيلاروسية لرؤية ما يحدث على أرض الواقع لكن قانون الطوارئ يجعل الأمر صعبا، بينما ما يجعله مستحيلا من وجهة نظر سائق بولندى عرضت عليه فكرة توصيلى إلى أقرب نقطة ممكن هى ملامحى العربية، وأن قوات الأمن ربما تفكر أننى مهاجر أو مهرب، وفى حالتين ستكون هناك مشكلة لا محالة بالنسبة لأى شخص يساعدنى!
كان هناك خيارًا بديلا يتمثل فى السفر إلى قرية بوهينيكى الحدودية ورغم أنها خارج المنطقة المحظورة لكنها اكتسبت شهرة واسعة بعد استقبالها جنازات مهاجرين لقوا حتفهم على الحدود وتم دفنهم بواسطة أهالى القرية فى مقابر المسلمين، كما أنه سبق لأهلها استقبال مهاجرين.
للوصول إلى بوهينيكى أو القرى المجاورة تحتاج إلى السير فى طرق ضيقة ومتعرجة ومن حولك مساحات خضراء شاسعة وأحيانا غابات مُخيفة، لذا فالاعتماد على المواصلات العامة يبدوا مستحيلا، ويزداد الأمر سوءًا إذا كان المسافر فى هذه الأنحاء غريبا عنها وربما يصل إلى حد الكارثة الوشيكة إذا كان من المهاجرين السائرين على الأقدام والقادمين على الحدود.
كلما اقتربت من بوهينيكى وجيرانها ستشعر بأن حرارة الجو تتجه إلى البرودة الشديدة، ما سيلفت انتباهك فى النهاية رؤية علامة على الطريق تشير إلى وجود المسجد التاريخى بالقرية المسلمة الأشهر فى بولندا، وبعدها ستجد نفسك أمام منازل محدودة العدد.
عندما وصلت بالسيارة إلى تلك القرية برفقة سائق بولندى، رأيت البعض من السكان يتطلع إلى من خلف النوافذ ولم يرغب أحد فى الحديث معى، بعدها توجهت مباشرة إلى المسجد، للسؤال للبحث عن أى شخص يمكنه مساعدتى، وبالفعل وجدت رجل وسيدة يقفون فى الجهة المقابلة للمسجد أمام مطعم موضوع عليه لافتة باللغة العربية: "بيت الحجاج فى بوغونيكى"!.
تقدمت للحديث إلى الرجل والسيدة برفقة السائق البولندى الذى تولى عملية الترجمة وعرفهم بما جئنا لنفعله فى القرية"، وبالفعل رحب الرجل بالحديث معنا وعرف نفسه بأنه زعيم الجالية المسلمة في بوهونيكي، ماسيج تشيزنوفيتش.
هل اختلفت أوضاع القرية أو غيرها من القرى الحدودية منذ بداية الأزمة؟.. أول سؤال طرحته على زعيم الجالية المسلمة فى القرية، وأجابه أنه فى تقديره الأمر لم يختلف كثيرًا، بالتأكيد الكل يتابع ويراقب ما يحدث عن كثب لكن فى النهاية الحياة اليومية مستمرة بصورتها الطبيعية. بعدها سألته عما إذا كان أهل القرية أو غيرها من القرى يقومون بإبلاغ حرس الحدود أو البوليس إذا ما شاهدوا أى مهاجر بالقرية، قال: "هذا ما يجب أن يحدث".
ذكرت السيد تشيزنوفيتش بمشاهد الصلاة على المهاجرين ضحايا الأجواء القاسية على الحدود ومراسم دفنهم من قبل أهالى قريته، وعن هذا الدور علق:"هذا واجب دينى.. وتعاليم الدين الإسلام تحتم علينا فعل هذا، لا ينبغى أن تلقى الجثث فى الغابات، هذا لا يجب أن يحدث أبدًا، وأنا أيضًا من فترة لأخري أحضر الحساء الساخن وأذهب به إلى الحدود وتقديمه للمهاجرين والحرس كلهم سواء".
بعد جولة فى أنحاء المسجد الخشبى الصغير، والاستماع لخطبة استمرت لمدة 10 دقائق من السيدة البولندية عن تاريخ المسجد ومكانة المنطقة الأثرية، قلت للسيدة أن هناك من يقول على منصات الانترنت أن تواجد المهاجرين فى القرى البولندية يسبب إزعاج لسكانها أو يشعرهم بالخوف، أجابت:"لا أشعر بالخوف من تواجد أى شخص هنا، وأنى على استعداد لتقديم المساعدة لأى إنسان.. ما أرغب فيه ألا يموت شخص آخر بسبب البرد والجوع".
نقطة أخرى أثارت انتباهى تتعلق برسالة تلقيتها عبر هاتفى أثناء توجهى نحو قرية بوهينيكى تتحدث عن أن الحدود مغلقة وأن السلطات البيلاروسية تردد الأكاذيب وعليك العودة إلى مينسك ولا تتناول أى حبوب من الجنود البيلاروس!
فى ثنايا تلك الرسالة استوقفنى التحذير من تناول أى حبوب، لذا تواصلت مع ماجدة، ناشطة تعمل على مساعدة المهاجرين على الحدود، وأجابت علىّ قائلة:"نحن نعتقد أنها مخدرات لأنه كلما طلب المهاجرين من جنود الحدود دواء، يعطوهم نفس الحبوب بنية اللون".
عدت لأتوجه بالسؤال عن سر تلك الحبوب من المهاجرين الذين يتواجدون على الحدود أو عادوا إلى مينسك أو حتى عبروا إلى ألمانيا، وتنوعت إجاباتهم ما بين عدم العلم أو أنهم كانوا فى حالة لا تسمح لهم بالتميز ماذا يأخذون؟، لكن البعض أجاب علىّ بأنهم عندما سألوا عن سر تلك الحبوب توصلوا بأنها تعمل على خفض حرارة الجسم ولها تأثير شراب الفودكا!، وفى المقابل تكتفى السلطات البيلاروسية بالتعليق أنها تقدم الرعاية الطبية للمهاجرين وأن ما يردده الجانب البولندى والأوروبى عموما عبارة أكاذيب.
بعد عودتى من القرية الحدودية كان على التعرف على آراء الجالية العربية التى تعيش فى بولندا، لذا أجريت عدة حوارات معهم وكانت السمة الأبرز اشتراط الحديث بدون الكشف عن هويتهم!
رجل أعمال من أصل سورى يعيش فى بولندا منذ 35 عاما، يرى أن تجار البشر ممن يقنعون الآلاف بأنه قادر على إيصالهم إلى أوروبا بسهولة يرتكبون أفظع جريمة فى حق الإنسانية كلها ولا هدف لهم سوى الحصول على آلاف اليورهات.
"المجتمع البولندى هنا يستغرب من المهاجرين الذين يأتون إلى الحدود ويخاطرون بأرواحهم رغم أنهم خروج من بلادهم بصورة طبيعية عبر تأشيرات سياحية ورحلات طيران منتظمة، فهم لا يعانون من ويلات حرب دائرة فى الوقت الراهن".. هكذا تابع رجل الأعمال السورى حديثه.
"لماذا لا يذهب المهاجرون من سوريا واليمن والعراق إلى البلاد العربية مستقرة الأوضاع؟".. سؤال طرحه البعض فى بولندا وكررته على رجل الأعمال السورى فأجاب:" من ينظر لأوضاع الشرق الأوسط سيفهم جيد سر موجات الهجرة، فالدول المجاورة لسوريا على سبيل المثال لم تعد تستقبل أحد، وبالنسبة لمصر فقد استقبلت عشرات الآلاف ويعيشون بداخلها مثلما يعيش المصريين لكنها في النهاية بلد في حالة تنمية اقتصادية.
هنا ليتوانيا.. ماذا عسانا أن نفعل؟!
من بولندا سافرت إلى ليتوانيا وفى العاصمة فيلينوس وجدت الوضع مختلفا، البعض لا يعرفون الكثير عما يحدث على الحدود، ويحصلون على معلوماتهم من القنوات الرسمية، وبالتالى هناك موقف متشدد تجاه المهاجرين لمسته فى عدد من مقابلاتى والمبرر دائمًا أن ليتوانيا بلد صغير ولا يمكنه تحمل موجات الهجرة أو اللجوء، إضافة إلى ذلك وجود اتهام دائم بأن بيلاروسيا محرك رئيسى وراء الأحداث الأخيرة.
على عكس ما وجدت فى بولندا من شبكة متكاملة لمساعدة المهاجرين وطالبى اللجوء أو حتى اللاجئين بالفعل فى وارسو، الوضع فى ليتوانيا لم يكن على أفضل حال، وبعد البحث على منصات التواصل عثرت على مجموعة اسمها "Sienos Grupė" أو ما يعنى مجموعة الحائط، تواصلت مع القائمين عليها وبالفعل تلقيت منهم دعوة لزيارة مقر عملهم الكائن فى بلدة رودش.
الدعوة للمقابلة كانت فى تمام الساعة السابعة مساءً، لذا استقليت القطار من المحطة الرئيسية فى فيلينوس ومنها إلى رودش، وبعدها كان علىّ استقلال سيارة أخرى من أجل الوصول إلى مقر عمل المجموعة لكننى لم أجد لذا ذهبت سيرا على الأقدم.
خلال الـ 30 دقيقة سيرا على الأقدام فى هذا المكان المعتم وفى درجة حرارة – 13، كانت فرصة التفكير مليًا، فى المئات الذين يتواجدون فى الغابات أو على الحدود ، كيف يمكنهم الصمود فى مثل هذه الأوضاع؟.. التفكير فى حد ذاته كان مثيرًا لموجة شديدة من الكآبة والحزن عن مصير هؤلاء المهاجرين خصوصا العائلات التى لديها أطفال!
داخل مكتب مجموعة الحائط كان ميرك دورسك أول من قابلت وبعد حديث معه لعدة دقائق بدأت أسأله عن عدة أمور داخلية متعلقة بالشأن الليتوانى، ليجيب علىّ بأنه بولندى جاء للمساعدة على الجانب الليتوانى بسبب قلة عدد المتطوعين بالمقارنة مع بولندا.
كان ميرك يجلس وسط غرفة صغيرة أمامه جهاز لاب توب وبجانبه هواتف، ومن حوله أكوام من أطعمة وملابس وأحذية ومستلزمات طبية واسعافات أولية وحقائب ظهر وغيرها من أمور مستخدمة فى عمليات الإنقاذ.
فى هذه الليلة كان عضو مجموعة الحائط على تواصل مع مجموعة تضم أطفال عالقة فى الغابات على الحدود، وبدى عليه الانزعاج والحزن الشديد والسبب أن الوصول إلى مكانهم صعب للغاية فلم يجد شيئا يفعله سوى النصيحة بالعودة إلى مينسك خوفا من الموت بردًا. وجوعا.
أيضًا التقيت ريتا مؤسسة مجموعة الحائط، وأكدت أنها شرعت فى تكوين تلك المجموعة بعدما وجدت أناس مثقفين يعتقدون أن كل شيء على الحدود على ما يرام كما تخبرهم البيانات الرسمية خصوصا بعد إقرار قانون الطوارئ.
قالت ريتا:"فى بداية عملنا على تكوين الجروب كان هناك بادرة إيجابية من فتاة ألمانية أعلنت استعدادها للمجيء إلى ليتوانيا للإشراف على مناوبات مساعدة المهاجرين وتلقى رسائلهم، ثم بعد ذلك توالت طلبات المتطوعين من الداخل والخارج".
وعن دفاعها نحو استكمال عملها رغم وجود انتقادات داخلية تقول ريتا :"عندما تجد عائلة ومعهم أطفال يصرخون من الجوع والبرد، مثلما حدث معنا فى أحد المرات هل يجب أن نقف صامتين؟.. للأسف كل ما نملكه تقديم الطعام والمستلزمات الأخرى إذا اتيح لنا هذا من قبل حرس الحدود؟!".
نقطة أخيرة طرحتها للنقاش مع ريتا متعلقة بأوضاع مركز طالبى اللجوء، علقت :"معظم المهاجرين على الحدود يريدون السفر إلى ألمانيا لكن البعض يرغب فى اللجوء فى ليتوانيا لكن يواجهون مشاكل مثل وضعهم فى مراكز الاحتجاز أو سجون بمعنى أصح ويتعرضون للعنف أحيانًا لحين بحث طلباتهم، وذلك عوضا عن محاولة دمجهم فى المجتمع عبر برامج متخصصة".
حاولت زيارة أحد مراكز احتجاز المهاجرين في ليتوانيا، وتمكنت من الوصول إلى شباب عربى يعملون كمترجمين بها، أخبرنى بعضهم أن طلب الزيارة قد يستغرق وقتا قبل الموافقة أو ربما يرفض فى النهاية بأى داعى مثل الوقاية من فيروس كورونا، وما عوضنى عن تلك الزيارة الرسمية، تواصلى هاتفيا مع مجموعة شباب عراقى محتجزين فى واحد من تلك المراكز تحدثوا بدون الكشف عن هويتهم.
عباس "25 عاما" حاصل على درجة الماجستير فى القانون، حاول الهجرة عبر بوابة مينسك منذ 5 أشهر تقريبا، كان ضمن مجموعة مكونة من 4 أشخاص، بعد عمليات كر وفر عثر عليهم حرس الحدود الليتوانى فى الغابات، رفعوا عليهم السلاح وتم إلقاء القبض عليهم، وبعد اصطحابهم لأقرب نقطة شرطة تم سؤالهم تريد اللجوء فى ليتوانيا أم الذهاب إلى ألمانيا البعض طلب اللجوء فى الليتوانيا.
يقول عباس :"صدمنا بشدة عندما علمنا أنه تم كتابة أن تغيير رغبات البعض من طالب اللجوء فى ليتوانيا إلى الرفض والرغبة فى السفر إلى ألمانيا على عكس ما حدث عندما تم القبض علينا على الحدود"، مضيفا :"المشكلة إذا لم تكن تريد اللجوء فى ليتوانيا، يتم حبسك لمدة 3 أشهر انفراديا وبعدها يتم ترحيلك إلى بلدك أو تزيد العقوبة إلى 6 أشهر وهذا حدث مع البعض".
يضيف الشاب العراقى :"تقدمت بطلب اللجوء ومرفق بها كل مبرراتى لكن تم رفضه ومازالت أحاول الاستئناف، المشكلة هنا أنها لا يتم إعطاءك فرصة للتعبير عن وضعك، كما أنه لا يوجد من يقدم المشاورات القانونية حتى أنى تواصل مع أحد المحامين طلب منى مبلغ مالى وبعدما حصل عليه تواصل معى وقال لقد رفض طلبك، ولم يرد على مرة أخرى".
واختتم عباس حديثه :"أكثر ما ضايقنى اتهام بعض الحراس لنا فى المراكز بأننا عملاء لبيلاروسيا ولوكاشينكو.. والحقيقة أن بعض الشباب هنا لا يعرف من هو لوكاشينكو بالأساس؟".
لايزال عباس وزملائه يواجهون مصيرا مجهولا خاصة أنه بحسب آخر بيان لوزارة الداخلية الليتوانية فإنه تم فحص طلبات اللجوء للمهاجرين الذين دخلوا ليتوانيا بشكل غير قانوني من بيلاروسيا ومن بين 3272 طلبًا، مُنح 54 أجنبيًا حق اللجوء فقط.
حصلت على صور ولقطات من داخل مراكز الاحتجاز تظهر الأسوار العالية لمنع الهروب مبانى مكونة من عدة طوابق، وكل طابق يحتوى على ممرات وتتراص الغرف التى يكون لكل منها أبواب حديدة مُحكمة الغلق لكن ما لفت نظرى أكثر الأوراق المعلقة على الجدران بعدة لغات منها العربية، أغلبها تحتوى على رسائل صريحة مفادها أن الذين لم يتقدموا بطلب لجوء فور وصوله لن يكون له الحق فى البقاء داخل ليتوانيا أو التوجه لأى بلد أوروبى آخر، وأن خيار العودة لوطنك الأم متاح فى أى وقت، وإذا لم تكن موافق على العودة إلى بلدك سيتم إرسالك قسرا.
مع وجود تلك الرسائل معلقة على الجدران، يسعى طالبو اللجوء إلى الحصول على المشورة القانونية، لكنهم يصطدموا بنقص عدد المحاميين المتخصصين فى هذا الشأن داخل ليتوانيان وذلك وفقا ما رواه لىّ عدد من طالبى اللجوء وأيضًا النشطاء الذين قابلتهم خلال رحلتى، لذا يسعون إلى التواصل مع الصليب الأحمر الليتوانى.
بخلاف السؤال عن كيفية مساعدة الصليب الأحمر الليتوانى طالبى اللجوء من الناحية القانونية، كان لدى العديد من الاستفسارات أخرى متعلقة بالوضع على الحدود، وهل هناك عراقيل تمنع عملهم، لذا تواصلت مع المكتب الإعلامي، وطلبوا منى إرسال كل استفساراتي لكن لم أتلقى أى ردود منهم حتى الآن!
هنا أرض الأحلام
من ليتوانيا سافرت إلى العاصمة الألمانية برلين أو أرض الأحلام بالنسبة للمهاجرين، وهناك صادفت واحدة من القصص التي تساهم بشكل أو آخر في تشبث مئات الآلاف في أمل نجاح مخططهم للهجرة.
الحكاية بطلتها شابة سورية اجتازت الحدود البيلاروسية البولندية بعد 5 أيام قضتها في الغابات برفقة مجموعة أخري جاءت من سوريا، وقد قطعت الشابة كل هذه المسافة من أجل اللحاق بزوجها الذى وصل إلى ألمانيا في موجة الهجرة عام 2015، ويعمل كسائق في برلين حاليا.
يحكى الزوج قصة وصول زوجته قائلاً :"لقد سافرت إلى بولندا واقتربت من الحدود عندما حان موعد وصول زوجتى، وكنت أخشى عليها بعدما لم تتمكن من العبور لمدة أيام، وقد اتخذت قرارا بعبور الحدود والانضمام إلى المهاجرين للعثور عليها لكنها نجحت أخيرا في العبور واجتمعنا سويا بعد سنوات من البعاد".
هذه الشابة واحدة من ضمن 11 ألف مهاجر وصلوا بشكل غير قانونى إلى ألمانيا خلال عام 2021، وقد كانت حالات الدخول عبر بوابة بيلاروسيا وفقا للإحصاءات الرسمية، وبالتأكيد هذا الرقم يعطى الأمل للحالمين بالعثور على حياة آمنة بعيدة عن أهوال الحروب.
هذا الخبر منقول من اليوم السابع