- الشركات الأمريكية تنزف ملايين البراميل والوظائف.. وواشنطن قد تضطر إلى اللعب الأسود لإخراج بعض المنتجين من السوق
- سر تخفيض أسعار الوقود فى مصر بين صفر و3% فقط وليس 10% كما تنص ضوابط لجنة التسعير التلقائى ربع السنوية
- الوصول إلى محطة التعافى من الوباء يُعيد خلافات المنتجين والحلفاء للواجهة.. واحتمالات التلاعب والصدام وانتهاك الاتفاق أكبر من فرص الاستمرار وإنقاذ السوق
لا يُمكن التنبؤ فى الوقت الراهن بما ستصير عليه سوق النفط فى غضون الشهور المقبلة. يبدو الموقف مرتبكا مع اختلال فادح فى مؤشرات العرض والطلب، واحتياجات مُلحّة تضغط على المُنتجين والشركات الرائدة بالقطاع، فضلا عن آثار المخاوف المستقبلية المرتبطة بآليات التجارة وتداول السلع والخدمات فى مرحلة ما بعد وباء كورونا المستجد "كوفيد 19".
الأسابيع الأخيرة شهدت ارتباكا عميقا فى سوق النفط، كان مدفوعا بحالة الإغلاق الكامل أو الجزئى فى عشرات البلدان، وتقلص الطلب على الطاقة مقابل معروض ضخم، فضلا عن مخاوف المستثمرين مما يُمكن أن تتسبب فيه تلك الحالة من تشوه هيكلى فى معادلة التوازن الضامنة للجدوى، والأخطر ما أنتجته تلك الحالة من أضرار مباشرة للشركات والمنتجين الكبار، بصورة قد تُعطل قدراتهم على التعافى الشخصى، أو مساندة الاقتصاد العالمى فى رحلة بحثه عن التعافى بعد انقضاء المحنة.
عجزت منظمة الدول المنتجة للنفط "أوبك"، وحلفاؤها من غير الأعضاء، عن التوصل إلى اتفاق جاد يضمن تجفيف الفوائض الضخمة واستعادة قدر من توازن العرض والطلب، وظلت الصورة لأسابيع رمادية وباعثة على مزيد من القلق. المفارقة أن تجاوز الاختلافات السابقة بين اللاعبين ونجاحهم فى التوصل إلى اتفاق مؤخرا لم يدفع الأمور إلى حيز أفضل مما كانت عليه، حتى مع تعافى الأسعار نسبيا واحتمال امتداد تلك النقاهة، إذ ما تزال الأوضاع مُقلقة فى ظل انكشاف على خلل حقيقى لمنظومة الإنتاج، وتوقعات سلبية بألا يكون انتهاء الوباء أو تحجيمه بداية حقيقية لاستعادة كفاءة السوق أو العودة بها إلى الرشد. أقرب الاحتمالات أن الأمور قد تمضى على هذا السوء شهورا، ومع تحسن الأجواء الاقتصادية العامة فإنها ستكون على موعد مع واقع مغاير، لكنه ليس أقل سوءا للأسف!
صداقة اضطرارية وعداء مؤجل
جاء اتفاق "أوبك +" الأخير ليقلص وتيرة الصراع بين الدول المُنتجة، ويُلطف حرارة الأزمة التى تعيشها أسواق النفط. لكن حتى القرار الإيجابى الذى توصل إليه المجتمعون مساء الأحد، بتخفيض الإنتاج نحو 20% من المعروض الحالى، لا يُمكن التعامل معه باعتباره حلا نهائيا للأزمة، أو مسارا دائما لإقالة سوق النفط من عثراتها المحتملة.
وزير الطاقة السعودى الأمير عبد العزيز بن سلمان، قال لـ"رويترز" إن الخفض الفعلى وفق قرار أوبك وحلفائها سيؤول إلى 12.5 مليون برميل يوميا، بسبب ارتفاع إنتاج السعودية والإمارات والكويت خلال أبريل، وأشارت مصادر إلى أن التخفيضات الفعلية للأعضاء والدول من خارج التحالف قد تصل إلى 20%، بينما غرّد وزير النفط الكويتى خالد الفاضل قائلا إن الاتفاق نص على "خفض ما يقارب 10 ملايين برميل يوميا ابتداء من أول مايو"، ونقلت الوكالة الأمريكية عن مصادر أن اتفاق "أوبك +" يقضى بخفض 9.7 مليون برميل.
فى المقابل بلغت مستويات تراجع الطلب نحو 30% خلال الأسابيع الأخيرة، وتوقع بنك جولدمان ساكس أن تشهد الأسواق تراجعا إضافيا خلال الشهور المقبلة، بما يتراوح بين 19 و25%. تلك المؤشرات تعنى أن السوق فقدت طلبا بأكثر من 30 مليون برميل يوميا، وتتجه إلى فقد آخر متوسطه 20 مليونا، ورغم ذلك لم تتعاف الأسعار أو تهدأ وتيرة الانهيار، وحتى بعد القرار الاستثنائى لنحو 24 مُنتجا عالميا بارزا فإن الأسواق افتتحت تعاملات الاثنين عند 22.8 دولار للبرميل بانخفاض يتجاوز 1.7% عن إغلاق الأحد.
حالة الشحن التى سبقت الاتفاق ربما تُشير إلى صداقة اضطرارية أُجبر عليها المنتجون، ودفعته مُجبرين إلى تأجيل العداء والخلافات، لكن استدامة تلك الحالة من التوافق الهش مرهون بتعافى الأسواق، والخروج من الأزمة الضاغطة لموارد وميزانيات دول عديدة فى سياق مأزوم يتطلب مزيدا من التمويلات المالية. تلك الوضعية تُرجح أن تعود السوق إلى الاشتعال حال امتد مدى الأزمة، أو استشعرت بعض الأطراف أنها أكثر تضررا من الآخرين.
نزيف قاتل لآبار النفط
حتى ديسمبر الماضى كان السوق بحالة متوازنة. بدأ النفط الشهر عند 60 دولارا للبرميل واختتمه بمستوى 66 دولارا، ولم يخسر سوى نحو 8 دولارات فى الشهر التالى الذى أنهاه بمتوسط تسعير 58 دولارا، لكن وتيرة التراجع بدأت مع تفجر الوباء وخروجه عن السيطرة عالميا، لتهبط الأسعار إلى 50 دولارا بنهاية فبراير، ثم 34 دولارا بحلول التاسع من مارس، لتبدأ أبريل عند مستوى 24 دولارا للبرميل.
مع بروز أولى ملامح الأزمة دعت السعودية والولايات المتحدة ودول أخرى إلى تقليص الإنتاج، لكن روسيا وبعض الأطراف أبدت اعتراضها. تطور الأمر مع قرار المملكة تعزيز إنتاج "أرامكو" الحكومية بنحو 3 ملايين برميل يوميا، مع تخفيض أسعار النفط السعودى 8 دولارات للبرميل. بدا الأمر أقرب إلى صراع ديوك أو عض متبادل للأصابع، راهنت الرياض، فيه أكبر مصدرى النفط فى العالم، على قدراتها الإنتاجية ووفرتها المالية، ومن جانبه قال وزير الطاقة الروسى ألكسندر نوفاك، إن بلاده يُمكنها احتمال تلك الأوضاع والتكيف مع مستويات أسعار تحت 20 دولارا للبرميل لنحو ست أو عشر سنوات، لكن فى المقابل كانت هناك أطراف أخرى تنزف بصورة قاتلة!
ما تزال الولايات المتحدة الأمريكية المنتج الأكبر عالميا وفق مستويات الأرقام المُجردة، لكن النسبة الأكبر من تدفقاتها تتولد عبر شركات النفط الصخرى، وهى آلية أكثر كُلفة وتشغيلا من عمليات الإنتاج العادية. وفق خبراء فإن تلك الشركات لا يُمكنها العمل والحفاظ على الجدوى التشغيلية والوظائف ما دامت الأسعار دون مستوى 55 دولارا للبرميل، وبالفعل فقد توقفت كثير منها أو قلصت أعمالها، ولأن ضغوط "كوفيد 19" الاقتصادية تطال واشنطن كما تؤثر على غيرها، فإن العملاق الأمريكى يقع مثل الآخرين تحت ضغط الاحتياجات العاجلة لتوفير موارد مالية وضخ حزم إنعاش والإبقاء على السوق آمنة من الأضرار بقدر الإمكان. لذا فإنه رقم التفاؤل الأخير بقرار "أوبك +" قد لا تبدو الصورة مُشرقة فى عين البيت الأبيض!
مخاطر مُحتملة وألعاب سوداء
وفق مقررات الاتفاق الأخير فإن حزمة التخفيض المتفق عليها ستتقلص تباعا بين 2020 و2022. لكن حال تأخرت مؤشرات تعافى الأسواق وعودة الطلب إلى مستوياته السابقة، أو نموّه بوتيرة سريعة التصاعد، فإن الأمر لن يكون مُجديا، وهنا قد تُغادر بعض الأطراف حيز التوافق سعيا إلى تحقيق أكبر عوائد مالية مُمكنة، ولو تطلب الأمر مزيدا من النزيف التشغيلى والإنتاجى، لكن بالنسبة للولايات المتحدة فإن معادلة الوفرة والمُزاحمة على الطلب المحدود بإنتاج كثيف ورخيص لن تكون فعالة بالمرة، لذا فإنها أمام مأزقها الممتد وتحدياتها الداخلية قد تلجأ إلى الألعاب السوداء، بالضغط على كبار المُنتجين، أو إشعال توترات سياسية واقتصادية لإخراج بعض اللاعبين من السوق. هذا الاحتمال قد يُلقى بظلال من الخطر على إيران أو فنزويلا، وقد يمتد إلى مزيد من العقوبات على قطاع النفط الروسى، كما حدث من قبل بحزمة إجراءات مشددة ضد "روس نفت"، وبالضرورة سينعكس على السوق بكاملها!
سيناريوهات الخطر لا تتوقف على استطالة فترة الوباء أو العجز عن إيقافه تماما. حتى مع افتراض إمكانية الخروج الكامل من المحنة فى غضون شهور، فمن غير المتوقع أن يتعافى الطلب على النفط سريعا. كثير من القدرات الإنتاجية ستظل مُعطلة لفترات إضافية، وحالة التوجس ستلقى بظلالها على التجار والمستثمرين، مع تأثيرات التراجع فى الإنفاق الاستهلاكى وحركة النقل ومخاوف البشر من الانتقال الحر واستعادة أنماط المعيشة المعتادة، وهو الأمر الذى قد يبقى معهم شهورا أخرى طويلة، ليُبقى على اختناق سوق الطاقة لفترات قد لا تقل عن فترة نشاط الوباء!
مبدئيا يُمكن توقع أن يُسفر القرار الأخير، حال التزام كل الأطراف بآليات التطبيق الصارم والنزيه لكل بنوده، فى إنعاش السوق نسبيا مع عرض مُتزن وطلب مُرشح للتصاعد جزئيا، بعدما تتجه بعض البلدان إلى تخفيف حالة الإغلاق واستعادة جانب من الحياة الطبيعية. تلك الوضعية قد تسمح للنفط بإنهاء تعاملات 2020 عند مستوى 40 دولارا أو أكثر قليلا، وربما يتطور الأمر إيجابيا مع ربيع العام المقبل والاقتراب من حصار الوباء بالمناعة أو بالأدوية واللقاحات.
لكن تلك المحطة ستُعيد الأوضاع إلى منطقة متقدمة من عُمر الأزمة، إذ إن متطلبات التعافى التى ستدفع المستهلكين إلى تغذية الطلب بنمو إضافى، هى نفسها المتطلبات التى ستدفع المُنتجين للتفتيش عن مزيد من الموارد المالية لتعويض خسائر الأزمة، خاصة مع كُلفة الإغلاق وتقليص الإنتاج وحزم الإنعاش وفواقد التشغيل والضرائب والتجارة والسياحة والخدمات. هنا قد يتقوض اتفاق "أوبك +" أو يشهد خروقات من بعض الأطراف طمعا فى مزيد من العوائد. الخطر ليس فى تعمق الصراعات فقط أو اصطدام أعضاء المنظمة وحلفائها، وإنما الأخطر أن السوق ستعود إلى اختلالات العرض والطلب مرة أخرى.
أسعار الوقود فى مصر
خريطة الاحتمالات المُعقدة بشأن مستقبل غامض يكتنف أسواق الطاقة، ستُلقى بظلالها على الجميع، لكنها قد تكون أكثر انعكاسا ووضوحا لدى الاقتصادات النامية. فى مرحلة النقاهة لن يكون بمقدور المؤسسات المالية الدولية، ولا الدول المانحة، الاستجابة لكل المطالب وتدبير حزم مُساندة جادة وعاجلة، ما يجعل بعض الأسواق عُرضة للآثار الارتدادية لزلازل "أوبك" وحلفائها.
فى مصر على سبيل المثال حددت الدولة سعر برميل النفط الاسترشادى عند 61 دولارا بموازنة 2020/ 2021. قد يبدو أن البقاء دون هذا المستوى يُخرجنا تماما من احتمالات التأثر وتداعيات الأزمة، لكن على العكس من ذلك فإن السوق التى خسرت حصة كبيرة من قدراتها الإنتاجية، ومن موارد النقد الأجنبى ممثلة فى السياحة والصادرات وقناة السويس وتحويلات المغتربين، تحتاج لأن تظل سوق الطاقة قريبة من مستوياتها الحالية، بما يسمح بتحميل تكلفة النقل والتكرير والتسويق على سعر المُنتج، ويُعوض حزمة التنشيط التى تجاوزت 100 مليار جنيه لإدارة أزمة الوباء ودعم الاقتصاد وسوق المال وتعزيز الرعاية الاجتماعية، فضلا عن تجنب تأثيرات سوق الصرف حال شهدت أى ارتباك طارئ.
إذا نجحت آليات أوبك وحلفائها فى استعادة التوازن، وقفز النفط إلى مستوى 60 دولارا بحلول نهاية العام أو ربيع 2021، فإن الموازنة المصرية ستقع تحت ضغط مباشر. ربما فى ضوء تلك الوضعية ستلجأ الدولة إلى إدارة ملف الطاقة بآليات أكثر يقظة وجاهزية، مع الإبقاء على فوائض تضمن لها هامشا أكبر من حرية الحركة والمناورة، وهو الأمر الذى بدا واضحا فى أحدث قرارات لجنة التسعير التلقائى للوقود قبل أيام.
توقع البعض قبل صدور القرارات أن يكون التخفيض بنسبة 10%، إذ تنص ضوابط عمل اللجنة على ألا يتجاوز هامش التحريك تلك النسبة صعودا أو هبوطا فى المرة الواحدة، وقاسوا الأمر على خسارة أسعار النفط قرابة 200% من مستوياتها القائمة وقتما اجتمعت اللجنة لآخر مرة فى يناير الماضى، لكن حقيقة الصورة أن تلك الخسارة الضخمة حدثت خلال الأسابيع الأخيرة، بينما يُدار الأمر بآلية مُختلفة، تشمل سعر الخام ومؤشرات الصرف وتكاليف النقل والتكرير والتسويق، ويتحدد سعر الخام عبر مجموع متوسطات التسعير الأسبوعية طول الشهور الثلاثة وصولا إلى متوسط عام. وفق تلك الآلية لا يتجاوز التراجع 10 أو 15%، مع تنامى المخاوف بشأن الاضطرابات المستقبلية قصيرة ومتوسطة المدى، كما أن العقود الآجلة لا تتجاوز شهرين، ما يعنى أن تدفقات أبريل الذى شهد أكبر تراجعات الخام ربما أُبرمت بأسعار فبراير التى كانت فوق مستوى 50 دولارا للبرميل.
فى ضوء تلك الصورة المُغايرة لما قد يتصوره البعض، فإن معدلات التغير فى كُلفة المُنتج النهائى كانت طفيفة، أو غير موجودة من الأساس، لكن اللجنة اتجهت إلى تقليص أسعار البنزين بين 2.8 و3%، مع الإبقاء على سعر السولار بدون تغيير. ومن المرشح أن تظل الأسعار فى هذا المستوى خلال الربعين المقبلين، وربما تعود إلى مستوياتها السابقة أو تتجه للصعود قبل نهاية العام الجارى، حال كانت حققت قرارات "أوبك +" الآثار المرجوة من أعضاء المنظمة والحلفاء من خارجها. هذه الصورة تعنى أن تعافى بعض الأطراف سيضغط على آخرين، وأن محاولة الاقتصادات الناشئة تعويض خسائرها سيتسبب فى استمرار تقلص الطلب على النفط. الدائرة تبدو مُغلقة ومن الصعب التوفيق بين مصالح كل الأطراف!
أخطر ما فى الأزمة أن تضرر سوق الطاقة لفترات طويلة قد يُنتج تشوهات تمتد آثارها لسنوات. وبالتبعية ستخلق تداعيات تلك الحالة سحابة من الشك وانعدام الثقة بين المنتجين وبعضهم، وبينهم وبين الأسواق المولدة للطلب. ربما يكون بمقدور المتحكمين فى سوق النفط اتخاذ مسارات تستعيد قدرا من التعافى، لكن ضغوط تلك الإجراءات قد تدفع المستهلكين إلى مسارات أخرى لا تقل حدة، عبر إجراءات وتدابير فوق طبيعية فيما يخص الإنتاج والتجارة وتداول السلع والخدمات وحركة النقل والسفر، وبالضرورة ستتوزع المخاطر والأضرار على كل الأطراف مرة أخرى.
ويبدو أن سوق النفط قد أصبحت فى الأزمة الراهنة مُعادلا مباشرا لمناخ التوجس والغموض، وأمام تلك الحالة التى لا يُمكن قراءتها والتنبؤ بها على وجه كامل ومقطوع بصحته، تحولت براميل النفط إلى مرايا مستوية، يرى فيها كل شخص انعكاسا لوجهه وما يبدو على ملامحه من مشاعر وانفعالات، وباختصار فإن الجميع، سواء كانوا مُنتجين أو مُستهلكين، سيرون على صفحة تلك المرآة ما يضعونه على وجوههم وسياساتهم من مكياج أو بُقع وتصبّغات، وسيظلون على حالة التطلع للمستقبل الغامض، بينما يكتبون تفاصيله الباردة أو حادة الاشتعال، بما يقررون من مواقف وما يتخذون من إجراءات وتدابير.
هذا الخبر منقول من اليوم السابع