في زوايا التاريخ المشرقة، تُسجل أسماء أعظم الأفراد الذين تركوا بصمات لا تُنسى عبر العصور، مما يطرح تساؤلاً جوهريًا: من يا تُرى يخلده التاريخ؟ هل هم الأغنياء الذين شيدوا قصورا وكدّسوا ثروات؟ أم هم الحكام الذين قادوا الشعوب بقوة السلطة وسلطة الجبروت؟ أم أن الخلود الحقيقي محصورٌ في أولئك المبدعين الذين أهدوا البشرية أفكارًا وفنونًا تتجاوز حدود الزمان والمكان؟
الإجابة عن هذا السؤال تظهر جلية أثناء التأمل في الوقائع والأحداث؛ فالتاريخ يميل دائمًا إلى المبدعين، الذين تمكنوا من أن يجعلوا من أفكارهم وأرواحهم سبيلًا لبقاء أعمالهم دائمة نابضة بالحياة، تلهم الأجيال وتعيد صياغة الواقع. فبينما يتلاشى أصحاب المال والسلطة في زوايا النسيان، تظل إبداعات المبدعين مصابيح تُضيء الطريق للبشرية.
لنستعرض مثال اليونان القديمة، ذلك المهد الجليل للفلسفة والفكر. ففي هذا العصر الذهبي، يبرز سقراط، الحكيم الفيلسوف الذي طرح أسئلة عميقة حول الأخلاق والمعرفة تاركًا لنا إرثًا فلسفيًا غنيًا. وأفلاطون، تلميذ سقراط، الذي أسس أكاديميته الشهيرة ودوّن رؤيته للمدينة الفاضلة في عمله الشهير "الجمهورية". هذان الفيلسوفان، برؤاهما العميقة، مثَّلا رمزي تلك الفترة، بينما يغيب عن الذاكرة ذكر الحاكم الذي سيطر على أثينا لوقت قصير. فخلود أفكار سقراط وأفلاطون لم يحتج إلى ثروة أو عرش، لقد استحقا الخلود من عمق أفكارهما وإبداعهما.
وفي عالم الأدب العربي، يخبرنا التاريخ أن المتنبي يُعدّ أحد أبرز رموز الإبداع. من خلال عبقريته الفائقة، استطاع أن يخلّد شخصية كافور الإخشيدي، حاكم مصر، ليس بعظمته أو إنجازاته السياسية، بل بقدرة المتنبي الفائقة على تصوير كافور: مادحا له أو ذاما إياه كرمز خالد يُناقش ويُستشهد به في مجال الأدب، حيث جعل منه محط أنظار قراء الأدب ونقاده. فلولا المتنبي، لربما اندثرت ذكرى كافور كما فعل الزمن مع العديد من ملوك وأمراء عصره.
وعندما نتحدث عن الأدب والشعر، يتجلى اسم "أبو نواس" كأحد الشعراء الذين أسهموا بشكل عميق في تطور الأدب العربي. فقد أحدثت قصائده الجريئة تعديلات نوعية في الأسلوب والمضمون، مما جعله رمزًا للأدب الخالد. وعلى الرغم من أن عصره شهد حكامًا وأثرياء كانوا يعيشون في ترفٍ وبذخ، إلا أن إبداع أبو نواس، على ما عانى في حياته، وابتكاراته اللغوية جعلته يتجاوز تلك الزعامة المالية والسياسية ويظل خالداً في ذاكرة التاريخ.
ولا يمكن أن نغفل عن ابن سينا، أحد أعظم العلماء والفلاسفة في التاريخ. فرغم أن عصره لم يكن خاليًا من الحكام والأثرياء الذين سعوا للسلطة والمال، فإن إرث ابن سينا في مجالات الطب والفلسفة قد تجاوز حدود العالم العربي والإسلامي ليصل إلى الفكر الغربي. إن إسهاماته لم تكن مجرد أفكارٍ نظرية، بل أسست لفهمٍ جديدٍ للإنسان والكون. وهكذا، تظل أسماء أبو نواس وابن سينا وغيرهما من المبدعين هي التي تُخلّد عبر الزمن، بينما يتلاشى ذكر أولئك الحكام والأثرياء في طي النسيان، لأن الإبداع وحده هو الذي يحقق الخلود.
أما في إنجلترا، فيظهر وليم شكسبير كأبرز رمز أدبي، ذلك الأديب الذي قدّم أعمالًا خالدة مثل "هاملت" و"روميو وجولييت". فلقد أصبح شكسبير اسمًا عالميًا يملأ الآفاق ويُدرَّس في كل مكان. من يتذكر حاكم إنجلترا في زمن شكسبير؟ لا أحد، لكن أعمال الأديب الفذ ما زالت وستظل تُعرض في المسارح حول العالم، شاهدةً على عبقريته وخلوده.
وفي أوروبا، عصر النهضة، كانت أسماء مثل ليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو أكبر من أسماء حكام إيطاليا ونبلائها. فقد أبدع دافنشي، العبقري متعدد المواهب، في العلوم والفنون، تاركًا للبشرية إرثًا لا يُضاهى. أما مايكل أنجلو، فكان له بصمة خالدة على سقف كنيسة سيستينا وتماثيله التي لا تزال شاهدة على عبقريته.
إن كثيرا من المبدعين عاشوا غالبًا في فقرٍ وشقاء، لكن أعمالهم تجاوزت الزمن، في حين تلاشت أسماء النبلاء والأثرياء في طي النسيان.
ففي هولندا، كان فينسنت فان جوخ يعيش في فقرٍ مدقع، يعاني العزلة والألم النفسي، غير أن أعماله الفنية، مثل "ليلة النجوم"، أصبحت رمزًا للعبقرية الفنية، وبلغت قيمتها ما لم يكن يتخيله في حياته. أما أسماء حكام هولندا وأثريائها الذين عاصروه، فقد تلاشت من ذاكرة الزمن.
ونستمر في البرهنة على ما نذهب إليه من أن الخلود يكون فقط من نصيب المواهب فإذا عدنا إلى الشرق، نجد أبو العلاء المعري، الشاعر الذي عاش حياة الزهد والفقر، لكن فكره وأدبه أغنيا الإنسانية. فقدْ فَقَدَ المعري بصره صغيرًا، لكنه كان بصيرًا بالحياة ومعناها، وترَك لنا إرثًا فكريًا وأدبيًا خالدًا. ففي "رسالة الغفران"، فتح المعري آفاقًا جديدة للأدب، وألهم أجيالًا من المبدعين. إن أبياته، التي تمزج بين الحكمة والتأمل العميق، مثل:
"هذا جناه أبي عليَّ وما جنيتُ على أحد"،
تظل شاهدة على عمق معاناته وإبداعه.
وفي العصر الحديث، نجد أن أسماء المبدعين تتصدر المشهد. فعلى الرغم من قرب أحمد شوقي، أمير الشعراء، من البلاط الملكي وحياته الرغيدة، فإن الذي خلده هو عبقريته الشعرية التي جعلت من شعره أداة للتعبير عن هموم الوطن والأمة، متجاوزًا حدود القصور التي عاش فيها. كذلك، كان جبران خليل جبران هو الذي حمل فكر الشرق إلى الغرب، وطه حسين الذي فتح أبواب الفكر والتنوير أمام الأجيال، والعقاد الذي أرسى منهج النقد الأدبي الحديث بأسلوبه الفذ، ونجيب محفوظ، الحائز على جائزة نوبل للأدب، الذي قدّم صورة حية للمجتمع المصري، جميعهم تركوا بصمة لا تُمحى رغم اختلاف ظروف حياتهم.
أما في الغرب، فقد كان الشاعر ت. س. إليوت، الذي عبّر في أعماله عن أزمات الإنسان الحديث، أيقونة أدبية لا تزال أعماله تُدرّس وتُناقش، في حين تلاشت المؤسسات الاقتصادية الكبرى التي عاصرها من الذاكرة.
ولا يمكننا، ونحن نذكر المواهب التي خُلِّدَتْ أن تجاهل أسماء مثل رابندرانات طاغور، شاعر الهند العظيم، الذي غنّى للحرية والإنسانية، وتولستوي وديستويفسكي في روسيا، اللذين أبحرا في أعماق النفس البشرية وكتبا أعظم الروايات التي لا تزال نابضة بالحياة.
إن الحقيقة الواضحة هي أن المال والسلطة يزولان، ولا يبقى في النهاية سوى الإبداع. فلقد عاش غالبية المبدعين حياتهم في شقاءٍ وفقر، وبعضهم في يسر ورغد، لكن الذي خلدهم هو ما أبدعوا من إرثٍ خالدٍ للبشرية. فالمال قد يبني القصور، لكنه لا يخلّد ذكرى، أما الكلمة واللوحة والنغمة، فهي ما تجعل الإنسان خالدًا في ذاكرة الزمن. إن هذا هو سر الإبداع، وهذه هي رسالته الأبدية.
أخبار متعلقة :