بوابة صوت بلادى بأمريكا

سفن لا تستريح .. قصة قصيرة بقلم سمير لوبه

 
 
في ظلمة تمحو ملامح المكان ، كتلة بشرية سوداء  قابعة في كرسي ، تحاول العينان منها فك شفرة العتمة  فيزول العمى  ، في مكتبه بين كتبه الموسومة بعناوين شتى ، لم ينس سعيد هنداوي أول شعور بالغرور العذب يسري في دمه ؛  إذ يرى اسمه مطبوعا على غلاف ورقي بائس  ، بالنسبة إليه  كانت المرة الأولى في يوم بعيد من شهر مايو سنة ١٩٧٠ ، وعمره لم يتجاوز العشرين بعد  ،  إذ نشرت له أول قصة في الجريدة  فأسرع واشترى منها نسخا عديدة  ، وراح يعدو في الطرقات  يعلو صوت ضربات قلبه على صخب الشارع ، يود أن يخبر المارة  أنه كاتب تلك القصة  ، صار سجين ذلك الشعور الذي كلفه روحه ثمنا له ؛ يرافق فقط القلم ؛ فلم يجد في أثره صاحب  ،  الآن يتلاشى الشعور وهو يرمق تلك الكتب المسجاة على الأرفف  في أكفانها ، وعلى بعد ذراع منه يستلقي على الأوراق قلم خامد الأنفاس  مثل ميزاب حجري تملؤه أوراق شجر جافة  . أواه  ، كم خط ذلك القلم لغة عذبة في تعبيرها عن أرق المشاعر، وكم مزج بمداده  واقعا بخيال ، يفرد أصابعه تحتضن القلم الذي طالما غذاه بمداد من دمه  ، كل كلمة خطها به قد دفع ثمنها بعضا منه ، طوال رحلته كان  فقط القلم  رفيقا ، ينزوي على كرسيه وبين أنامله قلمه يحاول أن يخط  به على الأوراق كلمات  فلا يزرف القلم مدادا  ،  تفحص عيناه من خلف زجاج نظارته الغليظ  سن القلم ، يأمل أن يروي مداده أوراقا تشققت فتزهر ، يستعصي عليه الأمر يعيد الضغط بقوة ينكسر السن ، فإذا بلطمة تصافح خده  بقوة  ، يأتيه من أقصى دروب الذكريات عبق من غاب عنه في رحلته مع القلم  ، باتت الذكريات باهتة ، فقدت ألوانها تدريجيا ، تلمح عيناه دليل الهاتف المترب فيفرج صدره عن زفرة حارة ، يقلب صفحات استحالت لاصفرار، يبحث  فيها عن اسم قد يعينه الدليل على استدعائه من طيات النسيان ، يجد اسما كان وحده من شاركه أفراحه وأتراحه ،  تتماهى روحه مع الذكريات الباهتة  فتعود أحداثها حية يعيشها الآن ،  يستفيق من شروده ، للمرة الأولى في حياته يعتريه شعور لم يذق له طعما من قبل ، لم يعد ها هنا  ما  يقيده ‏، بعبارة أخرى لا يريد من الأقلام  شيئا بعد الآن ، يمد يده للهاتف ، ينفض ترابا تكدس على السماعة ، يغمس اصبعه في فتحات قرص دوار يديره ، ينتابه شعور صياد ينعشه الأمل ، فلم ينتظر وبلهفة متلعثما  : 
أستاذ  سعيد هنداوي موجود

أخبار متعلقة :