طوال سنوات ..
لم تنقطع زياراتنا لها, لفيض ما نلاقيه من كرم ضيافتها, ومعسول كلماتها التي دائمًا ما كنت أشعر بصدقها وكأنّني احد أبناؤها, رائحة الطّعام الشّهي لا تخلو من منزلها, إناء السّمن البلدي لا ينضب أبدًا وكأنّه ينضح من جوانبه ليل نهار, ويا حبّذا قطعة خبز ساخن تقطر سمنًا هو ما كان يجعلنا نلتف حولها أيّام الخبيز, أتذكّر يومًا أن قدّمت لي طعام غداء من الطّبيخ وقطعة من الجُّبن القديم, يا لها من وجبة يعقبها بعض اللحم( حدّثت نفسي) ونظرًا لما كنت أعانيه بعد جولة من اللعِب وما كانت عليه معِدتي من لهفة لسد احتياجاتها وقد سال لُعابي فيما هو قادم, التهمت طبق الطّبيخ حتى قارب على نهايته, قلقًا كعادتي في كل شيء, انتظرت حتّى تفرغ من حديثها على عتبة المنزل مع عديلة( اللتّاتة) كما كانوا يلقبونها نظرًا لطول حديثها وتنقّلها خلاله من موضوع لآخر, عن بعض مشاكلها وابنها الذي رفض أن يتقدّم لأي وظيفة حكوميّة ( إن فاتك الميري اتمرّغ في تُرابه) على رأي المثل, إلا أنه دائم الحديث عمّا تُدرّه الأعمال الحرّة, أخرى عن زوجة ابنها الأكبر( المصراوية) وتأفّفها من أعمال البيت خوفًا على نظافة مظهرها أو تقصّف أظافرها, للتّو قطعت حبل انتظاري مناديًا:
منابي من اللحم ياعمّة, ابتسمتْ وهي تخطو تجاهي: المهم, انت شبعت؟ نعم والحمد لله( أجبتها) شَعُرت بوخزة خجل احْمر لها وجهي, إذ لم يكن هناك من اللحم باقيًا
من طعام الأمس, إلا أنّها لم تجعلني افقد شهيّتي للطّعام وعودتي من حدائق يديها خائب الرجاء, ولمّا رأت منّي خيبة أمل, راحت تدس في يدي بعض النقود
- اشتري حاجه حلوة وانت مروّح
ساعات بعينها اذا ما حضر جدّي بعد انتهاء عمله, هدأت رياح المشاكسة, استقرت حركة الأقدام في أماكنها, تراجع ارتفاع الصوت كثيرًا, ربّما بسبب وجود مساحة
الهدوء التي اجتاحت المكان, وربما تعنيف جدّي لوالدي لتقاعسه في أداء عمل, وحديث عن قيمة العمل وأن الحاجة تلوي أعناق الرّجال, لاسيّما والضّعف منهم قد يُعاقر الخمر هربًا من تكالب الدين, أو أن يُحاول إنهاء حياته منتحرًا إذا ما اعتقد
في ذلك راحة له.
تحدّث أبي يوما عن زواجها صغيرة, كما جرت العادة في مثل هذه الأوقات, ابتسمت أمي بحديثها ساخرة: أنتَ أيضًا تزوّجتَ صغيرًا, أليس كذلك؟ لمعت عيناه هو الآخر بابتسامة لعِلمه ما ترمي إليه بكلماتها السّاخرة, وانّه أُرغم على الزواج خوفًا من تحمّل المسئولية, ولكنها أوامر جدّي التي لا يستطيع احد أن يحيد عنها وإلّا سقطت هيبته .
التف الجميع حول مائدة الطّعام, أصناف من الطّعام وقطعة من الجبن القديم, تذكّرت حينها عمّتي وما فعلت, كما تذكّرت حديث أبي عن كونها تشّبه جدّتي كثيرًا, نحيفة القوام, لها غمّازتين في الوجه, تتمتّع بنفس صِفاتها من الكرم والسّخاء, وكعادتي مندفعًا ناديت وسط ضحكات الجميع : منابي من اللحم أوّلًا يا جدّتي.
أخبار متعلقة :