هي نعمة ـ ويالها من نعمة كبيرة ــ أن يحوطنا ويشملنا الله بأفضاله بأن يكون بيننا من أجادوا فنون وصناعة السعادة والبهجة والفرحة والابتسامة ، لتجاوز أزمنة الجدب العاطفي والإنساني والرومانسي ، فضلًا عن العيش في أجواء زعل الطبيعة وتصاعد غضبها الكوني ، وكمان مواجهة نكد هبات زبانية الشر والتطرف والإرهاب والكراهية والقبح ، وليس ببعيد المعاناة في ظل مخاطر توالي كوارث الأوبئة وتحدياتها القدرية التي حطت وانتشرت على أرض المسكونة بتنوعات تزداد مخاطرها..
نعم ، نظل دومًا في احتياج لمن وهبهم الله القدرة والموهبة على جبر خواطر من عانوا الانكسار وعاشوا مرارات التصاغر أمام كبريات المحن ، فيبادر هؤلاء بزراعة بساتين للمرح وتشييد مساكن للبهجة وإقامة صروح للسعادة ، فلا تعود تلفحنا هبات صهد الحوادث الساخنة فيحيلونها لنسمات مرطبة بروعة إبداعاتهم المبلسمة المحيية لروح التفاؤل والتكيف التلقائي ، ومع خفة ظلهم وإشراقات ابتساماتهم يغسلون بمرحهم تعب النفوس ، ويعبدون بأدوارهم الإنسانية سُبل إعمال العقول ، فتنزاح عن القلوب بسخرياتهم جراح الإهانة والمهانة ووجع الملمات وألم سياط الإخفاق واشتعال حرائق الصدور المنهكة بالضحكة والغبطة والقفشة والنكتة في استراحات الرحابة المصرية وعلى شواطئ السلام الإنسانية البديعة بعد تطهيرها من عناكب المرارة وجراثيم وفيروسات الغضب والألم ..
نعم ، كانت " كوميديا الأستاذ " ، بل وأستاذ الأساتذة " فؤاد المهندس " كما أطلق عليه كل من أسعدهم وأزال غبرة الهم بصدق إبداعاته المبهجة هي كوميديا المصالحة مع النفس والناس وكل الدنيا بإشاعة الضحكات والابتسامات لتسكن بيوت المصريين ووطن الوجدان العربي ..
عن البدايات يحكي " المهندس " : " كنت طالبًا في كلية التجارة .. وذهبت للريحاني لإجراء حديث معه لمجلة الكلية وسعدت جدًا بلقائي معه .. وأتذكر أيضًا أن هناك مجموعة كبيرة من أصدقائي ذهبوا لمعهد الفنون المسرحية وذهبت معهم لإجراء امتحان الدخول .. ولكن لم يعجبني شكل الامتحان وأسلوب التعليم .. وشعرت أن فرصتي مع نجيب الريحاني .. وكان يجري في هذا الوقت بروفة في مسرحه .. ذهبت إليه وقلت ل" فلوميير " مدير مسرحه .. قول للأستاذ تلميذ يريد مقابلتك .. فقال بعد البروفة .. وبعد البروفة قلت لنجيب الريحاني إذا لم تقبلني تلميذًا عندك .. سأضطر للذهاب لمعهد التمثيل .. وقبلني .. عضوًا في فرقته .. ومن هذا التاريخ أصبحت علاقتي بنجيب الريحاني قوية جدًا .. وفي آخر سنة لي في الكلية أخرج نجيب الريحاني لي مسرحية من مسرحياته اسمها حكاية كل يوم .. وكان الريحاني يقول دائمًا إن معظم رواياتي هي قطعة من حياتي أو " مقصوصة " من حياتي ..
كان " الأستاذ " يكرر القول أنه العاشق لتقديم الفن للفن كما كان الأوائل العظام يرون ذلك ، فالفنانة الكبيرة " ماري منيب " كانت تحصل على عشرة قروش في الليلة وحينما زاد أجرها أصبح 12 قرشًا فرحت جدًا ، أنه في مسرحية " أنا وهو وهي " هذه المسرحية الرائعة بشهادة الجميع والتي استمتع بها الجمهور والتي استمرت شهورًا على خشبة المسرح وسجلها التليفزيون المصري كان أجري فيها 364 جنيهًا وهذا رقم أتفاءل به جدًا ، فبالفعل كنا نعمل من أجل الفن فقط .. ما الذي سأقدمه وبعدها مسرحية السكرتير الفني ثم أنا فين وانت فين .. حالة حب .. حواء الساعة 12 .. أنا وهي وسموه .. سيدتي الجميلة ..
كانت جميعها مسرحيات رائعة في زمن الثمانينات ، ولازال نجاحها قائمًا حتى تاريخه في كل مرة يتم إعادة بثها ، وظل " المهندس " في حالة بحث دائم عن نصوص جيدة لمواصلة مشوار إبداعاته الجماهيرية التاريخية الناجحة في تفجير الضحكات ..
تمضي الأيام ويدور الزمن ، وفي كل دورة تطرح آلته في كل حقبة من حقبه أجيالًا كثيرة تلمع وتتربع على القمم ولكنها مهما تنوعت وتعالت وتيرة نجاحاتها لا نجد فيها الطرح البديل لروعة إبداعات " المهندس " التي سكنت ذاكرة الوجدان العربي وصارت بعض روحه التي تبقى أبدًا محتفظة بتلآلؤها على مر الأزمنة !!
فؤاد المهندس .. هو من شارك بحماس ونجاح في بدايته في البرنامج الإذاعي الكوميدي الجماهيري الناجح " ساعة لقلبك " ، والبرنامج التوعوي والتربوي بصياغة " أحمد بهجت " الكاتب الساخر " كلمتين وبس " ..والدراما الإذاعية اليومية " عائلة مرزوق أفندي " وعلى هواء التليفزيون المصري هو صاحب " فوازير عمو فؤاد " على مدى عشرين عامًا والعديد من الإبداعات المسرحية والسينمائية قدمها بكل تميز على مدى نصف قرن ..
ولد فؤاد زكي المهندس في 6 سبتمبر 1924، نشأ في بيت معني بقدر العلم و دور الثقافة ، وكان حلم والده أن يكون " فؤاد " امتدادا له ، فهو عالم اللغة وعميد كلية دار العلوم السابق ووكيل المجمع ، أما شقيقته الكبرى فهي الإعلامية البارزة صفية المهندس ، والتي كان لها فضل تعرفه على الريحاني والذي حضر زفافها من صديقه الإعلامي " بابا شارو " فظل فؤاد ليلتها متتبعًا للريحاني الذي شعر بالاختناق من ملاحقته ، وقال له " يا ابني حرام عليك مش عارف أتنفس منك " ..
وقد واصل " المهندس " محاولاته الجادة للاقتراب من " الريحاني " آخر عامين له حين طلب منه إجراء حوار عام 1946 ، كما طلب منه أن يخرج مسرحية لطلبة كلية التجارة ، وبالفعل استجاب له الريحاني وكانت مسرحية " حكاية كل يوم " التي حصلت على كأس يوسف وهبي وكانت تقام للمرة الأولى ..
و في بداية المشوار لم يوافق والده بأن يكون ابنه فنانًا ، وفي محاولة لإرضائه عقب تخرجه التحق بالعمل موظفًا بإدارة رعاية الشباب بجامعة القاهرة ، لكنه لم يتحمل القيود التي فرضتها عليه الوظيفة ، خاصة وأنه كان يرغب في التفرغ للتمثيل ، وفي مرحلة تالية وافق والده على ممارسته التمثيل بعد أن شاهده على خشبة مسرح الجامعة قال " لم أكن أعرف أنني أنجبت فنانًا عظيمًا بهذا القدر " ..
كان المهندس يرى عبر مشواره الرائع أن مسرحه لابد وأن يعتمد على النص الجيد الذي يقدم كوميديا محبوكة أساسها البراعة والالتزام في وقت واحد ، ووجود المخرج الذي يتماهى مع أساسيات هذا النص ، واختيار دقيق للممثلين .. والاهتمام جدًا بالبروفات .. ويقول المهندس " أتذكر أن إحدى المسرحيات وهي سيدتي الجميلة استمرت البروفات حوالي 12 شهرًا ولم تقل بروفة أي مسرحية من المسرحيات التي قدمتها عن أربعة شهور ..
وقد ظل " المهندس يؤكد أن المسرح السياسي ليس لعبته ، وإن كان قد قدم مسرحية اسمها " ليه ليه " مأخوذة عن المسرح الإنجليزي why .. why وكانت انتقادًا لأمور سياسية كثيرة .. فكان واحد يكتب على الحوائط في الشوارع ليه ليه .. وبدأت الناس تقلق وتتكلم واستدعى الحاكم وكانت ملكة هذا الشخص .. وقال لها بسخرية ليه البلد جميلة ؟ ليه الأوتوبيسات فاضية ؟ .. وظل يسخر وينتقد كل الآوضاع غير الصحيحة في البلد فوضعته الملكة في السجن .. وعليه تخفت الملكة ورئيس الوزراء في زي مساجين ودخلوا السجن وسألت هذا الشخص لماذا تقول وتكتب هذه العبارات على الحوائط .. فهاجم الملكة فقررت الملكة أن يعيش هذا الشخص ملكًا لمدة معينة حتى يصلح ما لم نصلحه .. وانتهت المسألة بأن هذا المواطن لم يستطع أن يفعل شيئًا ..أكثر من الملكة .. وذلك لأن كل فرد في المجتمع لا يراعي إلا مصلحته فقط .. ووقعت الملكة في حب هذا الشخص " أنا " ولم تُعرض كثيرًا وسُحب ترخيص المسرحية وتوقفت !!
وعندما تم تكريم المهندس في مهرجان القاهرة السينمائي ستة 1999 ، كان له التعليق الموثر " لو كان أحد قطع جزءًا من جسدي بالسكين .. لم يكن سينزف دمًا كان سينزل من جسدي فرحة وسعادة .. ما حدث لي من تكريم شيء أفتخر به جدًا طوال حياتي .. وقد بكيت كثيرًا .. لأن التصفيق من القاعة كان غير عادي ولا أستطيع أن أقول أكثر ن التصفيق من القاعة كان غير عادي ولا أستطيع أن أقول أكثر من هذا ..
قال عنه الكاتب أحمد بهجت " إن فؤاد المهندس يخاطب الكبار ويتوجه إلى ضمائرهم في برنامجه الإذاعي الاجتماعي الناقد كلمتين وبس وهو يخاطب الأطفال ويتوجه إلى قلوبهم في برنامجه عمو فؤاد وكان يخاطب الأسرة من قبل في عائلة مرزوق أفندي .. أما مسرحه فهو مسرح فني راق يجلو صدأ القلوب بالضحك ولا يخرج من دائرة القيمة إلى كلمة تخدش الحياء أو تمس الذوق .. ويعتبر مسرحه قمة توهج العصر الذهبي للمسرح والضحكة من فؤاد المهندس تزلق على النفس مثلما ينزلق الزئبق على قطعة من الزجاج دون أن يترك أثرًا إنما هو ضحك يستدعي التفكير أو التعجب إو يدعو إلى إعادة النظر في سلوك المجتمع وتقاليده وقيمه وشخصياته .. " ..
وإذا كانت صناعة الكوميديا قد رافقت مشوار المهندس الفني على مدى مشواره الإبداعي ، كان الأمر في النهايات على العكس ، ففي سنواته الأخيرة كان قد بدأ يشعر بالحزن الشديد خاصة حين سجن ابنه محمد لمشاكل مع أحد البنوك ، وأيضًا تأثر كثيرًا لوفاة تلميذته سناء يونس والتي شاركته عروضا مسرحية ، وقبل 3 أشهر من وفاته كان قد رحل صديق عمره وشريك نجاحاته عبد المنعم مدبولي ، إلى جانب حريق غرفته ومقتنياته ، مما أثر على حالته النفسية ليرحل عن عالمنا في 26 سبتمبر 2006 تاركًا إرثًا فنيًا ممتدًا ، وقد سمح وزير الداخلية في الزمن المباركي لابنه بالخروج من السجن لحضور الجنازة والعزاء. .
أخبار متعلقة :